عناصر الخطبة
1/ عشر ذي الحجة أفضل أيام العام 2/ أجلُّ أعمال العشر 3/ اغتنام عشر ذي الحجة بالعمل الصالحاقتباس
فلكل بضاعة موسم لا يفوت، بل إن غالب التجار إنما يستفيد ويربح من أيام المواسم، هذا في أمور الدنيا وحطامها الزائل ومتاعها القليل الذي سرعان ما يزول ويتحول، ويكفي من الدنيا القليل، فملك كسرى تغني عنه كسرة، بل الرابح في دنياه من غادرها خفيف المحمل قليل ذات اليد، أما المقر الدائم والمستقر الذي لا يتغير فهنالك (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا)...
أما بعد: فإن خير الزاد تقوى الله تعالى، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والتسليم بقضائه وقدره، واستشعار قدرته وعظمته -جل جلاله-.
عباد الله: يستقبل المؤمنون عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام؛ ففي الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام". يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". رواه البخاري.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه العشر: أداء مناسك الحج، الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه، والحج أحد أركان الإسلام، شرعه الله تعالى وأوجبه لما فيه من خير العباد ومصلحتهم، ومن تأمل في شعائر الحج وحكمه التي يشتمل عليها رأى الحكم الباهرة، والعظات البالغة، والمقاصد النافعة، للفرد والمجتمع.
ففي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم، وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتهم وأفعالهم في زمان واحد، ومكان محدد، لا يتميز فيه قوم عن قوم: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة:199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو استُغِلَّ هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجبًا.
ومن حكم الحج وفوائده التي تظهر للمتأمل تذكر الدار الآخرة، فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميت يجرد من ثيابه، وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى، والميت يُغَسَّل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يُكَفَّن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضين لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يُبْعَث الناس ويساقون إلى الموقف: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَـالَمِينَ) [المطففين: 6]، إلى غير ذلك من الحكم والمقاصد والعبر التي تعظ وتذكر.
أما عن عشر ذي الحجة، هذه الأيام الفاضلة والموسم المبارك والأوقات الثمينة، فإن العاقل الحصيف يدرك أن المواسم قلَّما تتكرر، وأن للموسم فرصته التي قد تفوت على البطالين وأهل الكسل، أرأيتم -يا عباد الله- لو أن صاحب محل تجاري يبيع الملابس الجديدة، وإذا قرب العيد أغلق محله وتفرغ للبر والسفر، ماذا سيقول عنه الناس؟! ولو أن صاحب مكتبة وأدوات مدرسية يغلق متجره قبيل ابتداء العام الدراسي بأيام ولا يعود إلى افتتاحه إلا بعد بدء الدراسة بأسابيع، ماذا سيقول عنه الناس؟! وهل هو أهل للتجارة والمكاسب في عرف التجار؟!
ومثله لو أن صاحب مطعم لا يفتح مطعمه إلا وقت العصر ويغلقه قبل الليل. وقس على ذلك سائر المهن والتخصصات، فلكل بضاعة موسم لا يفوت، بل إن غالب التجار إنما يستفيد ويربح من أيام المواسم، هذا في أمور الدنيا وحطامها الزائل ومتاعها القليل الذي سرعان ما يزول ويتحول، ويكفي من الدنيا القليل، فملك كسرى تغني عنه كسرة، بل الرابح في دنياه من غادرها خفيف المحمل قليل ذات اليد، أما المقر الدائم والمستقر الذي لا يتغير فهنالك (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران:30]، (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [النبأ:40]، وكم هي جميلة وصية مؤمن آل فرعون لقومه حين وعظهم قائلاً كما ورد في القرآن الكريم: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر:39، 40].
فهنيئًا ثم هنيئًا لمن عزم على استغلال عشر ذي الحجة بالعمل الصالح وتحري الخير والإكثار من الذكر والدعاء وأداء القربات المشروعة؛ رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَـامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ) [المطففين:22-26].
عباد الله: في هذه العشر تشرع أنواع من العبادات الخاصة والمطلقة، ففي هذه العشر يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والتكبير والتحميد والتهليل، فربنا سبحانه يقول: (وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ) [الحج:28]، وقد فسرت بأنها أيام عشر ذي الحجة، وقد استحب العلماء كثرة الذكر في هذه العشر، فقد كان ابن عمر يخرج إلى السوق في العشر فيكبر ويكبر الناس بتكبيره. فيستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق وغيرها؛ إعلانًا بحمد الله، وشكرًا على نعمه: (وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة:185].
ومما يستحب دومًا صيام النوافل والصدقة وتلاوة القرآن، وفي مثل هذا الموسم المبارك يزداد فضلها وتتأكد مشروعيتها، والعمل الصالح في هذه العشر خير وأفضل من كثير من الأعمال العظيمة حتى الجهاد في سبيل الله، حين يبذل المسلم دمه في سبيل ربه فيقتل ويتعرض للجراحات والآلام، ويقف في تلك المواقف التي لا يتصدى لها إلا الأفذاذ من الرجال، ومع هذا فإن العمل الصالح في هذه العشر يفوق الجهاد في سبيل الله، إلا لمن خرج بنفسه وماله في الجهاد، فبذل ماله وأراق دمه وقتل في سبيل الله، فيا له من فضل وأجر لا يفوته إلا المحروم، فاللهم لا تحرمنا فضلك، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وخطايانا، واجعلنا من عبادك الأوابين المنيبين المسابقين إلى الجنات ورفيع الدرجات، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الخطبة الثانية:
ومن العبادات الجليلة التي تعمل في عشر ذي الحجة: ذبح الأضاحي تقربًا إلى الله -عز وجل-؛ لقوله سبحانه: (فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل؛ يقول سبحانه: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:34]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل". ويقول سبحانه: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج:36].
وذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء، وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها حتى ولو زاد عن قيمتها؛ وذلك لأن الذبح وإراقة الدم مقصود، فهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال سبحانه: (فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2]، وعليه عمل النبي –صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.
وللأضحية شروط لا بد من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنة، وقد بيَّن العلماء هذه العيوب مفصَّلة، ومن شروطها أن يكون الذبح في الوقت المحدد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر.
واعلموا -أيها المؤمنون- أنه يحرم على من عزم على الأضحية الأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا". رواه مسلم. وهذا الحكم خاص بمن سيضحي، أما من سيضحَّى عنه فلا يشمله هذا الحكم، فرب البيت الذي عزم على الأضحية هو الذي يحرم عليه مس شعره أو أظفاره دون أهله وعياله.
اللهم إنا نسألك من فضلك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم يسر للحجيج حجهم، وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا جميعًا من المقبولين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم