عناصر الخطبة
1/الجود من صفات الله -تعالى- 2/علاقة رمضان بالجود 3/أثر الإيمان في سخاء النفس 4/من فضائل الصدقة 5/الحث على الزكاة والتحذير من منعهااقتباس
ففي رمضان، وبالعيش مع القرآن، تزكو النفس، وتتطهر من أدواء البخل والشح، فينعكس ذلك كرما على الخلق ونفعا لهم وبذلا، ويستطيع الإنسان بمجاهدة نفسه أن يصل إلى منزلة؛ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: أشرف ملابس الدنيا، وأزين حللها, جالب المحامد، ودافع المذمات, سمة يتحلى بها كل شريف، وهي بعيدة عن كل وضيع؛ إنها صفة الجود، ولو لم يكن لهذه الصفة من شرف وكمال إلا أن الله اتصف بها لكفى, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- جواد يحب الجود".
والجود يضاد الشح؛ فالكريم الجواد هو الذي اتقى شح نفسه وبخلها, قال ابن عباس: "كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدَ النَّاسِ -هكذا كان حاله الدائم, ولكنه في رمضان يتضاعف جوده كما يقول ابن عباس:-، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
ففي رمضان، وبالعيش مع القرآن، تزكو النفس، وتتطهر من أدواء البخل والشح، فينعكس ذلك كرما على الخلق ونفعا لهم وبذلا، ويستطيع الإنسان بمجاهدة نفسه أن يصل إلى منزلة؛ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
و"الصدقة برهان" كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: هي برهان ودليل على الإيمان؛ لأن المال من أحب المحبوبات إلى النفس، فمن بذله وضحى به لله كان ذلك دليلا صادقا على إيمانه؛ إيمانه بأن ما عند الله خير وأبقى، وأن المال الذي سينفقه فإنه الله الذي سيتقبله ويزكيه وينميه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ, وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ, وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ, حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ".
وإيمانه بأن الله سيخلفه في ماله كما وعد -سبحانه- فقال: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39]، وكما وعد رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ"، وكما سخر -سبحانه- ملكا ينزل كل يوم يدعو له ما دام منفقا, كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".
وإيمانه بأن تلك الصدقة مهما كانت يسيرة فإنها قد تكون هي حبل النجاة، وسبب الخلاص من العذاب, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وإيمانه بتقصيره في جنب الله، وكثرة ذنوبه وتراكم سيئاته، فيبذل المال ليتجنب السخط، ويحمي نفسه من عاقبة الذنب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ".
كل هذه الفضائل من يوقن بها فلا يمكنه أن يفرط في نيلها، والمسارعة إلى تحقيقها, فهذا سيد المؤمنين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه جابر -رضي الله عنه-: "ما سُئِلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن شَيءٍ قَطُّ، فَقالَ: لَا", وهو يضرب لنا بذلك أروع الأمثلة في الكرم والجود والسخاء, و" جَاءَهُ رَجُلٌ فأعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ!".
ومن أبرز تلاميذه الذين تعلموا منه هذه الصفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ومواقفه في ذلك لا تخفى على أحد, ومما جاء في ذلك عندما قدمت قافلة من ألف جمل, محملة سمناً وزيتاً ودقيقاً، وتوقّفت عند باب عثمان -رضي الله عنه- فلمّا أنزلت أحمالها في داره جاء التجار, قال لهم عثمان -رضي الله عنه-: ماذا تريدون؟ أجاب التجار: إنّك تعلم ما نريد، بعنا من هذا الذي وصل إليك؛ فإنّك تعرف حاجة النّاس إليه, قال عثمان: كم أربح على الثّمن الذي اشتريت به؟ قالوا: الدّرهم درهمين, قال: أعطاني غيركم زيادة على هذا, قالوا: أربعة, قال عثمان -رضي الله عنه-: أعطاني غيركم أكثر, قال التّجار: نربحك خمسة, قال عثمان: أعطاني غيركم أكثر, فقالوا: ليس في المدينة تجار غيرنا، ولم يسبقنا أحد إليك، فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟! قال عثمان -رضي الله عنه-: إن الله قد أعطاني بكل درهم عشرة، الحسنة بعشرة أمثالها، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا, قال عثمان: فإني أشهد الله أني جعلت ما جاءت به هذه الجمال صدقة للمساكين وفقراء المسلمين, ثم أخذ عثمان بن عفان يوزّع بضاعته، فما بقي من فقراء المدينة واحد إلاّ أخذ ما يكفيه ويكفي أهله!.
الله أكبر! والله ما أرادوا الدنيا ونعيمها، ولكنهم قوم باعوا أموالهم، فكان المشتري هو الله وكان الثمن هو الجنة؛ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التوبة: 111], فما أربحها من تجارة وما أعظمها من بيعة؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة: 267 - 271].
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إليهِ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن أعظم النفقات أجرا وأرفعها درجة, هو ما تقيم به ركن دينك، الذي بني عليه الإسلام، وهو ركن الزكاة التي فرضها الله -سبحانه- على عباده, هذا الركن القويم الذي شرعه الله -سبحانه تعالى- ليكون تطهيرا للفرد، وتنمية للمجتمع، وتحقيقا للتكافل الاجتماعي، وتدويلا للمال كي لا يكون حكرا على فئة دون فئة.
وأحكام الزكاة يجب على كل صاحب مال؛ من النقود, أو الأنعام, أو الذهب والفضة, أو عروض التجارة, أو غيرها من أموال الزكاة، يجب أن يتفقه فيها، ويعلم قدر النصاب، ووقت حولان الحول؛ ليؤدي قدر زكاته الذي فرضه الله.
وكثير من الناس يتهاون في بذل زكاة ماله، وهو بذلك يتعرض إلى وعيد خطير، قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ، لا يُؤَدِّي مِنْها حَقَّها؛ إلَّا إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفِّحَتْ له صَفائِحُ مِن نارٍ، فَأُحْمِيَ عليها في نارِ جَهَنَّمَ، فيُكْوَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظَهْرُهُ، كُلَّما بَرَدَتْ أُعِيدَتْ له، في يَومٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حتَّى يُقْضَى بيْنَ العِبادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إمَّا إلى الجَنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ".
ومصارف الزكاة ذكرها الله -سبحانه- في كتابه فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 60], وقد توفرت العديد من الجمعيات والمنصات الرسمية في هذه البلاد المباركة، التي تستقبل هذه أموال الزكاة وتصرفها إلى مستحقيها.
ومن النفقات التي يغفل عن احتسابها كثير من الناس النفقة على الأهل، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِذَا أنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً علَى أهْلِهِ، وهو يَحْتَسِبُهَا؛ كَانَتْ له صَدَقَةً", بل جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل النفقات, كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكيناً، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك".
فلا يضجر الإنسان من كثرة مصاريف الأهل والأولاد، وليبذلها طيبة بها نفسه، محتسبا بها ثواب الله ورضاه؛ لينال أجرها وعظيم فضلها في الدنيا بالخلف، وفي الآخرة بالأجر.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيتنا للبر والتقوى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم