صلاة الخسوف

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-10 - 1436/04/21
عناصر الخطبة
1/بعض الحِكم الشرعية من حدوث الخسوف والكسوف 2/بعض آثار الذنوب على الفرد والمجتمع 3/تفشي المنكرات في هذا الزمن 4/قصة حادثة كسوف الشمس في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- 5/بعض آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 6/بعض أحكام صلاة الخسوف والكسوف

اقتباس

أيها المسلمون: إن لذهاب ونقصان ضوء القمر، ارتباط مباشرة بأعمال بني آدم، وبمعاصي بني آدم، إن المعصية شؤم كلها، ولها عواقبها على الأنفس والأهل والمجتمعات والدول، وحتى على الكون، أما شؤمها على العبد؛ فيهون العبد على ربه، ويرتفع مهابته من قلوب خلقه، و...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور ...

 

أما بعد:

 

لقد صلى عدد غير قليل من المسلمين فجر هذا اليوم صلاة الخسوف في عدد غير قليل من المساجد، أما من فاته صلاة الفجر فقد حرم هذا الأجر العظيم، وربما أعداد لم تعلم بأن صلاة الخسوف، صباح هذا اليوم.

 

أيها المسلمون: إن هذا الحدث الكوني، من خسوف القمر أو كسوف الشمس، له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون، وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان من المسلمين، ولا يقيمون لها وزناً، ولا يقومون بما أمرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حصل ذلك أن المسلم ينبغي له أن يتميز عن الكافر حال الكسوف أو الخسوف، وهو أن يفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق كما أمرنا بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المسلمون: إننا نحن المسلمين نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسباباً طبيعية، وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه، عن طريق حسابات دقيقة ويحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونقرأ أيضاً ويعتقد بأن لهذه الظواهر أسباباً شرعية أيضاً وهي المهمة، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده، من عاقبة ما يفعلون، وعن جرم ما يرتكبون، جعلها الله أسباباً لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما عن فيه من أخطاء.

 

إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه -أيها الأحبة- ما هو إلا إنذاراً وتذكيراً للعباد ليقوموا بما يجب عليهم من أوامر الله، ويبتعدوا عما حرم عليهم من نواهي، ولذلك كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف، في الشمس أو القمر أو فيهما جميعاً، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، مع أنه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحصل إلا مرة واحدة.

 

لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، اقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، واعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة، التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)[الذاريات: 60].

 

أيها المسلمون: إن لذهاب ونقصان ضوء القمر، ارتباط مباشرة بأعمال بني آدم، وبمعاصي بني آدم.

 

إن المعصية شؤم كلها، ولها عواقبها على الأنفس والأهل والمجتمعات والدول، وحتى على الكون.

 

أما شؤمها على العبد؛ فيهون العبد على ربه، ويرتفع مهابته من قلوب خلقه، ومن يهن الله فما له من مكرم، يقول الحسن -رحمه الله-: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم".

 

اخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: "لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: "ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى".

 

بسبب الذنوب والمعاصي يكون الهم والحزن، ويكون العجز والكسل وفشو البطالة، ويكون الجبن والبخل، ويكون غلبة الدين وقهر الرجال.

 

بالمعصية تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الرب، فكيف لا ينخسف قمر أو ينكسف شمس، إذا ابتلى العبد بالمعاصي، استوحش قلبه وضعف بأهل الخير والصلاح ارتباطه، قال بعض السلف: "إني لا عصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي".

 

وأما شؤم الذنوب والمخالفات على الدول والمجتمعات؛ فأمر عظيم، وخطر جسيم، فكم أهلكت من أمة؟ وكم دمرت من شعوب؟ (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)[الأنبياء: 11].

 

(كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)[الدخان: 25-29].

 

بسبب المخالفات، تتوالى المحن، وتتداعى الفتن وترتفع الأسعار، وتتعقد المعيشة، وتكثر المخاوف، وتقل الوظائف: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].

 

إن بلاداً من بلاد الله الواسعة، كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم، فحل بهم أمر الله وسنته: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 58].

 

فعم قوم نوح الغرق، وأهلكت عادا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].

 

إنها الحقيقة الصارخة: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ)[العنكبوت: 40].

 

تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين من أمثالنا ببعيد.

 

ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلخلت في دولة إلا أسقطتها.

 

أيها المسلمين: لقد فشا الزنا، وظهر الربا، وشربت الخمور، والمسكرات، وأدمنت المخدرات، لقد كثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، وارتفعت أصوات المعازف والمزامير المحرمة في كل مكان، وسمع الغناء في كل ناحية، لقد تهاون الناس في سماع الموسيقى، وفي شرب الدخان، وفي حلق اللحى، وإسبال الثياب، ومشاهدة التلفاز، واستحلال الدشوش، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، من المغازلات والمعاكسات، بل والخلوات المحرمات، ثم إنك لتسمع شهادات باطلة وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، وبعد هذا كله نستغرب أن بسببه ينخسف قمر أو ينكسف شمس.

 

إن الأمة حين تغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتتنكب طريقها، يقع عليها حكم الله -عز وجل-، إنها سنة الله حين تفشو المنكرات، وتقوم حياة الناس على الذنوب والآثام، إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة، وانتشار أوكار الفساد، وسلك الناس مسالك اللهو والترف طريقة إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، وتقع في الأعراض، وترخص القيم العالية، فما ذا يحصل بعد هذا كله؟ تتحلل الأمة، وتسترخي، وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوي صفحتها: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 94-99].

 

أيها المسلمون: إنه لا تفسد الأحوال، ولا تضطرب الأوضاع، ولا تختلط النيات، ولا تتميع المجتمعات، ولا تضيع الأمة، إلا حين يهد جدار ذلك الحصن الحصين، وذلك الدرع الواقي، والسياج الحامي إلا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الوثاق الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتهتك به أستار المجرمين، بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، إذا تعطلت هذه الشعيرة، ودك هذا الحصن، وأقفلت معظم أبوابه وتفرق معظم أنصاره، فعلى معالم الإسلام السلام، وويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين.

 

روى الترمذي عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم"[حديث حسن].

 

وفي حديث آخر صحيح يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب".

 

أيها المسلمون: إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنقص الأرزاق، وتنزع البركات، ويعم الفساد، وتفشو الأمراض وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال، أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً على أصحابه، فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشافيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا اخذوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا ما انزل الله إلا جعل الله باسهم بينهم"[أخرجه الحاكم وابن ماجة وهو حديث حسن].

 

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

 

اللهم من أرادنا بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين.

 

اللهم إنا ندرا بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

 

اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفساد والمفسدين.

 

أقول هذا القول ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله…

 

أما بعد:

 

ففي السنة العاشرة من الهجرة وفي أواخر حياته صلى الله عليه وسلم انكسفت الشمس في الوقت الذي توفي فيه ولده إبراهيم -رضي الله عنه-، فبعد ما ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فزعاً إلى المسجد يجر ردائه مستعجلاً.

 

جاء في رواية مسلم: أنه من فزعه صلى الله عليه وسلم أخطأ فخرج بدرع بعض نسائه لظنه ردائه حتى أدركوه بالرداء.

 

قال ابن حجر: "يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، وكان يوماً شديد الحر، وأمر مناديا أن ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد، رجالاً ونساء، فقام فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفوا خلفه فكر وقرأ الفاتحة، ثم قرأ بعدها سورة طويلة بقدر سورة البقرة، يجهر بقراءته، حتى جعل أصحابه يخرون من طول القيام، ثم ركع ركوعاً طويلاً جداً، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحواً من ركوعه، ثم رفع وجلس جلوساً طويلاً، ثم سجد سجوداً طويلاً ثم قام إلى الركعة الثانية، وسمع في سجوده يقول: "رب ألم تعدني أن لا تعذبهم، وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون" ثم صنع في الركعة الثانية مثل ما صنع في الأولى، لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام ثم تشهد وسلم، وقد انجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وإلى ذكر الله، ودعائه، واستغفاره".

 

وفي رواية: "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى ينفرج عنكم".

 

ثم قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وأيم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوة من أمر دنياكم وأخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، رأيت النار يحطم بعضهاً بعضاً، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن الحي الخزاعي يجر قصبة، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فاجبنا، وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحاً، وأما المنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته".

 

ثم ذكر الدجال، وقال: "لن تروا ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول جبال عن مراتبها".

 

ثم قال: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل".

 

إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة.

 

فيا أيها المسلمون: هل تظنون أن فزع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخروجه إلى المسجد ثم الصلاة ثم بعدها تلك الخطبة، وما حصل له فيها من أحوال، هل كل ذلك يكون لأمر عادي؟ لا والله، أنه لا يكون إلا لأمر عظيم مخيف.

 

فعلينا -أيها المسلمون- في مثل هذه الأحوال أن نفزع كما فزع نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار، وأن نتصدق لندفع عن أنفسنا البلاء، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعتاق في كسوف الشمس؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام بسبب فعل العباد، عند حدوث الكسوف أو الخسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والصدقة يدفع تلك الأسباب.

 

أيها المسلمون: صلاة الكسوف أو الخسوف سنة مؤكدة تصلى في أي وقت، وفي أية ساعة، من ليل أو نهار، ولم يستثن وقتاً من الأوقات؛ لأنها صلاة فزع ومدافعة، وليس لها آذان ولا إقامة، بل يستحب أن ينادى لها -الصلاة جامعة- والقراءة فيها جهرية سواء كان بالليل أو بالنهار والسنة، أن تصلى جماعة في المساجد، كما صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصلى خلفه الرجال والنساء وتصلى صلاة الكسوف أو الخسوف ركعتين في كل ركعة ركوعين وسجودين، فمجمل الصلاة أربع ركوعات، وأربع سجدات، في ركعتين.

 

ومن فاتته الصلاة مع الجماعة، فليقضها على صفتها، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة؛ لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة، فإذا دخل الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى يكون قد فاته قيام وقراءة وركوع، وبناءً عليه لا يكون قد جاء بركعة من ركعتي صلاة الخسوف، فلا يعتد بهذه الركعة، وعليه بعد سلام الإمام أن يأتي بركعة كاملة ركوعين وسجودين.

 

وفقني الله وإياكم لتعظيمه، والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته...

 

 

 

المرفقات

الخسوف

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات