عناصر الخطبة
1/ما تمحوه التوبة من الذنوب 2/عظم كرم الله ورحمته 3/من فضائل التوبة وثمراتها 4/الإنسان بين وعد الله ووعيد الشيطان.اقتباس
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 70], هذا هو مصير الجرائم والجرائر والذنوب, مصيرها للتائب يوم القيامة أن تنتقل من ميزان السيئات؛ لتثقّل ميزانَ الحسنات, إنه كرم الكريم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: ها هو قد جاء من بعيد, جاء وقد تغشته الخطايا، وأثقلت كاهلَه الذنوب, اكتوى من نيرانها، وذاق من شقائها، وتقطع قلبه من آلامها, جاء يريد الخلاص؛ "يا رسول الله! أرأيتَ رجلًا عملَ الذُّنوبَ كلَّها, فلم يترُكْ منها شيئًا, وَهوَ مع ذلِكَ لم يترُكْ حاجَّةً ولا داجَّةً إلَّا أتاها, فَهَل لذلِكَ من توبةٍ؟, يرد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويسأله: "أليسَ قد أسلَمتَ؟", فيقول: أمَّا أَنا فأشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ, وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ", فيتحفه بالجواب له ولغيره: "نعَم، تَفعلُ الخيراتِ وتترُكَ السَّيِّئاتِ؛ فيَّجعلُهنَّ اللَّهُ لَكَ حسَناتٍ كُلَّهُنَّ", الرجل لا يصدق!؛ يُصدم من هول المفاجأة, فيطلب التأكيد ويقول: وغدراتي وفجراتي؟, فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "نعم", فلا يملك الرجل إلا أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فما زال يرددها حتى توارى".
الله أكبر من كل ذنب، من كل معصية، من كل شهوة، من كل شبهة، من كل شقاء وألم!؛ (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 70], هذا هو مصير الجرائم والجرائر والذنوب, مصيرها للتائب يوم القيامة أن تنتقل من ميزان السيئات؛ لتثقّل ميزانَ الحسنات, إنه كرم الكريم ورحمة الرحمن الرحيم.
يُكرم ويغفر ولا يبالي؛ "يا ابنَ آدمَ! إنَّكَ ما دعَوتَني ورجَوتَني؛ غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ! لو بلغَت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني؛ غفرتُ لَكَ ولا أبالي", إنها مَكرُماتُه على التائبين المنيبين, هؤلاء منزلتهم عند الله ليست كأي منزلة.
التائب هو الذي يفرح الله به إذا أقبل عليه, أشد من فرحة ذلك الرجلِ الذي فقد طعامَه وشرابَه وراحلتَه في صحراء قاحلة, ثم وجدها بعد أن يئس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ سَقَطَ علَى بَعِيرِهِ، وقدْ أضَلَّهُ في أرْضِ فَلاةٍ", فرحة الله بالتائب حين يقبل عليه, تتجاوز فرحة ذلك الرجل براحلته, وحين يفرح الله من أحد فلا تسل عن الأعطيات والهبات والمكرمات!.
التوابون هم أحباب الله؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222], وما لهم أن لا يحبهم الله وهم الذين طلقوا تخبط الشياطين؛ ليختاروا قرب المنان الكريم, هم الذين تركوا الدنيا وضيقَها وفناءَها إلى الآخرة وسعتَها وخلدَها, اختاروا إرادة الله، واتبعوا مرضاتَه؛ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].
ومن يختار رضا الله فليبشر بالسعد، وليوقن بالنعيم في الدنيا والآخرة؛ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 123، 124].
كيف لا يسعد التائب؟! والله -سبحانه- يسخر له حملة عرشه وملائكته يدعون له, ولمن صلح من أهله؛ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[غافر: 7 - 9].
إنه الفوز الأبدي، والفلاح السرمدي في الدنيا ثم الآخرة؛ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31].
كان إبراهيم بن أدهم من أبناء الملوك المترفين المنغمسين في ملذات الدنيا وشهواتها، ثم تاب الله عليه ورحل لطلب العلم, فأصابه شيء من الفقر والحاجة، فبينما هو في يوم ما يأكل كسرا من الخبز قد بلها بالماء، ثم استلقى على قفاه وقال لصاحبه: "يا أبا يوسف! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم؛ لجالدونا بالسيوف على ما نحن فيه من لذيذ العيش", إنه نعيمُ القربِ من الله, ولذةُ الإقبالِ عليه والإنابةِ إليه.
وها نحن في شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، شهر الإنابة والإقبال, رمضان أعظم فرصة لأن ننخلع من ربقة الذنوب والسيئات، وأن نسلك سبيل الخيرات والصالحات, رمضان أعظم فرصة لأن نكون في عداد التائبين المنيبين.
الدنيا قصيرة، والأجل محدود، والموت يأتي بغتة, هذه الدنيا التي كبلتنا وأسرتنا، يوما سنكتشف أنها ما كانت إلا مثل عشية أو ضحاها, فهل تستحق منا أن نضحي بالآخرة الخالدة من أجلها؟! أما آن لنا أن نستأصل الداء؟! ونجيب النداء؟!.
(قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 57 - 61].
أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
أما بعد: يا ابن آدم: من يوم أن أهبط الله أباك من الجنة، فأنت في هذه الدار يتجاذبك وعد ووعيد, وعيد من الشيطان قال فيه: "وعِزَّتِكَ يا ربِّ!, لَا أبْرَحُ أُغْوِي عبادَكَ مَا دَامَتْ أرْواحُهُمْ في أجسادِهمْ", ووعد من الله قال فيه: "وعزَّتِي وجلَالي, لَا أزالُ أغْفِرُ لَهم ما استغْفَرُونِي".
مسلسلات الإغواء لن تتوقف، وأبواب التوبة لن تغلق, والإنسان حر في اختياره، فكلا الطريقين متاح, وله مرتادوه وسالكوه, وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "كما لا يُجتَنى مِنَ الشَّوْكِ العِنَبُ، كذلكَ لا يَنْزِلُ الأَبْرَارُ مَنازِلَ الفُجَّارِ، فَاسْلُكُوا أَيَّ طَرِيقٍ شِئْتُمْ، فَأيُّ طَرِيقٍ سَلَكْتُمْ ورَدْتُمْ على أهلِهِ".
ونهاية الطريقين واضحة المعالم، بينة المشاهد, فأما المشهد الأول: فهو موصوف في قول الله -تعالى-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22].
وأما المشهد الثاني: فهو الذي قال الله فيه: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الزمر: 74 - 75].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم