عناصر الخطبة
1/ عزّ العبد في عبوديَّته لربِّه 2/ الاعتبار بالأمم السابقة 3/ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 4/ إذا أُغلق باب من الطاعة فُتح غيره 5/ خير الأعمال في عشر ذي الحجة 6/ فضل الحج المبروراقتباس
إن عز العبد في عبوديَّته لربِّه عز وجل، وقوَّةَ المُسلم في توكُّله على مولاه، وغِناه في مُداومة الداء برفع حاجاته كلِّها إلى الله تعالى، وفلاحه في إحسانه لصلاته، وحُسن عاقبته في تقواه لرب العالمين، وانشراح صدره وسروره في برِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الخلق، وطُمأنينة قلبه في الإكثار من ذكر الله المُنعِم -جل وعلا-، وانتظامَ أمور الإنسان واستقامة أحواله ..
الحمد لله الغني عن العالمين، لا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، من عمِل الطاعات فهو الفائزُ بثواب المُحسنين، ومن عمِل المعاصي فهو مع الخاسرين، ولن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيجزي الله الشاكرين، أحمدُ ربي وأشكره على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الخلق أجمعين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ فجعلَه رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه المتقين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- بفعل ما يُرضيه من الطاعات، وترك ما يُغضِبُه من المُحرَّمات.
واعلموا -عباد الله- أن عزَّ العبد في عبوديَّته لربِّه -عز وجل-، وقوَّةَ المُسلم في توكُّله على مولاه، وغِناه في مُداومة الداء برفع حاجاته كلِّها إلى الله تعالى، وفلاحَه في إحسانه لصلاته، وحُسن عاقبته في تقواه لرب العالمين، وانشراح صدره وسروره في برِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الخلق، وطُمأنينة قلبه في الإكثار من ذكر الله المُنعِم -جل وعلا-، وانتظامَ أمور الإنسان واستقامةَ أحواله بالأخذ بالأسباب المشروعة وترك الأسباب المُحرَّمة، مع تفويضِ الأمور كلِّها للخالق المُدبِّر -سبحانه وتعالى-، وإنجازَ الأعمال في أوقاتها بلا تأخُّرٍ ولا كسَل.
وخُسرانُ العبد وخِذلانُه في الرُّكون إلى الدنيا والرضا بها، ونسيان الآخرة، والإعراض عن عبوديَّة الربِّ -جل وعلا-، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7، 8]، وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة: 22].
وقد جعلَ الله لكم عبَرًا في الأمم الماضية والقرون الخالية؛ فقد أعطاهم الله تعالى طُولَ الأعمار، وجرَت من تحتهم الأنهار، وشيَّدوا القصورَ وبنَوا الأمصار، ومُتِّعوا بقوَّة الأبدان والأسماع والأبصار، ومكَّن الله لهم في الأرض وسخَّر لهم الأسبابَ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه من القُوى والنعيم، ولا دفعَت عنهم الأموال والأولاد، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف: 26].
والسعيدُ من اتَّعَظ بغيره، والشقيُّ من وُعِظ به غيرُه، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33]، واستعِدُّوا للقاء الله بما تقدِرون عليه من الأعمال الصالحات، ولا تغُرَّ أحدَكم الدنيا وطول الأمل، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99، 100].
واعلموا -عباد الله- أن اجتماعَ الخير كلِّه في عبادة لله وحده لا شريك له، على ما وافقَ سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع الإخلاص ومحبَّة الله تعالى ومحبَّة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولن ينالَ أحدٌ رِضوانَ الله -عز وجل-، ولن يدخُل جنَّتَه، ولن يسعَد في حياته وبعد مماته إلا بعبادة الله -تبارك وتعالى-.
وللعبادة خُلِق المُكلَّفون، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، ولرضا الربِّ -عز وجل- بالعبادة وفرحه بها وحُبِّه لها، وكثرة منافعها للمُكلَّفين، وعموم بركتها، وسُبوغ خيراتها في الدارَين أمرَ الله بها في الليل والنهار، وجوبًا أو استحبابًا، مُقيَّدةً أو مُطلقةً؛ ليستكثِرَ منها السابِقون، وليلحَق بركبِ العُبَّاد المُقصِّرون.
وكمالُ العبادة هو كمالُ محبَّة رب العالمين، وكمالُ الذلِّ والخُضوع للمعبود -سبحانه وتعالى-، مع موافقة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن رحمة الله -عز وجل-، ولُطفه بعباده، وسَعة جوده وكرمه: أن شرَعَ العبادات للمُكلَّفين كلِّهم، يتقرَّبون بها إلى الله -سبحانه-، ليُثيبَهم، وبيَّن لهم الأوقاتَ الفاضِلة التي يتضاعَفُ فيها ثوابُ العبادات، ليتسكثِروا من الخيرات، ولو لم يُبيِّن لهم الزمانَ الفاضلَ لم يعرِفوه، قال الله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 151]، وقال تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 239].
وإذا شرعَ الله عبادةً دعا المُكلَّفين إلى القيام بها والتقرُّب إلى الله بها، فإذا لم يتمكَّن بعضُ المُكلَّفين من فِعلها فتحَ الله للمُكلَّفين أبوابًا من الطاعات، وشرعَ لهم من الطاعات من جِنسِ ما فاتَهم من العبادات، لينالَ العبادُ عزَّ الطاعات، وثوابَ القُربات؛ فمن لم يُدرِك والدَيه فقد شُرِع له الدعاء لهما، والصدقة عنهما، والحجُّ عنهما، وصِلة رحِمهما، وإكرامُ صديقهما، ومن أدركَهما ثم ماتا فكذلك يستمرُّ على برِّهما.
عن أبي أُسيد الساعدي -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: هل بقِيَ من برِّ أبَوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بعد موتهما؟! قال: "نعم؛ الصلاةُ عليهما -أي: الدعاء لهما-، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلة الرَّحِم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما". رواه أبو داود.
والخالةُ بمنزلة الأم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رجلٌ: يا رسول الله: إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا؛ فهل لي من توبة؟! قال: "هل لك من أم؟!". قال: لا، قال: "فهل لك من خالةٍ؟!". قال: نعم، قال: "فبِرَّها". رواه الترمذي.
ومن لم يجِد مالاً ليتصدَّق منه فليعمَل بيده وينفع نفسَه ويتصدَّق؛ عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مُسلمٍ صدقة". قال: قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟! قال: "يعتمِلُ بيدَيه فينفعُ نفسَه ويتصدَّق". قال: قيل: أرأيت إن لم يستطِع؟! قال: "يُعينُ ذا الحاجةِ الملهُوف"، قال: قيل له: أرأيتَ إن لم يستطع؟! قال: "يأمُر بالمعروف أو الخير"، قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟! قال: "يُمسِك عن الشر؛ فإنها صدقةٌ". رواه مسلم.
وفي الحديث: "من صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثم جلسَ في مكانه يذكُر الله حتى تطلُع الشمسُ فصلَّى ركعتَين، انقلَبَ بعُمرةٍ وحجَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ".
ومن قضَى فريضةَ الحجِّ ولم يتطوَّع بعدَها أو لم تتيسَّر له فريضةُ الحج، فقد شُرِع له صيامُ عرفة، وفي الحديث أنه: "يُكفِّرُ السنةَ الماضِية والآتية"، شُرِعت له الأُضحية؛ فهو يُشارِكُ الحُجَّاج في عرفة، وفي القُربان، وشُرِع له التقرُّب إلى الله بأنواع العبادات في عشر ذي الحجَّة؛ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله منه في عشر ذي الحجَّة". قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجِع من ذلك بشيءٍ". رواه البخاري.
وأنتم -معشر المسلمين- في أيامٍ فاضِلةٍ من أيام أشهر الحجِّ، وذِكر الله -عز وجل- من أفضل الأعمال وأجلِّ القُربات، وقد كان السلفُ الصالحُ يجهَرون بذِكر الله في عشر ذي الحجَّة، وكان ابنُ عمر وأبو هريرة يُخرُجان إلى السوق فيُكبِّران ويُكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.
وفي حديث عبد الله بن بُسْر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله: إن شرائعَ الإسلام قد كثُرت؛ فبابٌ نتمسَّك به جامعٌ؟! قال: "لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكر الله".
وأفضلُ الذكر: تلاوة القرآن العظيم؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41، 42]، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى، له الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لربِّنا الأسماءُ الحُسنى، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُجتبَى، وعلى آله وصحبِه ومن بهديِه اقتدَى.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله: إنكم في أيامٍ من أشهُر الحجِّ، ومن أيام الأشهُر الحُرُم؛ فمن كان حاجًّا فليحمَد اللهَ على توفيق الله له أن يسَّر له الأسبابَ لأداء الحجِّ، فليُلزِم نفسَه بما أرشدَه إليه القرآنُ الكريمُ، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].
وفي الحديث: "من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبِه كيوم ولدَتْه أمُّه"، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
وعلى الحاجِّ أن يتحرَّى في حجِّه السُّنَّةَ؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خُذوا عني مناسِكَكم".
وليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم الذين تصدُر عنهم الفتوى ويُوثَقُ بعلمِهم ويعرِفون ويعلَمون مناسِكَ الحجِّ، ليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم عن تفاصيل أحكام الحجِّ ليستوفِيَ أعماله، وليفوزَ بالقبول.
وعلى الحاجِّ أن يبذُل الخيرَ ويكُفَّ شرَّه وأذِيَّته عن المُسلمين، ومن لم يُقدَّر له الحجُّ فليلِج أبوابَ الخيرات التي شرعَها له ربُّه؛ ليفوزَ بسعادة الدنيا ونعيم الجنات.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين يا رب العالمين، اللهم ودمِّر أعداءَك أعداء الدين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين.
اللهم تولَّ أمر كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة، وأمر كلِّ مؤمنٍ ومُؤمنة يا رب العالمين.
اللهم احفظ دماء المسلمين، اللهم احفظ دماء المسلمين وأعراضَهم وأموالَهم ونفوسَهم يا رب العالمين، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام من ظلم الظالمين، واعتداء المُعتدين، وعُدوان الغاشمين يا رب العالمين.
اللهم كُن لهم ولا تكن عليهم، اللهم إنا نسألُك أن ترحم ضعفَهم، وأن تلطُف بهم يا رب العالمين، اللهم وأنزِل الدائرة على المُعتدين عليهم والظالمين لهم يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم