عناصر الخطبة
1/ لا يُدرِكُ قيمةَ العافية إلا من فقَدَها 2/ العافية قيمة مطلقة لا تقبل التجزئة 3/ العافية أنواع 4/ مظاهر نقصان العافية 5/ تؤثر السلامة والعافية في مواطن الفتن 6/ فهم خاطِئ لبعض القَعَدةاقتباس
فاعلَموا -يا رعاكم الله- أن إيثارَ المرء السلامةَ والعافيةَ في دينه لا يُفهَمُ منه الرِّضا بالدَّعَة والقعود عما هو خيرٌ، وما هو واجبٌ لا يجوزُ القعودُ عنه، وإنما تُؤثَرُ السلامةُ والعافيةُ في مواطِنِ الفتنِ والرياء، وتساوِي الأمرَيْن معًا بحيث يشتبِهُ الحقُّ بغيره، فيدَعُ المرءُ ما يَريبُه إلا ما لا يَريبُه، ومن اتَّقَى الشُّبُهات فقد استبرَأَ لدينه وعِرضِه، ومن وقعَ....
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي العزة والجلال، غافر الذنب وقابلِ التوب شديد المِحال، مانِح كلِّ غنيمةٍ وفضلٍ، كاشِفِ كل عظيمةٍ وضيقٍ، أحمده -سبحانه- على سوابغِ نعمِه وواسع كرمِه وعظيمِ آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه إلى الثَّقَلَيْن الإنسِ والجنِّ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصِيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، فما أنتم في هذه الدنيا إلا مأمورون مُكلَّفون، تعترِيكم البلايا وتخترمُكم المنايا، وتترادَفُ عليكم النِّعَم، فلا تنالُون منها نعمةً إلا بفِراقِ أُخرى، ولا يحيا لكم أثر إلا ماتَ لكم أثر، ولا يتجدَّدُ لكم جديد إلا ويبلَى لكم جديد. وقد مضَت أصولٌ نحن فُروعُها، فما بقاءُ فرعٍ بعد أصل: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26].
أيها الناس: إن البشرَ بعامَّةٍ محكومون بالجِدِّ والكَدْحِ، وقد خلقَهم الله في كبَد: "كلُّ الناس يغدُو؛ فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها".
وهم بين كادحٍ مُلتذٍّ وآخر مُتألِّمٍ، قد يضعُفُون مع المتاعِب إلى حدِّ الهَوان، وقد ينتَشُون مع المنافعِ إلى حدِّ الطُّغيان، والكيِّسُ من هؤلاء جميعًا من لا يزيغُ ولا يطغَى، ويظلُّ رابطَ الجأشِ مُتماسِكًا في حالَيْه كلتَيْهما، ويدفعُ نفسَه دفعًا إلى الوقوفِ ببابِ خالقهِ ومولاه يسألُه العفوَ والعافيةَ في دينه ودنياه وأهلِه وماله؛ لأن إيثارَ العافية فِطرةٌ فطَرَها الله في الأنفُس؛ إذ لا يحبُّ البلاءَ والأوجاعَ إلا مُختلُّ المزاج مختومُ الفؤاد.
وإنه لا يُدرِكُ قيمةَ العافية إلا من فقَدَها في دينه أو دُنياه؛ فالعافيةُ إذا دامَت جُهِلَت، وإذا فُقِدَت عُرِفَت، وثوبُ العافية من أجمل لباس الدنيا والدين، وفيهما تلذُّ الحياةُ الدنيا ويحسُن المآلُ في الأخرى.
ومن هنا كان توجيهُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأمَّته رحمةً بهم وحِرصًا عليهم، حينما قال: "سلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية". رواه أحمد.
ولم يكتفِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولِه هذا لأمَّته، وإنما أردَفَ ذلك بفعلِه المُتكرِّر؛ لتشعُر أمَّتُه بقيمة هذه النعمةِ العظيمةِ، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- يقول: "اللهم إني أسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألُك العفوَ والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي...". الحديث. رواه أبو داود وغيره.
قال ابن الجزري -رحمه الله-: "من أُعطِيَ العافية فازَ بما يرجُوه ويُحبُّه قلبًا وقالَبًا، ودينًا ودُنيا، ووُقِيَ ما يُخافُه في الدارَيْن".
العافيةُ -عباد الله- قيمةٌ مُطلقةٌ لا تقبلُ التجزِئةَ والنسبيةَ، ولذلك يُخطِئُ من يقصُرُها على عافيةِ البدن فحسبٍ دون عافيةِ الدين؛ فمن اقتصَرَ على طلب العافية في البدن دون الدين فقد أسرفَ في الصُّدود وانحازَ عن جادَّة الصواب، ومن طلبَ العافيةَ في الدين دون البدن فقد ظلمَ نفسَه، وربما أضعفَ دينَه بضعفِ عافية دينِه، والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف.
والسعيدُ -عباد الله- كما قال ابن الجوزي -رحمه الله- هو من ذلَّ لله وسألَ العافية؛ فإنه لا تُوهَبُ العافيةُ على الإطلاق؛ إذ لا بُدَّ من بلاءٍ، ولا يزالُ العاقلُ يسألُ اللهَ العافيةَ ليتغلَّبَ على جمهور أحوالِه.
ومن عُوفِيَ فشكَرَ -عباد الله- أحبُّ إلى كل ذي لُبٍّ من أن يُبتلَى فيصبِر، كما قال أبو بكرٍ -رضي الله عنه-.
عباد الله: يلحظُ كلُّ نبيهٍ رامقٍ بعين بصيرته اهتمامَ عموم الناس بعافية البدن؛ إذ يُعطُونَ في تحصيلِ هذه النعمة الوقتَ والجُهدَ والتذكيرَ والدعاءَ، في حين إنهم يغفُلُون عن قيمةِ العافيةِ في الدين وسلامته من الآفات والابتلاءات؛ لأن فتنَ الدين تُوهِنُ الأفرادَ الذين هم مجموعُ المُجتمعات.
ومتى ما فرَّطَ المرءُ في تحصيلِ العافيةِ في دينه فقد آذَنَ نفسَه بهلاكٍ وتيهٍ، ويشتدُّ الهلاكُ والخُسران حينما يُجاهِرُ المرءُ بما بُلِيَ به من معصيةِ ربِّه؛ فيستُرُه اللهُ ثم هو يفضحُ نفسَه. ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قد صحَّ عنه أنه قال: "كلُّ أُمَّتي مُعافَى إلا المُجاهِرين".
نُقصانُ العافية في الدين تكونُ بالانحرافِ عن شِرعةِ الله؛ إما بطُغيانِ شهوةٍ بهيميَّةٍ تردُّ صاحبَها إلى حضيضٍ أوحَد يعبُّ فيه من الشهوات كما الهِيم، أو بطُغيانِ شُبهةٍ من الدين تنحرِفُ بصاحبِها إلى مصافِّ الذين يقعُدون بكلِّ صراطٍ يُوعِدون ويصدُّون عن سبيل الله من آمنَ يبغُونَها عِوَجًا.
وقد حذَّرَنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من خوارمِ العافيةِ في الدين؛ فقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "ستكونُ فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائِمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّفَ لها تستشرِفه". رواه البخاري ومسلم.
وقد كان مما علَّمَه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسنَ بنَ عليٍّ -رضي الله تعالى عنهما- أن يقول في دُعائِه وقُنوتِه: "اللهم اهدِني فيمن هدَيت، وعافِني فيمن عافَيت...". الحديث. رواه أحمد وأصحاب السنن.
إن من أعظم فُقدان العافية في الدين: أن يكون المرءُ مُفسِدًا لا مُصلِحًا، مُستهزِئًا لا جادًّا، مِعولَ هدمٍ لمُجتمعه لا عاملَ بناءٍ لبُرجِه المشيد، لا تجِده إلا في مظانِّ الاستِهزاءِ، أو سنِّ ما يخدُشُ الدينَ والفِطرة التي فطَرَ الله الناسَ عليها؛ ليحمِلَ وِزرَه ووِزرَ من عملَ بسُنَّته إلى يوم القيامة.
وقد جاء في السُّنَّة ما يدلُّ على نسبةِ الأحداثِ إلى مُحدِثِها، وأنه يتحمَّلُ إثمَه إلى يوم القيامة جرَّاءَ ما أوقعَ فيه غيرَه من إخلالٍ بنهجِ الله وشِرعته، فمن ذلك: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من نفسٍ تُقتلُ ظُلمًا إلا كان على ابنِ آدم كِفلٌ منها؛ لأنه أولُ من سنَّ القتلَ". رواه البخاري ومسلم.
ورحِمَ الله الإمامَ مالِكًا حينما أوصَى أحدَ تلاميذه، فقال: "لا تحمِلنَّ الناسَ على ظهرِك"؛ أي: لا تحمِل إثمَه بما يُحدِثُه، "وما كنتَ لاعبًا به من شيءٍ فلا تلعبنَّ بدينِك".
نعم، عباد الله: ليحذَر كلُّ من يضعُ لبِنةَ فتنةٍ أو إفسادٍ في دينٍ أو خُلُقٍ أنهم سيحمِلون أوزارَهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونَهم بغير علمٍ.
وليحذَر كلُّ من غرَّه ما في الباطلِ من تزويقٍ وما في الفتنِ والافتِتان من رُقوشٍ؛ فالحقُّ أبلَج مهما أُسدِلَت دونَه السُّتُور، والباطلُ لَجلَج، وما هو إلا كسرابٍ بقِيعةٍ يُغرِي ولا يُروِي، ولو نظرَ كلُّ ماشٍ تحت قدمَيْه لما وطِئَ شوكةً ولا عثَرَ بحُفرةٍ.
احذَر وُقِيتَ فتحت رجلِك حُفرةٌ *** كم قد هوَى فيها من الإنسانِ
ومن عُوفِيَ فليحمَد اللهَ.
ما زلَّ من طلبَ السلامةَ إنها *** للمرءِ حِصنٌ في الصُّرُوفِ العاتِية
لم يُعـطَ إنسانٌ ولا ذو همَّةٍ *** بعـد اليقـين بمثلِ تلك العافية
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فاعلَموا -يا رعاكم الله- أن إيثارَ المرء السلامةَ والعافيةَ في دينه لا يُفهَمُ منه الرِّضا بالدَّعَة والقعود عما هو خيرٌ، وما هو واجبٌ لا يجوزُ القعودُ عنه، وإنما تُؤثَرُ السلامةُ والعافيةُ في مواطِنِ الفتنِ والرياء، وتساوِي الأمرَيْن معًا بحيث يشتبِهُ الحقُّ بغيره، فيدَعُ المرءُ ما يَريبُه إلا ما لا يَريبُه، ومن اتَّقَى الشُّبُهات فقد استبرَأَ لدينه وعِرضِه، ومن وقعَ في الشُّبُهات وقعَ في الحرام.
وقد كان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: "إني لأدَعُ ما لا بأسَ فيه خشيةَ الوقوعِ فيما فيه بأسٌ".
ولقد أحسنَ القاضي الجُرجاني -رحمه الله- حينما قال واصِفًا قيمةَ العافية فيما يشكُوه في زمانِه:
ولم أبتذِل في خدمةِ العلمِ مُهجَتي *** لأخدِمَ من لاقيتُ لكن لأُخدَمَا
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كُلَّما *** بدَا طمَعٌ صـيَّرتُه ليَ سُـلَّمًا
إذا قيل: هذا منهَلٌ، قلتُ: قد أرى *** ولكنَّ نفسَ الحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا
أُنهنِهُها عـن بعـضِ ما لا يشينُها *** مخافةَ أقـوالِ العِدَا فيمَ أو لِمَا
ولهذا كان من اعتقاد أهل السُّنة والجماعة في الفتنِ والخُطوبِ المُدلهِمَّة أن السلامةَ لا يعدِلُها شيءٌ، والقعود أسلم إلا إذا تبيَّن لهم الحقُّ بالأدلَّة الشرعيَّة الواضِحةِ الصريحةِ الصحيحةِ؛ فإنهم ينصُرونَه ويُؤيِّدُونَه دون تردُّدٍ.
وقد ذكرَ بعضُ أهل العلم في قصة أصحاب الكهف قولَ بعضِ المُفسِّرين: "وفي هذه القصة دليلٌ على أن من فرَّ بدينِه من الفتنِ سلَّمَه الله منها، وأن من حرِصَ على العافيةِ عافاه الله، ومن أوَى إلى الله آواه الله، وذلك حالَ استِحكام الفتنِ أيَّمَا استِحكامٍ".
وإن مما ينبغِي الحَذَر منه: الفهمَ الخاطِئَ لبعض القَعَدة الذين يفهمُون العافيةَ في غير موضِعِها، فيستدلُّون بقولِه -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]، فيظنُّون أن معناها تركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وإصلاح الناس وبيان الصحيح في الفتن. وهذا ليس هو مُراد الله في كتابه، كما قال الصدِّيقُ -رضي الله تعالى عنه-.
بل إن المعنى: أنه لا يضرُّ المرءَ ضلالُ غيره، إذا هو اهتدَى وقامَ بما أمرَ الله به تِجاهَ الآخرين؛ من دِلالتهم للحقِّ وتحذيرِهم من الباطِل؛ لأن الهدايةَ بيدِ الله، وما على المرءِ إلا البلاغ، والله الهادي إلى سَواءِ السَّبيل.
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية، اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية في دينِنا وأموالنا وأهلِينا يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم