عناصر الخطبة
1/ أعمال عظيمة قام بها عثمان -رضي الله عنه- في خلافته 2/ تآمر كارهي الخليفة عثمان عليه رغم عدله وإنجازاته 3/ ابن سبأ اليهودي وبداية المؤامرة 4/ تفاصيل المؤامرة 5/ مقتل الخليفةاقتباس
وسَنَّ عثمان -رضي الله عنه- سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل والفقير. وهذه السنة التي استنها عثمان تُرغّب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد:
أيها المسلمون: نكمل حديثنا عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
عمل عثمان -رضي الله عنه- أعمالاً عظيمة في الفترة التي تولى فيها خلافة المسلمين:
كلّم الناسُ عثمان بن عفان أول ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ كان يضيق بالناس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح وزيادة سكان المدينة زيادة عظيمة، فاستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس: إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزيد فيه، وأَشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة"، وكان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه".
فحسّن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه.
وفي سنة 26هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ووسّعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرّأكم عليَّ؟! ما جرّأكم عليَّ إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأُخرجوا.
وفي نفس السنة كلّم أهل مكة عثمان أن يحوّل الساحل من الشعيبة -وهي ساحل مكة قديماً في الجاهلية- إلى ساحلها اليوم -وهي جدة- لقربها من مكة، فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها، ودخل البحر واغتسل فيه وقال: إنه مبارك، وقال لمن معه: "ادخلوا البحر للاغتسال إلا بمئزر"، ثم خرج من جدة من طريق عسفان إلى المدينة، وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندراً إلى الآن لمكة المشرفة.
وكان عثمان -رضي الله عنه- أول من رزق المؤذنين من بيت المال.
وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة لتنبيه الناس عن قرب وقت صلاة الجمعة بعد أن اتسعت رقعة المدينة، فاجتهد في هذا ووافقه جميع الصحابة، واستمر العمل به، لم يخالفه أحد حتى في زمن علي وزمن معاوية وزمني بني أمية وبني العباس إلى يومنا هذا.
وسَنَّ عثمان -رضي الله عنه- سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل والفقير. وهذه السنة التي استنها عثمان تُرغّب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا.
أيها المسلمون: ومن أعظم مفاخر عثمان -رضي الله عنه- جمع الأمة على مصحف واحد؛ عن أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قَدِم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نَسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وكان عثمان يحرص على الحج بنفسه ويلتقي بالحجاج، ويسمع شكاياتهم وتظلمهم من ولاتهم، كما أنه طلب من العمال أن يوافوه في كل موسم، وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم.
وبعث عثمان -رضي الله عنه- العديد من المفتشين إلى بعض الولايات للاطلاع على أحوالها ومعرفة ما يشاع عن ولاته من ظلم للرعية، وقد جاء أولئك المفتشون بتقارير وافية عن أحوال أولئك الولاة، فقد أرسل عمار بن ياسر إلى مصر، ومحمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، بالإضافة إلى إرساله رجالاً آخرين إلى أماكن أخرى.
أيها المسلمون: ومع كل هذه الفضائل وغيرها لعثمان -رضي الله عنه- إلا أنه تحققت فيه ما أخبره به النبي -صلى الله عليه وسلم- من بلوى تصيبه، فكان له مبغضون وحاقدون شنّعوا عليه في أشياء حتى انتهى بهم إلى قتله -رضي الله عنه-.
إن مبغضي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كانوا يشنّعون عليه أنه نفى أبا ذر إلى الرَّبَذَة، وكل ما قيل في قصة أبي ذر مما يُشنع به على عثمان بن عفان باطل، لا يبنى على رواية صحيحة، والصحيح: أن أبا ذر -رضي الله عنه- نزل في الرَّبَذَة باختياره، وأن ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذر في فهم آية خالف فيها الصحابة، وأصر على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه فطلب أن ينـزل بالرَّبَذَة التي كان يغدو إليها زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن نزوله بها نفياً قسرياً، أو إقامةً جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرجوع عن رأيه؛ لأن له وجهاً مقبولاً، لكنه لا يجب على المسلمين الأخذ به. والرَّبَذَة ليست بعيدة عن المدينة، وكان يجاورها حِمى الرَّبَذَة الذي ترعى فيه إبل الصدقة، ولذلك يروى أن عثمان أقطعه صرمة من إبل الصدقة، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقاً، وكانت الرَّبَذَة أحسن المنازل في طريق مكة.
أيها المسلمون: وتبدأ قصة مقتله -رضي الله عنه- عندما نجح الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعيّن عثمان -رضي الله عنه- سعيد بن العاص والياً جديداً على الكوفة، واطّلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجّهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها، وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، فرد عليه عثمان -رضي الله عنه- برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان -رضي الله عنه- وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها.
تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يَعِيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزاً وجفوةً وإقصاءً لهم، واستغل الحاقدون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ونظم هؤلاء جمعية سرية خبيثة وجعلوا لهم أتباعاً في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم، وكانت أهم فروع جمعيتهم في: الكوفة والبصرة ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة والشام.
أوصى ابن سبأ أتباعه المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أُخُوّتهم ووحدتهم، وهيّجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه.
توجّه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية -رضي الله عنه- بالمرصاد، بعدها صار ابن سبأ يتنقل فدخل البصرة والكوفة ومصر واستقر بها.
وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقرّه في مصر وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان، واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان -رضي الله عنه-.
وفي سنة أربع وثلاثين -السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان- أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته ورسم مؤامراته، ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، حصلت بعض التحركات والشغب في عدد من المناطق من قبل رؤوس الفتنة، فاقترح عدد من الصحابة على عثمان أن يأخذهم بالشدة وأن سياسة اللين لا تنفع معهم. لكن عثمان -رضي الله عنه- منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب، وقرّر أن يعاملهم بالحسنى واللين، وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة.
وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين: انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها. قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذًا أبعث لك جيشاً من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقَعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين: والله لتُغتالنّ أو لتُغزَينّ، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
لكأنما معاوية -رضي الله عنه- كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يداً خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم.
اتفق أهل الفتنة فيما بينهم على القيام بخطوتهم العملية النهائية في مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة وإلاّ يقتل، وقرروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج، وأن يعلنوا للآخرين أنهم خارجون للحج، فإذا وصلوا المدينة تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة من معظم أهلها المشغولين بالحج وقاموا بمحاصرة عثمان تمهيداً لخلعه أو قتله.
وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة، وكان عبد الله بن سبأ يسير مع هؤلاء مزهواً مسروراً بنجاح خطته اليهودية الشيطانية، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله، وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصحابة -رضوان الله عليهم-، بعدها تم اللقاء مع كل أهل بلد على حدة، ونوقشوا من قبل الخليفة عثمان ومن قبل بعض الصحابة فاقتنعوا ورجعوا إلى بلادهم، وهكذا اصطلح عثمان -رضي الله عنه- مع كل وفد على حدة، ثم انصرفت الوفود إلى ديارها، وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعاً راضين تبيّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطاً آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان -رضي الله عنه-، فزوروا كتباً على لسان عثمان وعليه خاتمه يأمر عامله بمصر بقتل وفد مصر إذا رجعوا. فرجعت الوفود ودخلت المدينة وبدؤوا بحصار الخليفة.
بارك الله لي...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: وقبل اشتداد الحصار كان عثمان -رضي الله عنه- يتمكن من الخروج للصلاة ودخول من شاء إليه، ثم مُنع من الخروج من الدار حتى إلى صلاة الفريضة، وبعد أن تم الحصار وأحاط الخارجون على عثمان -رضي الله عنه- بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه، فرفض عثمان -رضي الله عنه- خلع نفسه، وقال: "لا أخلع سربالاً سربلنيه الله". يشير إلى ما أوصاه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بينما كان قلة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه، وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس -رضي الله عنه-، لكنه رفض ذلك.
دخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟! فقال عثمان -رضي الله عنه-: لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟! قال عثمان -رضي الله عنه-: لا، قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟! قال: لا، قال: "فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمَّصَكَهُ الله، فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه".
أرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعُدهم إياه بالقتل، فكان معظم الصحابة يرون أن يأذن لهم بقتالهم، لكن عثمان -رضي الله عنه- رفض قتال المحاصرين له وعزم على الصحابة ألا يريقوا دماً بسببه. وقد جاء المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم، وقيل له: تذهب إلى مكة؟! فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام؟! فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صَبرُ عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
وقدِمت الأخبار إلى المتمردين بأن أهل الموسم يريدون نصرة عثمان، فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار إليهم أعلقهم الشيطان وقالوا: لا يُخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا.
وفي آخر أيام الحصار وهو اليوم الذي قتل فيه نام -رضي الله عنه- فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم، ثم قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عثمان أفطر عندنا"، فأصبح صائمًا وقتل من يومه.
هاجم المتمردون الدار فتصدى لهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا، بل إنه أعلن أنه من كف يده منهم فهو حر.
وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم -وهو الخليفة الذي تجب طاعته-: "أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلاّ كفّ يده وسلاحه". ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقاً من استشهاده بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك، ولذلك أراد ألا تراق بسببه الدماء وتقوم بسببه فتنة بين المسلمين.
وأصيب يومئذ أربعة من شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج من الدار، وخلّى بينه وبين المحاصِرِين، فلم يبق في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصِرِين مدافع ولا حام من الناس، وفتح -رضي الله عنه- باب الدار، وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر -رضي الله عنه- المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائماً، فإذا برجل من المحاصِرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان -رضي الله عنه- قال له: بيني وبينك كتاب الله، فخرج الرجل وتركه، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل من بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه قبل أن يضربه بالسيف، فقال: والله ما رأيت شيئاً ألين من خنقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسُه مثل الجان تردد في جسده، ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان -رضي الله عنه- بيده فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل، وذلك أنه كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف من إملاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقتل -رضي الله عنه- والمصحف بين يديه، وعلى أثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم).
وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها، فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يسمى نجيحًا، فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة السكوني نجيحاً قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه صبيح على قتيرة فقتله، فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكوني.
ولما تم قتل عثمان -رضي الله عنه- نادى منادٍ القومَ السبئيين قائلاً: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله، ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فساداً، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وبعدما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه. وحقق الخوارج السبئيون مرادهم وقتلوا أمير المؤمنين.
حزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش الخوارج السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فساداً، وتمنع أهلها من فعل أي شيء؟! وكان الحاكم الفعلي للمدينة هو أمير خوارج مصر الغافقي بن حرب، وكان معهم شيطانهم المخطط عبد الله بن سبأ وهو فرح مسرور لما وصل إليه من أهداف ومآرب يهودية شيطانية.
كان استشهاده -رضي الله عنه- صبيحة يوم الجمعة 18 من شهر ذي الحجة عام 35هـ وعمره 82 سنة، وصلى عليه الزبير بن العوام ودفن بين المغرب والعشاء.
أيها المسلمون: لقد كانت فتنة قتل عثمان سبباً في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته. وكان مقتل عثمان من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم، فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي، لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدون من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام.
أيها المسلمون: ومن فقه عثمان -رضي الله عنه- أنه لم يُجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام، لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطاً للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام، ولم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمة، ويحفظ كيانها وبنيانها من التصدع، ومما لا شك فيه أن هذا الصنع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها؛ إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم