عناصر الخطبة
1/ تعريف بسورة سبأ 2/ اهتمامها بموضوع العقيدة 3/ قضية إنكار المشركين للآخرة 4/ بيان وسائل المشركين في الصد عن سبيل الله وشبهاتهم حول الرسالة 5/ قصص تتعلق بشكر الله: داود وسليمان –عليهما السلام- وقصة سبأاقتباس
وسبأ قبيلة من العرب سكنت اليمن، سميت باسم جدهم سبأ بن يشجب بن قحطان، ففي موضع سكناه باليمن آية عظيمة دالة على الله -جل وعلا-، وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فإن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله عليهم خرب الله ملكهم، وشتت شملهم شَرَّ مُمَزَّق، وجعلهم عبرة لمن يعتبر ..
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ:1-2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى صحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: بدأنا هذه الخطبة بأول آيتين من سورة سبأ، السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها أربع وخمسون آية، وهي من السور المكية التي تهتم بموضوع العقيدة الإسلامية، وتتناول أحوال الدين، من إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والنشور.
وابتدأت السورة بتمجيد الله تعالى وحمده والثناء عليه الذي أبدع الخلق، وأحكم شؤون العالم، ودبر الكون بحكمته، عالم بكل أمور السماوات والأرض، يعلم ما يدخل في جوف الأرض من المطر والكنوز والأموات، وما يخرج منها من زروع ونبات وماء، وما ينزل من السماء من المطر والملائكة والوحي، وما يصعد إليها من الأعمال الصالحات والدعوات الزاكيات.
وهو الرحيم بعباده، الغفور عن ذنوب التائبين، حيث لا يعاجلهم بالعقوبة، وهو الخالق المبدع الحكيم الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهذا من أعظم البراهين على وحدانية رب العالمين.
وتحدثت السورة عن قضية هامة هي إنكار المشركين للآخرة، وتكذيبهم بالبعث بعد الموت، فأمرت الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد بعد فناء الأجساد: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [3-4]، أي: يثيب المؤمنين الذين أحسنوا في الدنيا بأحسن بالجزاء، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق حسن كريم في دار النعيم.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [5]، أي: وأما الذين بذلوا جهدهم لإبطال القرآن، مغالبين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظنون أنهم يعجزونه بما يثيرونه من شبهات حول رسالته وحول القرآن الكريم، هؤلاء المجرمون لهم عذاب من أسوأ العذاب.
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، أي: يعلم أولوا العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن جاء بعدهم من العلماء العاملين (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وهو القرآن، (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [6]، أي: ويُرشد من تمسَّكَ به إلى طريق الله.
ويبين الله تعالى أساليب المشركين في الصد عن دين الله، والسخرية برسول الله، فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [7]، أي: قال منكرو البعث هل نرشدكم إلى رجل يحدثكم بأعجب الأعاجيب؟ إذا بليتم في القبور وتفرقت أجسادكم في الأرض وسرتم تراباً ورفاتاً (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)! [7]، أي: ستخلقون خلقاً جديداً بعد هذا التمزيق والتفريق؛ والغرض من هذا المقال السخرية والاستهزاء.
(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي هل اختلق على الله الكذب أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدري فيرد الله تعالى عليهم (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) [8]، أي: بل الذين يجحدون بالبعث ولا يصدقون بالآخرة في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم عذاب النار.
ولما ذكر الله تعالى ما يدل على إثبات الساعة وهي القيامة ذكر دليلاً آخر يتضمن التوحيد مع التهديد فقال: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، أي: ألم يشاهدوا ما هو محيط بهم من جميع جوانبهم من السماء والأرض مما يدل على وحدانية الله؟ ثم هددهم بقوله: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)، أي: لو شئنا لخسفنا بهم الأرض كما فعلنا بقارون، وأسقطنا عليهم قطعاً من السماء كما فعلنا بأصحاب الأيكة، فمن أين لهم المهرب؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [9]، أي: فيما يشاهدون من آثار القدرة الإلهية لَآية وعبرة لكل عبد تائب رجَّاع إلى الله عز وجل.
ثم ذكر الله تعالى قصة داود -عليه السلام- وما خصه الله به من الفضل العظيم الواسع الذي لا يقدر له قدر، قال المفسرون: الفضل هو النبوة والزبور، وتسخير الجبال والطير، وإلانة الحديد، وتعليمه صنع الدروع؛ فقد سخر الله له الجبال تسبح معه وترجع التسبيح، وكذلك الطيور، وجعل الله له الحديد لينا بين يديه حتى كان كالشمع والعجين، ويعمل الدورع السابغة التي تقي الإنسان شر الحرب، يصنعه في بعض يوم، ويساوي ألف درهم، فيأكل ويتصدق، ويقدر في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقاتها، واعملوا يا آل داود عملاً صالحاً ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه، إن الله مطلع على أعمالكم، مراقب لها، وسيجازيكم عليها.
أما سليمان -عليه السلام- فسخر الله له الريح يسيرها بأمره حيث يشاء، وسيرها من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر للسائر المجد، ومن الظهر إلى المغرب مسيرة شهر؛ قال المفسرون: سخر الله له الريح تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات محدودة، تحمله مع جنده فتتنقل به من بلد إلى بلد، تغدوا مسيرة شهر إلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر إلى آخر النهار، فتقطع به مسيرة شهرين في يوم واحد، وأذاب الله له النحاس، حتى كأنه عين ما متدفقة من الأرض، وسخر له الجن تعمل بأمره وإرادته مما يعجز عنه البشر، ومن يعدل منهم عما أمرنا له عن طاعة سليمان نذقه النار المستعرة في الآخرة.
ثم أخبر الله تعالى عما كلف به الجن من الأعمال، حيث يعملون له ما يريد من القصور الشامخة، والتماثيل العجيبة من النحاس، قيل: لم تكن محرمة حينذاك، وقصاعا ضخمة تشبه الأحواض، وقدورا كبيرة ثابتات لا تتحرك لكبرها وضخامتها، وأمر الله آل داود بشكره على هذه النعم الجليلة، حيث خصهم بالفضل العظيم، والجاه العريض، وقليل من العباد من يشكر الله على نعمه.
ثم أخبر سبحانه عن كيفية موت سليمان -عليه السلام- فبين أنه لما حكم الله عليه بالموت ونزل به ما دلهم على موته إلا تلك الحشرة، وهي الأرضة "السوسة" التي تأكل الخشب، حيث أكلت مِنسأتَه التي يستند عليها، فلما خرَّ واقعا علمت الجن أنهم لو كانوا يعرفون الغيب كما زعموا ما مكثوا في الأعمال الشاقة تلك المدة الطويلة.
قال المفسرون: كانت الإنس تقول إن الجن يعلمون الغيب الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه، فمات، ومكث على ذلك سنة والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم الغيب؛ لأنهم لو علموه لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة وهم يظنون أنه حي، وهو -عليه السلام- ميت.
ثم بين سبحانه قصة سبأ الذين سميت بهم السورة موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى من المصائب على مَن كفر بأنعم الله، ثم ذكر كفار مكَّة بنعمه عليهم ليعبدوه ويشكروه.
وسبأ قبيلة من العرب سكنت اليمن، سميت باسم جدهم سبأ بن يشجب بن قحطان، ففي موضع سكناه باليمن آية عظيمة دالة على الله -جل وعلا-، وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فإن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله عليهم خرب الله ملكهم، وشتت شملهم شر ممزق، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.
ثم بين الله تعالى وجه النعمة بأنه كان لسبأ جنتان، أي: حديقتان عظيمتان، فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار، عن يمين الوادي بساتين ناضره، وعن شماله كذلك؛ وقال لهم الله على لسان الرسل: كلوا من فضل الله وإنعامه واشكروا ربكم على هذه النعمة، بلدتكم هذه التي تسكنونها بلدة طيبة كريمة التربة، حسنة الهواء، كثيرة الخيرات؛ وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره رب غفور لمن شكره.
فأعرضوا عن طاعة الله وشكره واتباع أمر رسله؛ فأرسل الله عليهم السيل المدمِّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته، فغرَّق بساتينهم ودورهم، وأبدلهم الله بتلك البساتين الغناء بساتين قاحلة جرداء ذات أكل مُرّ بشع، وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها، كشجر الأثل والسدر والخمط، وهو كل شجرة لها شوك وثمرتها مرة، وقال في السدر قليل لأنه كان أحسن أشجارهم. ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبهم الله به إنما كان بسبب كفرهم.
ومن تتمة ما أنعم الله به عليهم من النعم أن جعل بين بلاد سبأ في اليمن وبين القرى الشامية التي بارك الله فيها للعالين قرى متواصلة من اليمن إلى الشام يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل، وجعل السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إلى منزل ومن قرية إلى قرية، وقال لهم: سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل أو نهار.
قال الزمحشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدوَّاً، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخافون شيئاً؛ فحين بطروا النعمة وملوا العافية وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فجعل الله إجابتهم بتخريب تلك القرى، وجعلها مفاوز قفاراً، وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة، فجعلهم أخباراً تروى للناس بعدهم، وفرقهم في البلاد شذر مذر. إن في ذكر قصتهم لعبرا وعظات لكل عبد صابر على البلاء، شاكر على النعماء، والمقصود من قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم، ولهذا أصبحت قصتهم يضرب بها المثل فيقال: ذهبوا أيدي سبأ، أي: تفرقوا أيدي سبأ.
أيها الأحبة: هذه بعض المعاني والقصص للجزء الأول من سورة سبأ، أسأل الله أن ينفعنا بما جاء فيها من مواعظ وتذكرة، وأن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: سنذكر إجمالاً ماذا تناولت الآيات الأخيرة من سورة سبأ، فقد تناولت بعض شبهات المشركين حول رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين ففندتها بالحجة الدامغة، والبرهان الساطع، كما أقامت الأدلة والبراهين على وجود الله ووحدانيته، وذكرت اغترار المشركين بالمال والبنين، وتكذيبهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وأرشد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: إنما أوصيكم بخصلة واحدة وهي أن تتحروا الحق لوجه الله، والتقرب إليه مجتمعين وأفراداً، ثم تتفكروا في أمر محمد لتعلموا أن من ظهر لديه هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون مجنوناً، وإنما هو رسول منذر لكم إن كفرتم من عذاب شديد في الآخرة، وإني لا أسألكم أجراً على تبليغ الرسالة إنْ أجري وثوابي على رب العالمين، الذي هو رقيب وحاضر على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء، وسيجازي الجميع، وإنه سبحانه يبين الحجة ويظهرها فهو علام الغيوب.
ويقول له أنه قد جاء نور الحق وسطع ضياؤه وهو الإسلام وذهب الباطل بالمرة، فليس له بدء ولا عود، وقل يا محمد: إن حصل لي ضلال كما زعمتم فإن إثم ضلالي على نفسي ولا يضر غيري، وإن اهتديت إلى الحق فبهداية الله وتوفيقه؛ ثم ختمت السورة ببيان مصارع الغابرين، تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتحذيراً للمشركين.
عباد الله: هذه نظرة مجملة عن الجزء الأكبر من سورة سبأ، وإلا فتفسيرها وتوضيح معانيها يحتاج إلى أكثر من خطبة، وإنما اختصرت خشية الإطالة.
أسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونسمع، إنه سميع مجيب الدعاء.
وصَلُّوا وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم