عناصر الخطبة
1/مضرب المثل في الصبر من النساء 2/تأملات في قصة أيوب عليه السلام 3/عاقبة الصبر الجميل 4/التحذير من دعوات هدامة للأسرة والمجتمع.اقتباس
بعدَ ذلكَ المالُ الوَفيرُ، وبعدَ ذلكَ الولدُ الكثيرُ، وبعدَ أن كانتْ مُحاطةً بِخَدمٍ شَتَّى، تَأمرُ وتَنهى، لا تَعرفُ للتَّعبِ رَسْماً، ولا تَذكرُ للجوعِ طَعْماً، وإذا بِها وفي لحظةٍ، في فقرٍ عَريضٍ، وزوجٍ مريضٍ، فَكَانتْ تَتَرددُ إليهِ، وتُصلحُ من...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسَاسًا وَمِنْهَاجًا، وبِهِ تَسْعَدُ الأُسْرَةُ وَتَزْدَادُ سُرُورًا وَابتِهَاجًا، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، جَعَلَ الزَّوَاجَ مِنْ سُنَّتِهِ، وَنَهْجِهِ وَطَرِيقَتِهِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الأَطْهَارِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى دَارِ القَرَارِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
إذا ذُكِرَ الصَّبرُ، ذُكِرَ مِنَ الرِّجالِ أيوبُ -عَليهِ السَّلامُ-، وهذا لا يختلفُ عليه اثنانِ، بشهادةِ اللهِ -تَعالى- لَهُ: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:44]، ولكنْ مَن هي مَضربُ المَثلِ في الصَّبرِ من النِّساء؟، من هي التي قالَ عنها ابنُ كثيرٍ -رحمَه اللهُ- في البدايةِ والنِّهايةِ: "الصَّابرةُ، المُحْتَسِبةُ، المُكَابِدَةُ، الصِّدِّيقَةُ، البَّارَّةُ، الرَّاشِدَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا"؟، إنَّها زوجةُ أيوبَ -عليهِ السَّلامُ-، فعجباً لتلكَ العائلةِ التي أصبحتْ مضرباً للصَّبرِ.
ذَكرَ أَهلُ التَّواريخِ والتَّفاسيرِ: أنَّ أَيوبَ كَانَ رَجلاً كَثيرَ المالِ، وأَنَّهُ كَانَ عِندَه أَنعامٌ، وعَبيدٌ، ومَواشيُّ، وأَراضيُّ، وكَانَ لَهُ الكَثيرُ مِنَ الأولادِ والأهلِ، حَتى حَلَّ بِهِ البَلاءُ، وفَقدَ الأموالَ، وفَقدَ الأهلَ إلا زوجتَهُ، وابتُليَ في جَسدِه بأنواعٍ مِنَ الأمراض، ولمْ يَبقَ مِنهُ عُضوٌ سَليمٌ سُوى قَلبُهُ ولِسانُهُ، يَذكرُ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- بهما، وطَالَ مَرضُه، حَتى عَافَهُ الجَليسُ، وأَوحشَ مِنهُ الأَنيسُ، وأُخرجَ من بَلدِهِ، وانقَطعَ عَنهُ النَّاسُ، ولم يَبقَ أَحدٌ يَحنو عَليهِ إلا زَوجتُه، كَانتْ تَرعَى لَهُ حَقَّهُ، وتَعرِفُ قَديمَ إحسانِه إليها، وشَفقتِه عَليها.
ولكم أن تتخيلوا بعدَ ذلكَ المالُ الوَفيرُ، وبعدَ ذلكَ الولدُ الكثيرُ، وبعدَ أن كانتْ مُحاطةً بِخَدمٍ شَتَّى، تَأمرُ وتَنهى، لا تَعرفُ للتَّعبِ رَسْماً، ولا تَذكرُ للجوعِ طَعْماً، وإذا بِها وفي لحظةٍ، في فقرٍ عَريضٍ، وزوجٍ مريضٍ، فَكَانتْ تَتَرددُ إليهِ، وتُصلحُ من شَأنِه، وتُعينُه عَلى قَضاءِ حَاجتِه، وتَقومُ بمصلحتِه، وكَانتْ تَخدمُ النَّاسَ بالأُجرةِ لتُطعمَ زَوجَها، وتَرجعُ من تَعبِ العَملِ عِندَ النَّاسِ، فتبدأُ في تَعبٍ جديدٍ في خِدمةِ زوجِها المُبتلى، ولمْ يَزدْهَا ذَلكَ إلا إشفاقًا وصَبرًا، وطَمَعاً في ما عِندَ اللهِ واحتساباً وأجراً.
ولكم أن تتخيلوا وهي في قِمَّةِ الخدمةِ لزوجِها والوفاءِ، حَدثَ موقفٌ من المواقفِ فحَلَفَ أيوبُ -عليهِ السلامُ- إن عافاهُ اللهُ ليجلدنَّها مائةَ جَلدةٍ، ولم تتذمرْ، ولم تتسخَّطْ، وإنما صَبرتْ على زوجِها المريضِ.
وهكذا في البلاءِ ثَمانيَ عشرةَ سنةٍ، حتى دعا ربَّه مُستغيثاً: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83]، وكَانَ يَخرجُ إلى حَاجتِه فَتُمسكُهُ امرأتُه بَيدِهِ حَتى يصِلَ، ثُمَّ تنتظرُه حتى ينتهيَ لتُرجِعَهُ إلى البيتِ، فَلمَّا كَانَ ذَاتَ يَومٍ أَبطأَ عَليها، وأَوحَى اللهُ -تعالى- إلى أَيوبَ، أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص:42].
فاستَبطَأتْهُ، فَتلقَتْهُ تَنظرُ، وقد أَقبلَ عَليها، قد أَذهبَ اللهُ ما بهِ من البلاءِ، وهو أَحسنُ مَا كَانَ، فلمَّا رَأتْهُ قَالتْ: أَيْ بَاركَ اللهُ فِيكَ، هَل رَأيتَ نَبيَّ اللهِ هَذا المبتلى؟، واللهِ ما رَأيتُ أَشبهَ بِهِ مِنكَ إِذ كَانَ صَحيحًا، فَقَالَ: فإنِّي أَنا هو، ثُمَّ عوَّضَهُ اللهُ ما فَقَدَ، قالَ -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[ص:43]، فرزقَه اللهُ مالاً عظيماً، وأصلحَ زوجَتَه الصَّابرةَ، ورزقَهما الذُّريَّةَ المباركةَ.
وأما القَسمُ بضَربِ زوجتِهِ مائةَ جَلدةٍ، فقالَ له -تعالى-: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)[ص:44]، فحيثُ لم يكنْ في شَرعِهم كفارةُ اليمينَ، أمرَه اللهُ -تعالى- أن يأخذَ كومةً من حشيشٍ أو عيدانٍ أو عِذقِ نخلٍ فيضربَه بها ضربةً واحدةً، فجعلَ اللهُ –تعالى- لهذهِ المرأةِ الصَّابرةِ مخرجاً، جزاءً لصبرِها ووفائها لزوجِها.
أَقولُ مَا تَسمعونَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ، فاستغفروهُ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسلمَ على نبيِّنا محمدٍ وعَلى آلِه وصَحبِه أَجمعينَ، أَما بَعدُ:
أيُّها الأحبَّةُ: هكذا لا زالَ نساءُ المسلمينَ في وفاءٍ وصبرٍ مع أزواجِهِنَّ، في عَلاقةٍ قد بُنِيَتْ على المودةِ والرحمةِ، كما قالَ -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم:21]، فالرجلُ يعملُ خارجَ البيتِ ليأتيَ بالمالِ، والزوجةُ تعملُ داخلَ البيتِ لتُربيَّ العيالَ، وهكذا تتكاملُ الجهودُ، ويحصلُ المقصودُ، من بناءِ الأسرةِ الصالحةِ، التي هي نواةُ المجتمعِ الصَّالحِ.
ولكنْ يأبى أهلُ الإجرامِ، أن يروا أُسرةً تعيشُ في وئامٍ، فيأتونَ إلى الزَّوجةِ، ويقولونَ لها: أنتِ لستِ خادمةً، وإلى متى وأنتِ مُحتاجةٌ إليهِ؟، ينبغي أن تُطالبي بحقوقِكِ الضَّائعةِ، وتَرجعينَ إلى حُريَّتِكِ الرَّائعةِ، فأينَ هؤلاء من قولِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا"؛ أيْ: أفسدَها على زوجِها، فعقدُ الزَّواجِ ليسَ عقدَ إجارةٍ وعملٍ، وإنَّما عقدُ موَّدةٍ ورحمةٍ وأملٍ.
وللأسف تتأثرُ بعضُ الزَّوجاتِ، ويحدثُ ما يُريدُه إبليسُ، فقد جاء في الحديثِ: "إنَّ إبليسَ يضعُ عرْشَه على الماءِ، ثم يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهم منه منزِلةً أعظمُهم فتنةً، فيجيءُ أحدُهم فيقولُ: ما تركتُه حتى فَرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه، قال: فيُدْنِيه منه، ويَلْتَزِمُه، ويقول: نِعْمَ أَنتَ"، ولو كانَ يحضرُ مجلسَ إبليسَ بعضُ شياطينِ الإنسِ، لحَصلَ لهم التَّكريمُ والتقديرُ، لما يفعلونَه للأُسرِ من التَّفكيكِ والتَّدميرِ.
فاللهَ اللهَ في زوجاتِكم.. أكرموهُنَّ، وأَحسنوا إليهِنَّ، واشكروهُنَّ، حتى لا يَجدَ الأشرارُ عليهِنَّ سَبيلاً.
اللهمَّ ازرعْ في قُلوبِ الأزواجِ الرحمةَ والسكينةَ والطُمأنينةَ، اللهمَّ أَصلحْ حالَهم، وأَرحْ بالهم.
اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، وألِّفْ بينَ قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينِهم، واهدِهم سُبُلَ السلامِ، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ، ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، عن بَلدِنا وسَائرِ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ من أرادَنا وعقيدَتنا وقيادتَنا وأمنَنا وجماعتَنا ونساءَنا وشبابنا بسوءٍ، فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعل تَدبيرَه تَدميرَه يا سميعَ الدعاءِ، اللهمَّ اجعل ولاةَ أُمورِ المسلمينَ خيرًا لشعوبِهم وأوطانِهم يا ربَّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم