عناصر الخطبة
1/ من حفظ الله بالتزام طاعته يحفظه الله 2/ حاجة المسلم إلى حفظ الله وقد تكاثرت الفتن 3/ نماذج تبين حفظ الله تعالى لأنبيائه وأوليائهاقتباس
احفظوا الله يحفظكم, احفظوا الله باستقامتكم على الدين يحفظكم الله, احفظوا الله بسلامة قلوبكم للمسلمين يحفظكم الله, احفظوا الله بطهارة أيديكم من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم يحفظكم الله من كل سوء، ويجعل لكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل عسرٍ يسراً؛ تَعَرَّفُوا عليه في الرخاء يَعْرفكم في الشدة ..
الحمد لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالَم وإبْداعِ فُنُونِه, أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، مَدَّ الأرْضَ ووضعَها، وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه.
مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبِهِ *** وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
مَن اسْتَجَارَ بِغَيْرِ اللهِ فِي فَزَعٍ *** فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وخِذْلَانُ
فَالْزَمْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمَاً *** فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه عدد ما تحرك ورقٌ من شجرٍ وطار طائرٌ على أغصانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: مَن حفظ الله في دينه فالتزمه، وطبَّق أحكامه، وبلغه للناس، وحفظ الله في اتِّباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واقتدى به في سائر حياته، وحفظ الله في أخلاقه وجوارحه، فلا يعمل إلا خيراً، ولا يكسب إلا طيباً، ومَن حفظ الله في لسانه فلا ينطق إلا بخير, لا يؤذي مؤمناً، ولا يسب أو يغتاب مسلماً، ومَن حفظ الله في أيمانه فلا يحلف كاذباً، ولا يشهد الزور، ولا يجعل الله عرضةً لأيمانه، ومن حفظ الله بحب المؤمنين وبغض المنافقين، ومن حفظ الله بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مَن فعل ذلك كله فإن الله يحفظه في الدنيا والآخرة, يحفظه في دينه، ويحفظه في نفسه، ويحفظه في أولاده وأهله وأمواله، جزاءً وفاقاً.
ولذلك علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه العقيدة حتى لا يضعفوا، أو يستكينوا، أو ينحرفوا عن الحق، أو يخضعوا لدنيا فانية، أو لذة عابرة، أو متاع زائل، وحتى لا ترهبهم أو تخيفهم المصائب والفتن والابتلاءات.
فمنْ كَان الله مَعه هَانت عليه المشاق، وانقلبت مخاوفه أمنا، وهانَ له كل صعب، وسهل عليه كلّ عسير، وقرُب له كلّ بعيد، وزالت همومه وأحزانه؛ عن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" رواه الترمذي وصححه الألباني.
إن المسلم يخوض غمار هذه الحياة متسلحاً بهذه العقيدة، معتمداً على الله، واثقاً به، فَمَن الذي يصرِّف الأمور إلا الله؟! ومَن الذي بيده مقاليد كل شيء إلا الله؟! ومَن الذي يبسط ويخفض ويرفع إلا الله؟ ومَن الذي يجب أن يشعر المسلم بقدرته وعظمته وقوته إلا الله؟ ولذلك يقول تعالى عن المشركين: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان:3]، وقال تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُل سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْل بَل زُيِّنَ للذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيل وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد:33].
أيها المؤمنون عباد الله: ما أكثر الفتن والمصائب والابتلاءات التي تعصف بالمسلم في حياته! والتي يحتاج معها إلى قوة تسنده وتقف بجانبه، وتحفظه، وتؤمِّن خوفه، وتهدئ من روعه, يأنس بها، ويتفاءل بوجودها، ويركن إليها, وليس هناك قوة في الدنيا أكبر ولا أعظم من قوة الله التي يحفظ بها عباده؛ فالأموال لا تنفع ولا تحفظ صاحبها ولو كان أغنى الناس، قال تعالى عن قارون الذي ملَك خزائن الأرض من الذهب والفضة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص:81]، والجاه والسلطان والأتباع قد لا يكونون سبباً في حفظ العبد، وتأمين خوفه، وجلب السعادة والحياة الطيبة له؛ والحسب والنسب لا يغنى عن صاحبه شيئا.
قال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت الحرام ذات ليلة، إذ رأيت شاباً متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول:
يَا مَن يُجِيبُ دُعَا المُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ *** يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ
قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبَهُوا *** وَأَنْتَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ
أَدْعُوكَ رَبِّي حَزِينَاً هَائِمَاً قَلِقَاً *** فَارْحَمْ بُكَائِي بِحَقِّ البَيْتِ وَالحَرَمِ
إِنْ كَان َجُودُكَ لَا يَرْجُوهُ ذُو سَعَةٍ *** فَمَنْ يَجُودُ عَلَى العَاصِينَ بِالنِّعَمِ؟
ثم سقط على الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي، فقلت: ما هذا البكاء والجزع و أنت من آل بيت النبوة ومعدن الرسالة؟! فقال: هيهات يا أصمعي! إن الله خلق الجنة لمن أطاعه و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان شريفاً قرشيا، أليس الله تعالى يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون:103-105].
عباد الله: احفظوا الله يحفظكم, احفظوا الله باستقامتكم على الدين يحفظكم الله, احفظوا الله بسلامة قلوبكم للمسلمين يحفظكم الله, احفظوا الله بطهارة أيديكم من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم يحفظكم الله من كل سوء، ويجعل لكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل عسرٍ يسراً؛ تَعَرَّفُوا عليه في الرخاء يَعْرفكم في الشدة.
هذا نبي الله يونس عليه السلام لما أُلقى في البحر وقد ابتلعه الحوت في ظلماتٍ ثلاث، وهو في ذلك الكرب والضيق قد انقطعت صلته بالمخلوقين جميعاً، لا ولد، ولا زوجة، ولا أهل، ولا قوم، ولا مال، ولا منصب، ولا جاه، وإذا به يتوجه بندائه لملك الملوك: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، وانطلقت لا إله إلا الله، وتفتحت لها أبواب السماء.
قال بعض أهل التفسير: سمِعَت الملائكة قول يونس بن متى وهو في الظلمات: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87] فبكوا وقالوا: يا رب! عرفنا الصوت، ولكن لا ندري أين يونس؟ الملائكة لا تعرف في أي قارة هو أو في أي بحر أو محيط! لكن الواحد الأحد يدري أين هو، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]، فماذا كانت النتيجة؟ لقد حفظه الله ونجَّاه، قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].
وحفظ الله يوسف عليه السلام لما ضاع وألقي في غيابت الجب، وقال إخوته لأبيهم أكله الذئب، فقال يعقوب عليه السلام: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64]، وتذكر أن الفرقة حلت بينه وبين ابنه الحبيب، وتذكر أن فلذة كبده لا يدري هل يعود أم لا؟! فقال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64].
قال بعض العلماء: ضاع يوسف أربعين سنة، فرده الله إلى أبيه الذي كان يقول: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64]، بل حفظ الله يوسف عليه السلام من الوقوع في المعصية في قصر العزيز، وحال بينه وبينها، قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].
وقد جاء عن ابن عباس موقوفاً عليه عند البخاري أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم لما ألقي في النار فكانت برداً وسلاماً، وقالها محمد -عليه الصلاة والسلام- لما قيل له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:173-174].
فاللهمَّ احفظنا بحفظك الذي لا يُرام، احرسنا بعينك التي لا تنام، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: مَنْ حَفِظَ الله في دينه وعمله وأخلاقه زاده الله مهابةً في قلوب الخلق، وامتلأ قلبه بحب الله وعظمته وجلالته، فلا يخشى أحداً إلا الله.
دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد الرسول -عليه الصلاة والسلام- وفي المسجد أكثر من خمسمائة من طلبة الحديث والعلماء وأهل المدينة، فقام الناس جميعاً إلا ابن أبي ذئب وهو أحد العلماء من رواة البخاري ومسلم، فقال الخليفة المهدي العباسي: يا ابن أبي ذئب! قام الناس لي جميعاً إلا أنت لم تقم! قال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أردت أن أقوم لك، فلما تهيأت للقيام تذكرت قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6]، فتركتُ هذا القيام لذاك اليوم. فقال الخليفة: والله يا ابن أبي ذئب ما بقِيَتْ في رأسي شعرة إلا قامت. ثم انصرف من عنده والناس من حوله في دهشةٍ وذهول!.
عباد الله: وَمَن حفظ الله فلا يخاف على أولاده وذريته، ولا المستقبل المجهول الذي ينتظرهم من بعده، فبسبب صلاحه وتقواه فإن الله يحفظ ذريته، قال تعالى: (وليَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [النساء:9].
فلنحفظ الله بصدق وعزيمةٍ، ولْنكثر مما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء: "اللهم إني أسألك العفو والعافية، في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمِنْ رَوعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" رواه أبو داود وصححه الألباني.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم