عناصر الخطبة
1/ مقام العبودية 2/ حقيقة العبودية 3/ صفات عباد الرحمن وأخلاقهم 4/ وقفة مع الشباب العابث بالسيارات 5/ عاقبة تلك الأخلاق الفاضلة.اقتباس
وحقيقة العبودية أن يكون المؤمن متوجهاً لله، محكّماً لشرع الله في أحواله كلها، في أقواله وأخلاقه وتعامله مع الآخرين؛ وقد وصف الله الكُمّل من عباده المؤمنين بأنهم عباد الرحمن؛ لأن وصفهم بعبودية الرحمن أكمل وأجلّ، إذ العبودية المطلقة لله، فكلنا عبيد لله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) [مريم:93].
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: خلق الله الثقلين الجن والإنس لعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، فالعبادة أعلى المقامات... فيما بين العبد وربه، ولقد وصف الله نبيه بالعبودية في أجلّ المقامات وأعلاها: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1]، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) [الكهف:1]، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان:1]، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن:19].
وحقيقة العبودية أن يكون المؤمن متوجهاً لله، محكّماً لشرع الله في أحواله كلها، في أقواله وأخلاقه وتعامله مع الآخرين؛ وقد وصف الله الكُمّل من عباده المؤمنين بأنهم عباد الرحمن؛ لأن وصفهم بعبودية الرحمن أكمل وأجلّ، إذ العبودية المطلقة لله، فكلنا عبيد لله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) [مريم:93].
لكن عباد الرحمن حقا لهم صفات تميزهم عن غيرهم، فلم ينالوها بالدعوة؛ بل نالوها بالحقيقة، قال -جل وعلا-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:62-63].
وربنا -جلَّ وعلا- في كتابه العزيز يذكر صفات المؤمنين وأخلاقهم ليحثنا على التمسك بها، والعمل بها، ويذكر أخلاق الكافرين والمنافقين وصفاتهم لنجتنبها ونكون بعيدين عنها، فالمؤمن حقا كلما بلغ صفة من صفات عباد الرحمن تأكد في حقه أن يتمسك بها، وأن يعمل بها؛ رجاء أن يكون من عباد الرحمن حقا.
وفي آخر سورة الفرقان ذكر الله بعض أخلاق عباده المتقين فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان:63]، فأول صفاتهم التواضع في مشيهم، فهم متواضعون في مشيهم، يمشون بسكينة وتواضع، بعيدين عن الأشر والتجبر والعلو والاغترار بالنفس، فإن الله نهانا عن هذه الأخلاق الذميمة: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء:37-38]، (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان:18]، ليست مشية تماوت واسترخاء، هي مشية اعتدال وقوة؛ لكنها باتزان وعقلانية وخضوع لله؛ طاعة لله، والله يقول: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
أيُّها الشاب المسلم: إن الواجب علينا في سيرنا أن نكون أهل تواضع في سيرنا، نحترم الآخرين، ونعلم أن الطريق ليس خاصا لفلان وفلان، ولكن لي ولك ولسائر الناس، تمشي في طريقك وتعلم أن لمن خلفك عليك حقا، ولمن أمامك حقا، ولمن عن يمينك ويسارك حقا، لا تغتر بنفسك، ولا تعجبك نفسك وقوتك وصحتك، تواضع لله في مشيتك.
اسمع أخي عاقبة الطغيان والتكبر والتجبر في الأرض: أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا ممن قبلنا عليه بردان يتبختر فيهما، ينظر في عطفيه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
أيُّها الشاب المسلم: قف معي لحظات أناقشك، ولعلك أن تصغي لما أقول لك، ولعل هذه المناقشة تهديك إلى خير وتجنبك السوء.
أخي الشاب المسلم: إن مما يلاحظ على بعض شبابنا في بعض الأوقات السرعة الذي لا تتزن بعقل ولا فكر سليم، فسوء التصرف في القيادة علامة تهور، ونقص في العقل، وفقد في الرأي؛ تصرف سيء، تصرف خاطئ ينبئ عن قلة حياء، وضعف إيمان، وغرور في النفس، وانخداع بصحة الشباب، يتصرف تصرف المجنون.
هذه التصرفات يا ليتها فقط تخص صاحبها، لقيل هذا أراد شرا لنفسه فهو كما أراد وإن كان في خطأ؛ لكن المصيبة أن هذه التصرفات تلحق أذى بالآخرين، ويا ليت هذا الأذى في أمور يسيرة؛ لكن إزهاق الأرواح، قتل الأبرياء، تدمير عرباتهم، تدمير ممتلكاتهم، إراعة الآمنين، تخويف السائر في الطريق، تصرف من بعض شبابنا ينبئ عن ضعف إيمان، وقلة حياء، وغرور بالشباب والصحة، وانخداع بأن سيارته وإن عطبت فلا بد لأبيه أن يعوضه عنها أخرى في خلال ساعات، وهو مؤمّن -كما يقال- على نفسه وعلى سيارته، إذا؛ لا يبالي بأي عمل يعمل ولو مات عدد من الناس، لا يبالي في ذلك.
هذه التصرفات التي يهلك في سبيلها عدد من الناس؛ بل في حادث واحد خمسة أشخاص كلهم زهقت أرواحهم على أيدي هؤلاء المفحطين المتصرفين بلا عقل ولا رأي، إن هو إلا ضعف الإيمان والغرور والتجبر والتعالي والاغترار بالنفس والصحة والغنى.
فالواجب عليك -أيها الشاب المسلم- أن تتقي الله في أمرك، وأن ترفق بنفسك، فنفسك أمانة عندك، والله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء:29]، ونفوس الآخرين أيضاً غالية، يقول الله -جلَّ وعلا-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة:32].
أخي المسلم: هذه التصرفات لا تدل على شجاعة، ولا على مهارة، ولا على قدرة، ولا على خبرة؛ لكن تدل على فساد في العقل، وضعف في الرأي، سهر وتعب وأخلاق سيئة، ومعاناة لا خير فيها، وينتهي الأمر إلى دماء تسفك، دماء أبرياء تسفك بغير حق، متفرجين ومشجعين... كل هذا خطأ، فاتق الله في نفسك، أرفق بنفسك وبمن حولك من عباد الله المؤمنين.
نبينا -صلى الله عليه وسلم- أوصانا: إذا أراد أحد منا الخروج من المنزل أن يقول: "بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"، إذا قالها المسلم قال له الملك: "كُفيت وهُديت ووُقيت"، وتنحى عنه الشيطان، وقال: كيف لي برجل قد كُفي وهدي ووقي؟.
فيا أيها الشاب المسلم: اتق الله في نفسك، واتق الله فيمن حولك، امش بطمأنينة وهدوء، واحذر هذا الخلق الذميم، احذر هذا العرض بالسيارات فهو أمر محرم.
إن الواجب على المجتمع علاج هذه القضية، ولكن؛ يا مسؤول المرور، يجب أن يعاقب أولئك بعقوبة رادعة، تمنعه وأمثاله من التمادي في غيهم وجهالتهم، فلابد من عقوبة رادعة: أن تسحب رخص القيادة من هذا السائق، وأن يمنع من القيادة مدة معينة، لعله أن يرتدع وأن يؤدب أدبا له ولأمثاله، لأن ترك أولئك يعبثون ويعملون ما يشاؤون، وتزهق النفوس، كل ذلك خطأ عظيم وذنب كبير، متى ما استشرى في شبابنا ضعفت نفوسهم، وقل إيمانهم، وأقدموا على كل رذيلة، هؤلاء العاطلون الذين لا يجدون عملا ولا يحبون الإنتاج؛ وإنما يعيشون على هذه الحياة الشقية، يؤمّن أبوهم نفقاتهم وسياراتهم، ثم لا يبالون بما جرى، كل هذا خطأ.
فيا أيُّها الشاب المسلم: أنصحك لله أن تتقي الله في نفسك وفي شبابك ومن حولك، وأن تترفع عن هذه الدنايا، وتجعل القوة والشجاعة في العمل والإنتاج ومزاحمة الأعمال، والبحث عن طرق كسب الحلال الطيب النافع.
ثم إن الله وصف عباده المؤمنين بصفة أخرى وهي الحلم والصفح والعفو والإعراض عن الجاهلين: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)، إذا جهل عليهم جاهل أو خاطبهم سفيه بما لا يليق تغاضوا عنه وحملوه على عقله ولم يجاروه في سفهه، بل قابلوا تلك الأخلاق السيئة بخلق حسن... (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35]، فإذا خاطبه جاهل أو تكلم عليه سفيه حمله على عقله، وأن هذا دليل على قصور العقل ونقص الرأي، فلا يخوض معه في سفه ولا يخوض معه في جهل.
ولهذا كان هذا الخلق الكريم الذي هو الإعراض عن الجاهلين خلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، يحدثنا أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وكان على النبي برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة، قال أنس: فلقد رأيت أثرها في عنقه -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت وتبسم ثم أمر له بالعطاء، هكذا عامل -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي الرجل الجاهل، عامله بالتبسم وأعطاه حقه دون أن يعاقبه؛ صبرا وتحملا؛ لأن الله يقول عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
ووصف عباد الرحمن بقوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:64]، هؤلاء أحسن الخلق، ثم هم أيضا رغبوا في الخير واهتموا بأنفسهم، يبيتون الليل سجدا وقياما، يراوحون بين السجود والقيام، يحيون من الليل ما يحيون؛ طاعةً لله لتصلح قلوبهم، وتزكو نفوسهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة:16].
ذكر السجود لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والدعاء في السجود من أسباب قبول الدعاء، والدعاء آخر الليل من أسباب القبول؛ لأن الله ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟.
ثم وصفهم أيضا بصفة أخرى بقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) [الفرقان:65-66]، آمنوا بالنار، وأنها حق يعذب الله بها أعداءه، ويعذب بها المخالفين لشرعه، وكل ينال قدره منها، فالكافرون مخلدون فيها أبدا، والمؤمن قد يعذب على قدر معاصيه، ويتوب الله على من تاب.
هذه النار العظيمة التي أخبر الله عنها في كتابه وأخبر عنها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أهل الإيمان يدعون ربهم أن يصرف عنهم عذاب النار؛ لأن عذابها غرام، ملازم لأهله، لا ينفك عنهم أبدا...
قال -جلَّ وعلا-: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف:29]، وقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:19-22]، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف:77]، فهم خالدون مخلدون: (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا) [الأعلى:13].
فإذا تذكروا النار وعذابها وأغلالها وسعيرها خافوا منها، وسألوا الله أن يعيذهم منها: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً)، ملازما لأهلها؛ إنها ساءت مستقرا وساءت مقاما، فنسأل الله السلامة والعافية.
ثم إن عباد الرحمن أيضا وصفهم الله بالاعتدال والوسطية في إنفاقهم وتصرفاتهم المالية، فلم يكن المال سببا في غرورهم وأشرهم وبطرهم؛ بل كانوا خلاف ذلك؛ فإن طبيعة المال -إلا من عصم الله- تكون سببا للطغيان والأشر: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7].
لكن أهل الإيمان يمنعهم إيمانهم من هذا الخلق الذميم، فهم لا يسرفون سرفا يجاوزون به الحد، ولا يقترون تقتيرا يضعف أداء الواجب، لا ينفقون في الحرام وإن قل، ولا يمنعون الواجب؛ بل يؤدونه على الوجه المطلوب: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان:67].
يعلمون أن هذا المال أمانة عندهم، الله يوم القيامة سيسألهم عن مصدر ذلك المال: من أي طريق جاء؟ أمِن طريق حلال أم حرام؟ ثم سيسألهم عن هذا المال، ماذا أنفقوا؟ هل أنفقوه في الخير أم أنفقوه في السوء: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء:36-37].
ثم مدحهم بأنهم -مع صلاحهم واستقامتهم وتحليهم بالأخلاق الفاضلة- قد ترفعوا عن كبائر الذنوب والموبقات، فهم: (لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان:68]، طهروا قلوبهم من دنس الشرك، وترفعوا عن العدوان على النفوس، وعلى الأعراض، وعلى الأنساب، فهم في خير ونعمة؛ هذه صفاتهم.
ثم بيَّن عاقبة تلك الأخلاق فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ): أن يزني أو يقتل نفسا، (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) [الفرقان:69].
لكنه -جلَّ وعلا- بين أن التوبة تمحو آثار الذنوب إذا كانت توبةً صادقة، أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم أن لا يعود: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:70].
بتوبتك إلى الله يمحو الله ما مضى منك من الذنوب، ويبدلك بذنوبك أعمالا صالحة، فله الفضل والمنة في كل الأحوال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: أيُّها النَّاس، إن الله -جلَّ وعلا- وصف عباد الرحمن بصفة أخرى فقال: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان:72]، لا يشهدون الزور، الكفر والكذب ومجالس السوء وأماكن الرذيلة، لا يشهدونها ولا يحضرون مجالسها، ولا يتمايلون مع أهلها، ولا يصرون على باطلهم؛ بل هم يهجرون السوء وأهله، ويحذرون المسلم من كل سوء، فهم لا يقولون إلا حقا، لا يشهدون شهادةً باطلة، إذا شهدوا فبحق وعدل، لا يفترون قولا ولا زورا، فالزور بعيد عنهم في أقوالهم وفي أفعالهم وفي تصرفاتهم وفي كل أحوالهم، فهم أهل صدق وأمانة وطاعة ووفاء لله، لا يشهدون الزور.
وإذا مروا باللغو، مروا به بغير قصد، قالوا: سلاما، فأعرضوا عنه، كما قال: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
ثم ذكر من خصالهم أنهم مع صلاحهم وقيامهم بالواجب إلا أنهم يتطلعون إلى أمر آخر وهو أن يجعل الله لهم من أزواجهم وذرياتهم مَن تقر أعينهم بهم ممن يعبدون الله، ويطيعون الله، ويتقون الله، وينصرون دينه، فقال الله عنهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان:74].
إنَّ صلاح الأولاد نعمة من نِعم الله على العبد، صلاح الأولاد بتربيتهم ينتفع به العبد في حياته وينتفع به بعد موته: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"، (وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:24].
فمن سعادة العبد أن يرى أولاده في استقامة على طاعة الله، وتآلف على الخير، واجتماع على الخير؛ ويوم القيامة، يقول الله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور:21]، يرفع الله درجة الآباء بصلاح الأبناء، ويرفع الله درجة الأبناء بصلاح الآباء، فنسأل الله أن يصلح ذرياتنا وذرياتكم؛ إنه على كل شيء قدير.
ثم ذكر أيضاً في جزائه لهم: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان:75]، يجزون الجنة بصبرهم على الطاعة وعن المعاصي: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً)، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].
فهذه أخلاق الإسلام، هذا خلق الأولين الذين فهموا الدين على حقيقته، وجاهدوا في الله حق جهاده، وفتحوا القلوب والبلاد فدخل الناس في دين الله أفواجا.
فكن أخي المسلم أنموذجا صادقا في تحليك بالأخلاق، ابتعد عن الرذائل، تحل بالحلم والأناة، ابتعد عن الغضب والفوضى، وكن عابدا لله، مطيعا لله، متقربا لما ينفعك لتكون من عباد الرحمن حقا.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم جميعا من عباد الرحمن، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم