عناصر الخطبة
1/ القيم أجساد الأمم 2/ تدفق القيم في المجتمع بفعل الإسلام 3/ صيانة القيم في واقعنا المعاصر 4/ حضارات الأمم تنهض بنهضة الأخلاق 5/ الإسلام ينتشر في كثير من البلاد بأخلاق أبنائه 6/ ضرورة انتباه المربين لغرس الأخلاق 7/ صراع المبادئ والقيم الدخيلة 8/ قيمة الوحدة والاتحاد 9/ دعوة المملكة دول الخليج للاتحاداقتباس
لئن كانت الأديانُ روحَ الأمم فإن القِيَم أجسادُها، فلا جسدَ بلا روحٍ، ولا روحَ بلا جسد، ولئن كانت الأديانُ غيثَ السماء فإن القِيَم نبْتُ الفِطَر، فإذا التَقَى فيضُ السماءِ بكريمِ الفِطَر كمُلَت الخِلالُ وحصلَت الخيريَّةُ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "خِيارُكم في الإسلام خِيارُكم في الإسلام إذا فقِهُوا". فالقِيَمُ نبتةٌ في الإسلام تحتضِنُها الفِطرةُ، وتُروِّيها الديانة، فإذا فسدَت الفِطرةُ وغاضَ نبعُ الدينِ لدى البشَر ذبُلَت تلك النبْتَة، واستحالَ زهرُها شوكًا، وغُصنُها حطَبًا ..
الحمد لله، الحمد لله الذي أنزل على عبدهِ الكتابَ وجعله قيِّمًا، وجعلَ مشمولَه أوامرَ ونواهِيَ وأخبارًا وقِيَمًا؛ تزكيةً لعباده ولتكون الأمةُ الخاتمةُ خيرَ أهل الأرض أُممًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: ما وصَّى الله به في كتابهِ فقال سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
أيها المسلمون: هنَاتُ الحياةِ لدى الأُممِ والأفرادِ، وكريمُ العاقبةِ للدول والشُّعوبِ، تكون في ظِلالِ قِيَمها وتحت وارِفِ أخلاقِها، وفخرُ كلِّ أمةٍ أو جماعةٍ بعد صلاحِ دينِها سُمُوُّ قِيَمها وتسامِي فضائلها؛ بل إن النبيَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حصرَ بعثتَه في تتميمِ مكارمِ الأخلاقِ، فقال: "إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالحَ الأخلاقِ". رواه الإمام أحمد.
أيها المسلمون: لئن كانت الأديانُ روحَ الأمم فإن القِيَم أجسادُها، فلا جسدَ بلا روحٍ، ولا روحَ بلا جسد، ولئن كانت الأديانُ غيثَ السماء فإن القِيَم نبْتُ الفِطَر، فإذا التَقَى فيضُ السماءِ بكريمِ الفِطَر كمُلَت الخِلالُ وحصلَت الخيريَّةُ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "خِيارُكم في الإسلام خِيارُكم في الإسلام إذا فقِهُوا". رواه البخاري.
فالقِيَمُ نبتةٌ في الإسلام تحتضِنُها الفِطرةُ، وتُروِّيها الديانة، فإذا فسدَت الفِطرةُ وغاضَ نبعُ الدينِ لدى البشَر ذبُلَت تلك النبْتَة، واستحالَ زهرُها شوكًا، وغُصنُها حطَبًا.
ولقد كان في الجاهلية أفرادٌ لم تقوَ ظُلْمةُ الجهل في مُجتمعهم أن تغتالَ بقيَّةَ نورٍ في نُفوسهم؛ فمنهم من لم يشربِ الخمرَ أبدًا، ومنهم من لم يزنِ، ولم يكذِب، ولم يُخلِف الوعدَ، ومنهم من يغُضُّ طرفَه عن جارتِهِ حتى يُوارِيَ جارتَهُ مثواها.
وكانت تلك المكارمُ أشبهَ ببقايا شُموعٍ تحتضِرُ في دُجَى الليل المُعتِم حتى أشرَقَت شمسُ الرسالة، فامتلأَ ما بين الخافِقَيْن نورًا وضياءً، وتدفَّقَت القِيَمُ بين الناسِ تدفعُها إليهم آياتٌ من الوحيِ وتوجيهٌ من النبوَّةِ.
ولم يكن عجبًا أن تتضمَّن أولُ سورةٍ نزلَت من القرآن إشارةً إلى رذيلةٍ تذِيبُ القِيَم في النفوس والمُجتمعات، ألا وهي: الطُّغيان، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
فإذا استغنَى الإنسانُ بمالهِ أو جاهِهِ أو سُلطانِهِ تجاوزَ حدَّه وغاضَ العدلُ والشرفُ وكريمُ الخِلال، ولن ترى مُحارِبًا للقِيَم في مُجتمعات المُسلمين إلا ووسيلتُهُ هي بعضُ ما أغناهُ اللهُ به من المالِ أو الجاهِ.
أيها المسلمون: القِيَمُ كما أنها إرثٌ جميلٌ فيجبُ أن تكون حاضِرًا مصونًا، فتهوينُها في نفوسِ الناسِ شرٌّ، والتقليلُ من شأنها خُذلان، وإحلالُ غيرها مكانَها خِيانة، وكلما كانت القِيَمُ مُوغِلَةً في القِدَم، مسطورةً في التاريخِ، كانت أنقَى وأبقَى؛ لأنها في الغالبِ إرثٌ دينيٌّ تمثَّلَتها قرونٌ فاضِلة؛ إذ لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه.
ولئن درجَ بعضُ المخذولين على التهوينِ من القِيَم باعتبارها من الرجعيَّة، ويدعون لأَن يحلَّ محلَّها قِيَمُ العالَم الجديد؛ فإن هذه دعوةٌ ترفَّعَ عنها كفارُ قريشٍ ومُشرِكو العربِ.
أيها المسلمون: حضاراتُ الأُمم تنهضُ بنهضةِ الأخلاق، وتنهارُ بانهيارِها؛ كم من أمةٍ كانت قويةً، فدبَّت مساوِئُ الأخلاقِ بين أفرادها فدبَّ فيها الضعفُ.
إنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقِيَت *** فإن همُ ذهبَت أخلاقُهم ذهبُوا
وصلاحُ أمر الأُمم مرجِعُه إلى الأخلاقِ المبنيَّةِ على المبادِئِ والقِيَم، ولا تحيا أمةٌ بلا قِيَم.
وإذا أُصيبَ القومُ في أخلاقِهم *** فأقِم عليهم مأتمًا وعويلاً
القِيَمُ هي الخصائصُ والصفاتُ النابعةُ من عقيدةِ الأمة، والتي تُوجِه سُلوكَ الجماعة، وهي أساسٌ للحِفاظِ على النظامِ والاستقرارِ في المُجتمع، ووازِعٌ بين الحلالِ والحرامِ، والخطأ والصواب.
وإن القِيَم التي تسُودُ أيَّ مُجتمعٍ تُعدُّ مُؤشِّرًا على نُضجِهِ وإدراكِه لدورهِ في الحياة، وطريقًا إلى الإبداع، وإن الطريقَ إلى الإبداعِ والنجاحِ يمُرُّ على القِيَم والمبادِئ، ودينُنا الإسلاميُّ هو دينُ القِيَم السامية المُستقاة من السماء، ومن رسولِ السماء.
القِيَم الإسلاميةُ ناشِئةٌ من الدين والخوفِ من الله، فهي ثابتةٌ في النفسِ، راسِخةٌ في القلبِ، لا تتبدَّلُ بتبدُّل المصالحِ والأهواءِ: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71]، فيُنتِجُ ذلك الإخلاصَ، والأمانةَ، والشعورَ بالمسؤولية، وخشيةَ الله قبل خشيةِ الناس، وعندها تصلُحُ الأحوالُ في كل المجالاتِ.
الصدقُ، والإخلاصُ، والتعاوُن، ومعرفةُ قيمة الوقت، وتقديرُ المصلحةِ العامة، واحترامُ الأنظِمة والقوانين، والإصغاءُ إلى صوتِ الضميرِ، هذه القِيَم هي روحُ النهضةِ وقوامُها، فإذا لم تعتَنِ بها الحكوماتُ والمدارِسُ والمُربُّون كانت النهضةُ جسمًا لا روحَ فيه.
في المُجتمع المُسلِم يجبُ أن تبرُزَ قيمةُ الصبرِ، والثقةِ بنصرِ اللهِ، والشجاعةِ، والثباتِ، والنُّصرةِ، وأن تسُودَ في المُجتمع قِيَمُ العدل والإحسان، والتكافُل والتعاوُن، والحُبِّ والتآخِي، والتثبُّت وحُسن الظنِّ، والكرمُ والسماحةُ، والرِّفقُ واللِّين، والأمانةُ والعِفَّة، والإنصافُ، وأداءُ الفرائض، والامتناعُ عن المُحرَّمات، والتعلُّق بالآخرة.
ولكلِّ خُلُقٍ أثرٌ في نهضةِ الأُمم، وفَقدُه سببٌ في انهِيارِها؛ فبالعدلِ تُنصَرُ الأُمم، وبالمحبَّةِ والإخاءِ والتكاتُفِ والتآزُرِ والإحسان تقوَى المُجتمعات، وبالتقوى والورعِ وبالهِمَّةِ والجِدِّ، والبُعد عن أسافلِ الأمور ومُحقَّراتِ الأعمال تنهضُ الأُمم وتسُودُ.
ولقد ربَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه على قِيَم القرآن، فارتَقَوا في سُلَّم الأخلاق، وأشرَفوا على الدنيا حتى نالَت أيديهم النجمَ، وجلسُوا على ناصِيةِ الشمس.
أيها المسلمون: وإذا كانت هذه الأخلاقُ مُستحبَّةً عند جميعِ الأُمم، فإنها واجبةٌ عند أهل الإسلام؛ بل هي أساسٌ في عقيدتهم، يتواصَى بها العلماءُ في كُتبهم ومُصنَّفاتهم.
قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- في بيانِ منهجِ السلَفِ: "ويدعُون إلى مكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِ الأعمالِ، ويعتقِدون معنى قولِهِ: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا"، ويندُبُون إلى: أن تصِلَ من قطعَك، وتُعطِي من حرَمَك، وتعفُو عمَّن ظلمَك، ويأمُرون ببرِّ الوالدين، وصلةِ الأرحام، وحُسن الجِوارِ، والإحسانِ إلى اليتامَى والمساكين وابنِ السبيلِ، وينهَون عن الفخرِ والخُيَلاء والبغْيِ والاستطالةِ على الخلقِ بحقٍّ أو بغيرِ حقٍّ، ويأمُرون بمعالِي الأخلاقِ، وينهَون عن سفَاسِفِها".
عبادَ الله: إن الإسلامَ لم ينتشِر في كثيرٍ من البلادِ بسيفٍ ولا سلاحٍ، وإنما نشَرَته أخلاقُ المسلمين، وقِيَمُ التجار الصالحين، إنها قِيَمُنا الإسلامية التي قبَسَها منا الآخرون فأنتَجوا بها ونجَحوا، ومن قرأ التاريخَ وتأمَّلَ مصارِعَ الغابرين وجدَ أن الانحلال الأخلاقيَّ، والفسادَ السلوكيَّ، والغِشَّ والخِيانةَ، والترَفَ والرخاوَة والتلهِّي بالنعيم، والأثَرة والأنانية هي السُّمُّ الذي يسري في كِيان الأمم حتى يصرَعها في نهاية الطريقِ.
وإن الغَيور على دينه وأمته، الناصحَ لله ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم ليتقطَّعُ قلبُه أسَفًا، ويتحرَّقُ خوفًا ووجلاً حين يرى قِيَم الأمة تتحطَّمُ على يدِ إعلامٍ هابطٍ يُدنِّسُ ثوبَ الحياء والحِشمة بمشاهدِ التعرِّي والفُجور، ويهدِمُ صرحَ الجِدِّ والهِمَّة بنشر ثقافةِ اللهوِ والطَّرَبِ، والتفاهةِ والعبَث.
ويُحزِنُ الغَيُورَ أن يرى بين أفراد المُجتمعِ المُسلمِ هوًى مُتَّبعًا، وشُحًّا مُطاعًا، ودُنيا مُؤثَرة، وأصبحَت القِيَمُ الدَّخِيلة التي لا تنسجِمُ مع فِطرتِنا وعقيدتِنا تحُلُّ محلَّها؛ فالفرديَّةُ والأنانيةُ، وحبُّ المادةِ، والرَّكضُ وراء الشهوات، والتخلِّي عن معانِي الإنسانية أصبحَ لها حُضورٌ في المُجتمع.
والخوفُ كلُّ الخوفِ أن تتحلَّلَ الفضائلُ والسلوكيات وتذوبَ في المُجتمع وأن ينساها الجِيلُ، وربما يتنازلُ عنها مُقابلَ الماديات والمدنية المزعومة، وهي قِيَمٌ وثوابِت؛ بل هي هويَّةُ الأمة.
إن الراصِدَ والمُتأمِّلَ يرى ظواهِر سلبيَّةً مُخيفةً في الأخلاقِ والسلوك، وهي مُؤشِّراتٌ لوجودِ خلَلٍ ينبغِي تدارُكُه قبل فواتِ الأوانِ؛ حيث لا يُمكِنُ التدارُك.
فيا أيها المُصلِحون، ويا أهل التربيةِ والتعليم: الأخلاقَ الأخلاقَ، والقِيَمَ القِيَم، أدرِكوا سفينةَ المُجتمع قبل أن تغرَق؛ فإن السفينةَ إن ملأها الماءُ لا يغرَقُ من خرَقَها وحده، وإنما يغرَقُ الجميعُ، والنارُ إن شبَّت في البيتِ لا تُحرِقُ من أضرَمَها وحده، وإنما تُحرِقُ الجميع، والفُجور إن انتشرَ لا يهلك الفاجِر، وإنما يهلك الجميع، ولا تثبُتُ قدَمُ حضارةِ الأُمم إلا على ظهرِ المبادئ والقِيَم، فإذا انهارَت القِيَم زلَّت القدَم، وسقَطَت الأُمم.
إن الحِفاظَ على قِيَم الحياء والعفافِ هو صمَّامُ الأمان للمُجتمع إزاءَ الكوارِثِ الخُلُقيَّة التي أصابَت العالَم في مقتَلٍ.
عباد الله: القِيَمُ والمبادئُ قِيَمٌ مُطلقة لا مُساوَمةَ عليها، ولا تنازُل عنها لأي ظرفٍ؛ بل إن الظروفَ تُطوَّعُ لها، وتموتُ شُعوبٌ وهي تُكافِحُ عن مبادِئِها، وتُنافِحُ أممٌ لتبقَى قِيَمُها، وتتحمَّلُ في سبيل ذلك نسفَ الأرواح، وهدرَ المال، وهدمَ الديار.
تجبُ العنايةُ بالتربيةِ الأخلاقيةِ للشبابِ لحمايتهم من الانجِرافِ في مُستنقَعِ الشهواتِ، ومن الغرقِ في حَمْأَةِ الرذيلة، والتنبُّه إلى الإعلامِ المُستهتِر والمُسخَّرِ لهدمِ الأخلاقِ، ونسفِ الفضائل، والدعوةِ إلى شرعِ الشهواتِ بما ينشُر من الصور والأفكار، وبما ينالُ من أصحابِ الشرفِ والفضيلة.
حتى تطبَّعُ الناسُ بما كثُرَت مُلامستُهم له مما يُعرضُ في الأفلام والمُسلسلاتِ ووسائل الإعلامِ المُختلِفة، ومنها: الخلطُ في قضايا المرأة ودعاوى الانفِلات تحت شِعارات الحرية والتحرُّر، وليست إلا انقِلابًا على المبادئِ والقِيَم، وإغراقًا للمُجتمع في مُستنقَعِ الأوحالِ.
أيها المسلمون: وفي ظلِّ التواصُل المعرفيِّ المُنفتِحِ تتلقَّفُ العقولُ الأفكارَ الوافِدَةَ الغريبةَ، وسُرعان ما تَتعايَشُ هذه العقولُ مع هذه الأفكار والرُّؤَى، وليس التعجُّب من وُرودِ الأفكارِ إلى عقولِ الناسِ، ولكن العجبَ هو قَبولُ الناسِ لهذه الأفكارِ الغريبةِ الشاذَّة، واعتناقُها بمُجرَّد تلقِّيها، وهذا يدلُّ على خلَلٍ كبيرٍ في القَنَاعات، وانفِصامٌ بين التلقين والتربية، يجبُ أن نتجاوَزَ مرحلةَ التلقينِ إلى مرحلةِ غرسِ المبادئِ والتربيةِ عليها.
إنه خطرٌ مُقلِقٌ نُواجِهُهُ كلَّ يومٍ، صراعٌ قويٌّ بين المبادئِ والقِيَم وبين الدَّخِيلِ على هذه القِيَم، يكادُ يُزعزِعُ قناعاتِ الناسِ بهذه المبادِئِ بما يملكُ من قوةٍ تأثيريَّةٍ، وبسيطرتهِ على كثيرٍ من المنافِذِ الإعلاميَّةِ، وبها يتسلَّلُ إلى مشاعر وأحاسيس الناسِ فيعبَثُ فيها كيف يشاءُ، ويقودُها حيثُما أرادَ، مُستغِلاًّ ولعَ الناس بالدنيا، وجهلهَم بحقيقة الأمور، وانبِهارَهم بزَيْفِ الحضارة المادية، وانخِداعَهم بانجِفالِ الناسِ إليها، ناسِينَ أن الأكثريَّةَ ليست مِعيارًا للحُكم على صحةِ المبدأ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116].
فالجمهرةُ والغَوغائيَّة لا تُغيِّرُ من حقائقِ الأمور، ولا تُصيِّرُ القبيحَ حسنًا، والمبادئُ إنما تستمِدُّ صحَّتَها من ذاتِها، فتوازُنُها وتكامُلُها وتناسُقُها وانسِجامُها مع الفِطرةِ، وعدمُ اعتراضِها أو تصادُمِها مع شريعةِ ربِّها يمنَحُها القيمةَ والاعتِبارِ؛ فهي مبدأٌ بهذا الأساسِ.
والمبادئُ الزائِفةُ ليس لها قيمةٌ حيث بُنِيَت على جُرُفٍ هارٍ؛ إذ تستمِدُّ قيمَتَها من عقولٍ محصورةِ الزمانِ والمكانِ، مُلوَّثةٍ بالأهواء، مُشوَّهةٍ في الاعتِقادِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك: 22].
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحق المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِهِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون: قيمةٌ نبيلةٌ تحتضِنُ كثيرًا من القِيَم، وتُنتِجُ كثيرًا من المكاسِب، وهي: الوحدةُ والاتحادِ؛ إذ هي قوةٌ إضافيةٌ للفردِ والجماعةِ تُعزِّزُ الثقةَ بالنفسِ وبالقِيَمِ والدين لئلا تبتلِعَ مُتغيِّراتُ السياسةِ والأخلاقِ الكِياناتِ المُتفرِّقة، فالوحدةُ مطلبٌ شرعيٌّ، ومكسَبٌ سياسيٌّ، وقوةٌ اقتصاديةٌ، وحصانةٌ أمنيَّة.
وقد وفَّق الله خادمَ الحرمين الشريفين للدعوةِ إليه، ووفَّقَ قادةَ الدول الخليجيةِ للترحيبِ به، سائلين اللهَ -عز وجل- أن يُيسِّر تمامَه وقِيامَه؛ إذ هي رغبةٌ لشعُوبِ تلك الدول وأمنيةٌ من أمانيهم، وهي خُطوةٌ مهمةٌ في دربِ المجدِ الطويلِ، وغُصَّةٌ في حلقِ كلِّ مُتربِّصٍ وشانِئٍ.
وإنها لدعوةٌ مُبارَكة، ونداءٌ مُخلِصٌ، وبادِرةٌ مُوفَّقة ينبغي لكل مسؤولٍ بحسَبِه أن يُساهِمَ في تحقيقِها، ويُذلِّلَ من عقَبَاتها، ويبنيَ ما استطاعَ من صَرحِها؛ فمن رأى فرحةَ تلك الشُّعوبِ بمشروعِ الاتحاد لم يهُنْ عليه التخاذُلُ في تحقيقِه.
فشكرَ اللهُ لخادمِ الحرمين الشريفين تلك الدعوةَ، وشكرَ لقادةِ الخليجِ ذلك الترحيبِ، وأجرى اللهُ الخيرَ على أيديهم لشُعوبهم، وجعلَهم حُرَّاسًا للقِيَمِ والنفوسِ والأوطانِ.
ثم الصلواتُ الزاكياتُ، والتسليماتُ الدائماتُ على أشرفِ خلق الله: محمدٍ رسولِ الله، وعلى آلهِ الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم