عناصر الخطبة
1/اصطفى الله نبيه واختار له أصحابه 2/فضل أبي هريرة وبيان شيء من مناقبه 3/الرد على الطاعنين في أبي هريرة 4/قطوف من سيرة أبي هريرة 5/من عبادته وأخلاقه وبره بأمهاقتباس
وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتوثيقه له، وشهادة القرآن له. فهل يأتي اليوم من نسبه ممذوق وعرضه مفتوق، وعيشه ممحوق يطعن في أبي هريرة! هيهات والله أن ينالوا منه شيئاً، فوالله ما أبغض هؤلاء الأصحاب إلا كل منافق مرتاب وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب...
الخطبة الأولى:
اعلموا -عباد الله- أنّ من أكمل الناس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، من اصطفاه ربّ البريّة، ليكون هاديا للبشريّة -صلوات الله وسلامه عليه-، حيث امتن الله -عزّ وجلّ -علينا ببعثته، فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4], ثم أمرنا الله -عزّ وجلّ -بالاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وكما اختار الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة –رضي. ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة؛ فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".
عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء الكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين, ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
ولئن كان سفهاء الأحلام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة الفحول قد ملؤها مدحًا وثناءً، ونوروا سطورها ضياءً وسناءً، فما هؤلاء المحبين الموالين، إلاّ كما قال الشاعر:
هل يضر البحر أمسى زاخرًا *** أن رمى فيه غلامٌ بحجر
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تاريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه، لأنّه لا يجوز تسمية إنسان بأنّه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء، وإنّما هو عبد الله فقط، فسمّي بعبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والمشهور الأول، ورجّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين.
وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد، وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن أو عبد الله بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب، شريف المعدن والأصل خلافًا لمن قال: إنّه مجهول النسب. لكنه -رضي الله عنه- لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يسلم.
وسبب تكنيه بهذه الكنية سبب لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: "إنّما كنوني بأبي هريرة، لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ". ويقول أبو هريرة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة" [كم، صحيح].
وكان -رضي الله عنه- يفضِّل كنية النبي له، يقول: "لأن تكنوني بالذكر أحبّ إليَّ من أن تكنوني بالأنثى". وقد وقع في عدة مواضع من صحيح البخاري نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له بأبي هر.
وقد نشأ -رضي الله عنه- يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ثلاث سنين، ولا تناقض لأن السنين الثلاث المذكورة عند البخاري فُسِّرت بالملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث.
وقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهداية لقومه، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما قالوا له: يا رسول الله: إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها. فقال: "اللهم اهد دوسًا، وائت بهم" .
وأبو هريرة وإن كان مسلمًا حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه القولة، إلاّ أنّ الدعوة الكريمة تلحقه، لأنّ من معاني الهداية الثبات على معانيها لمن هو مسلم، والدخول في الإسلام لمن لم يسلم بعد.
وقد خصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه بالشرف قرناً لهم بقريش والأنصار؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية؛ إلاّ أن يكون مهاجرًا قرشيًّا أو أنصاريًّا أو دوسيًّا أو ثقفياً".
وأبو هريرة يماني كما أسلفنا يلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أخرج البخاري بسنده إلى عقبة بن عمرو أنّه قال: أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده نحو اليمن، فقال: "الإيمان يمانٍ هاهنا". وفيه أيضاً عن أبي هريرة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-يقول: "الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية".
وكلّ هذا المذكور -عباد الله- داخل في شرف العموم، أمّا شرف الخصوص فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- له وتوثيقه، فقد أخرج البخاريّ في التاريخ الكبير بسند رجاله ثقات أنّ زيد بن ثابت قال: دعا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة، وهذه الدعوة أخرجها مسلم عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله: ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين"، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وهكذا كان من علامات المؤمنين إذاً: حب أبي هريرة ببركة دعائه -صلى الله عليه وسلم- له، وشهادة القرآن له إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجلوس إليهم والصبر معهم, كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28], وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله, ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطعمهم ويتفقد أحوالهم؛ وفضلهم مشهور لا ينكر، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتوثيقه له، وشهادة القرآن له. فهل يأتي اليوم من نسبه ممذوق وعرضه مفتوق، وعيشه ممحوق؛ يطعن في أبي هريرة!, هيهات, والله أن ينالوا منه شيئاً، فوالله ما أبغض هؤلاء الأصحاب إلا كل منافق مرتاب وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب.
جعلني الله وإياكم من سجي الصحب الكرام، المتقربين بحبهم إلى الملك العلام.
الخطبة الثانية:
إن الحديث عن أبي هريرة هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين.
وأبو هريرة أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف, الذي ضرب فيه بسهم وافر؛ حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع، كما كان عبد الله بن عباس ترجمان القرآن ومفسره بلا مناطح.
ولم يكن -رضي الله عنه- يندفع للعلم وكثرة الرواية، ويتأخر عن العمل به كأهل الغواية، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد، وحسن السمت والتزهد، إذ العلم يهتف بالعمل، فإن استجاب وإلا ارتحل، كما يقول غير واحد من سلف هذه الأمة الصالحين.
وهذه قبسات مضيئة من سيره إلى الله -عز وجل- نستلهمها من زوامل أسفاره إلى الدار الآخرة:
أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا. ويقول هو عن مسلكه في كل ليل: "إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم وثلث أتذكر أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وكان -رضي الله عنه- يصوم الاثنين والخميس تطوعاً، وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وكان -رضي الله عنه- أماراً بالمعروف ونهاءً عن المنكر, إذا رأى رجلاً ذا مال كثير يوصيه بإخراج الزكاة ويحذره من مغبة منعها, فنراه يقول: "إياك وأخفاف الإبل، إياك وأظلاف الغنم"، ثم يقول للرجل إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا وكذا، ويسوق حديثاً وربما دخل إلى السوق على حين غفلة, فيرى الناس يغدون ويروحون وقد ألهتهم التجارة وتشاغلوا بالدنيا, فيوخز ضمائرهم بموعظة لطيفة وذكرى خفيفة، علهم يتذكرون وحتى لا ينسون، كما يروي الطبراني في الأوسط بسند حسن أن أبا هريرة مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال: "يا أهل السوق: ما أعجزكم! قالوا: وماذا يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم وأنتم هاهنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد"، فخرجوا سراعاً ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئاً يُقسم، فقال لهم أبو هريرة: "وما رأيتم في المسجد أحداً؟", قالوا: بلى، رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرؤون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: "ويحكم! فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-".
ومن أخلاق أبي هريرة العالية، التي بوأته المكانة السامية، كثرة برّه بأمه وملازمته إياها، فإنه -رضي الله عنه- لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "للعبد المملوك المصلح أجران" قال: "والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك". قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها.
ومن صور بره بأمه أنه تمنى إسلامها وحرص عليه حتى أسلمت وكان سبباً في إسلامها. أخرج مسلم عنه أنه قال: كنت أدعوا أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اهد أم أبي هريرة", فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً.
ومن بره بأمه أيضاً ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عنه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه تمرتين، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حجري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يا أبا هريرة لم رفعت هذا التمرة؟" فقلت: لأمي، فقال: "كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين" فأكلتها وأعطاني لها تمرتين.
ثم يأتي الآن من عسى أن يكون متخوماً وأمه تتضور جوعاً يطعن في أبي هريرة، ولم يقتصر -رضي الله عنه- في بره لأمه فحسب، بل تعدى إلى غيره. فوصل كرمه الضيفان وإعتاقه للعبيد وإحسانه للموالي وكفالته الأيتام، يروى أبو داود بسند صحيح عن الطفاوي قال: تثويث أبا هريرة بالمدينة، فلم أر رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد تشميراً ولا أقوم على ضيف منه.
وأعتق من ماله الأغر بن سليك المدني بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري الذي نزل الكوفة وصار من كبار محدثيها، وكانت له دار بالمدينة تصدق بها على مواليه إلى حسنات أخرى يضيق المقام عن عدها.
وكان -رضي الله عنه- إلى جانب هذا حريصاً على تربية أولاده، فقد ربى ابنه المحرر تربية علمية, جعلت كبار الرواة يحتاجون إليه ويروون عنه ما فاتهم من حديث أبيه كالشعبي والزهري، وكان يحمل ابنته على الزهد فيقول لها: "لا تلبسي الذهب، إني أخشى عليك اللهب، ولا تلبسي الحرير إني أخشى عليك الحريق"، ثم يأتي الآن من عسى أن تكون بنته تعرض في الشارع آخر أزياء باريس، يتناوش أبا هريرة هيهات والله.
هذا ولو استعرضنا تفاصيل سيرته المرضية لطال بنا المقام ولم تأت على ربع معشار منها، لكن حسب المؤمن أن يعرف أن الأصل إذا طاب طابت فروعه وأن القليل اليسير إذا كان مباركاً يدل على الخير الكثير، على حد قول الشاعر:
القليل منك يكفيني *** وقليلك لا يقال له قليل
فرحمة الله على أبي هريرة معلماً وهادياً، ومجاهداً وداعياً، وآمراً وناهياً، ورائحاً وغادياً.
فاللهم هذا حبنا لأبي هريرة قد أظهرناه، وعلى ألسنتنا ترجمناه، فاجعل قلوبنا من بغضه سليمة، ومن كل إثم وسوء عديمة، إنك الموفق لكل ربحٍ وغنيمة، والمنجي من كل عاقبة وخيمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم