اقتباس
ومن مثل زينب الآن؛ فقد دخلت بيت النبوة وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وهي إلى جانب ذلك بنت عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأعظم من ذلك أن الله -سبحانه- هو من زوَّجها لنبيه -صلى الله عليه وسلم- من فوق سبع سموات، "فكانت تفخر على أزواج النبي...
رغم أنه -صلى الله عليه وسلم- إلى ساعتها لم يوح إليه بعد، لكن الله -تعالى- قد أعدَّه من صغره ليكون نبي هذه الأمة، فكان -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته "على خلق عظيم"، وهذا هو السبب الذي جعل زيد بن حارثة -مولى خديجة- يفضِّله ويقدِّمه على أبيه الحقيقي الذي نزل من صلبه، وليرد له النبي -صلى الله عليه وسلم- الجميل فقد جاء به إلى الكعبة ثم أعلن فيها -على عادة العرب- قائلًا: "يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابنى يرثنى وأرثه"، ومن يومها وصار زيد ابنًا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالتبني، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- "أن زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)[الأحزاب: 5].
وتتمة لواجب الأب -صلى الله عليه وسلم- تجاه ابنه فقد خطب له زينب بنت جحش، لكنها رفضته هي وأهلها وغضبوا غضبًا شديدًا؛ فكيف تتزوج القريشية الحرة الشريفة مولى كان يباع بالدراهم ويُشترى؟! حتى أنزل الله -تعالى- قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36]، وعندها أذعنت زينب قائلة: "إني استغفر الله وأطيع الله ورسوله، افعل ما رأيت".
لكن الخلافات تنشأ سريعًا بين زيد وزينب -رضي الله عنهما- وتتفاقم المشاكل، ويأتي زيد أباه بالتبني -صلى الله عليه وسلم- يستشيره في طلاقها، فيجيبه: "اتق الله، وأمسك عليك زوجك"، مرارًا وتكرارًا، حتى اتسع الخرق على الراقع، ووقع الطلاق والفراق بين زيد وزينب.
وأراد الله -تعالى- في عليائه أن يُبطل تلك العادة الجاهلية؛ عادة التبني، فأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج ابنة عمته زينب بنت جحش -رضي الله عنها- والتي كانت زوجة ابنه بالتبني؛ كي يبطل القرآن بذلك عادة التبني إبطالًا عمليًا لا مراء فيه ولا شك وإلى الأبد، وقد جاء ذلك واضحًا صريحًا في القرآن: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)[الأحزاب: 37]، وسبقتها هذي البينات الجليات: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)[الأحزاب: 4-5].
***
ووقف مرضى القلوب عند هذه الحادثة طويلًا، وأقاموا الدنيا ولم يُقعِدوها، وقالوا: "تزوج حليلة ابنه"، وأتوا بروايات موضوعة وضعيفة يطعنون بها في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتجون لافتراءاتهم بقول الله -عز وجل-: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)[الأحزاب: 37]، ونسجوا بخيالهم الخبيث الملوث قصصًا شيطانية عما أخفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفسه؟! وقالوا في أطهر الخلق -صلى الله عليه وسلم- ما نُعِف ألسنتنا عن ذكره، وللأسف فقد نقل بعض علمائنا شيئًا من كلامهم بحسن نية...
ونكتفي هنا بأن نبين التفسير الصحيح لهذه الآية حيث يقول علي بن الحسين: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد أوحى الله -تعالى- إليه أن زيدًا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها"، يقول القرطبي: "وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله -تعالى- على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: "أمسك" مع علمه بأنه يطلق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال، قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين".
***
ومن مثل زينب الآن؛ فقد دخلت بيت النبوة وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وهي إلى جانب ذلك بنت عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأعظم من ذلك أن الله -سبحانه- هو من زوَّجها لنبيه -صلى الله عليه وسلم- من فوق سبع سموات، "فكانت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن أهلكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات".. لذا فلم يكن ينافس عائشة في قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد من أزواجه كما صنعت زينب بنت جحش -رضي الله عنـهن أجمعين-، تقول عائشة عنها: "وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وتضيف عائشة -رضي الله عنها- شهادة صادقة توضح فيها بعض فضائل أم المؤمنين زينب بنت جحش قائلة: "ولم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله -تعالى-".
وقد كانت -رضي الله عنها- شديدة الورع تصون لسانها وجوارحها، فلم تدفعها الغيرة الفطرية من ضرتها عائشة أن تخوض في عرضها في حادثة الإفك، تشهد عائشة نفسها قائلة: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: "ماذا علمت، أو رأيت" فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا.. فعصمها الله بالورع".
***
وكانت زينب بنت جحش هي أول من لحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته من زوجاته -رضي الله عنهن-، ففي الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه: "أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا" قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد بطول اليد الصدقة"(هذا اللفظ للحاكم).
فقد أتاها أمر الله -تعالى- وانتقلت إلى الدار الآخرة "سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ودفنت بالبقيع" ويقال أنها أول امرأة صُنع لها نعش مغطى، وقد أشارت به أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- وكانت قد رأته في الحبشة.
فرضي الله عن أم المؤمنين زينب وأرضاها، وجزاها خيرًا على طاعتها إذ تزوجت زيدًا على غير هواها، ثم على بذلها وعطائها وورعها وصدقاتها.. وعقْدُنا هذا الملف حولها لهو أقل شيء نقدمه لها، فإليك محاوره.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم