اقتباس
زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب (رضي الله عنها)
د. عبدالجبار فتحي زيدان
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم اغفر لنا خطيئاتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا جدَّنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منَّا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير.
لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبغي من تعدُّد زوجاته الدنيا ومتاعَها، وإنما كان يبغي من ذلك تثبيتَ أركان الدين الجديد، ونشرَ الدعوة والرسالة؛ لذلك تعدَّدت أغراض زواجه - صلى الله عليه وسلم - فقد كان مثلاً الدافعُ إلى زواجه من زينب بنت جحش - رضي الله عنها - تشريعيًّا، نصَّ على ذلك صريحُ قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 36 - 40].
أوضحت هذه الآياتُ قصةَ زواجِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زينب - رضي الله عنها - لكن مما يؤسَف له أن يروي لنا عددٌ من المفسرين القدامى هذه القصة بطريقةٍ لا تليق ألبتة بأخلاقِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - شبيهةً بالقصة التي يرويها اليهود في التوراة عن داود - عليه السلام - أنه كان عنده تسع وتسعون زوجةً، ثم رأى زوجةَ أحدِ قادته العسكريين عاريةً فأعجبته فدعاها إليه فزنا بها، ثم حملت منه فعمد إلى زوجها فاغتاله ثم تزوجها، ويبدو أن اليهود قد دسُّوا مثل هذه القصة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلوها ضمن الروايات الباطلة التي اعتمد عليها مفسرون ومؤرخون مسلمون.
يقول الدكتور رياض هاشم: ذكر الطبري وابن الأثير وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد زيدًا، وكان على باب زيد سدٌّ من شعر، فرفعه الريح فرأى زينب وهي حاسرة ومكشوفة الرأس والوجه، فأعجبته"، وقد كانت زينبُ ابنة عمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد زوَّجها من مولاه زيد بن حارثة.
وقال أبو السعود في تفسيره:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ ببيتِ زيدٍ ولم يكن فيه زيدٌ، فرأى زينب فبهره حسنُها، وقال: سبحان الله مقلِّب القلوب.
ومعنى (مقلب القلوب): أن الله - سبحانه - جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يهوى زينبَ بعد أن كان لا يهواها من قبلُ، ومثل هذا قاله الزمخشري، والقرطبي، والنسفي، والسيوطي، ومَن سار على شاكلتهم.
وقد أفاض هؤلاء المفسِّرون في تعليل تلك الزيجة إفاضة عجيبة، واجتهدوا حتى غرُّوا أعداء الإسلام من الزنادقة، والمجوس، والمتشدِّقين بالعلم من باحثينا المعاصرين، من الذين استهوتهم آراء المستشرقين في الإطناب في تخريج هذه الروايات.
وإذا كان مؤرِّخون مسلمون ومفسرون مسلمون قد قالوا بهذا من غير وعي ولا إدراك، فلا عجب أن يستغل مستشرقون أقوالَهم، ويستندون إليها، ويضيفون عليها للطعن في سيد الرسل والأنبياء؛ كالمستشرقة مدام ريكامييه التي تقول عنه - صلى الله عليه وسلم - في شأن زواجه من زينب: "فقلب قلبه فجأة، ونسي سودة، وعائشة، وحفصة، وزينب المخزومية، وأم سلمة، ونسي كذلك ذكرى خديجة"، وكالمستشرق غوستاف لوبون الذي يقول: "وأطلق محمد العنان لهذا الحب حتى إنه رأى زوجة ابنه بالتبني وهي عارية، فوقع في قلبه شيء منها، فسرحها بعلها ليتزوَّجها محمد، فاغتم المسلمون غمًّا، فأوحي إلى محمد بوساطة جبريل الذي كان يتصل به يوميًّا من آيات تسوِّغُ له ذلك، وانقلب الانتقاد إلى سكون".
وأثار هذه القضية نفسَها كارل بروكلمان، وكذلك جرجي زيدان، وكثير من المستشرقين، وعدد من الباحثين العرب المعاصرين.
وهذه الروايات باطلةٌ جملةً وتفصيلاً، لا تليق بمن قال الله عنه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؛ لذلك لم يقبل هذه الروايات عددٌ من المفسرين من بينهم ابن كثير - رحمه الله - إذ يقول: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ها هنا آثارًا عن بعض السلف - رضي الله عنهم - أحببنا أن نضرب عنها صفحًا؛ لعدم صحتها فلا نُورِدُها".
ويقول محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة:
"على أن الغريب في هذه القصة ما أدخله المغفَّلون عليها من دسائس الشهوة ومظاهر الحب الرخيص، فقد زعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب زينب، ثم كتم هذا الحب، ثم أظهره بعد حين فتزوجها بعد أن أمر زيدًا بتطليقها"[1].
يذكر ابنُ كثير في تفسيرِه أن زينب بقيت عند زيدٍ زُهاءَ سنةٍ[2] ثم طلَّقها، وقد تزوَّجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمرها (38) سنة، وهذا يعني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوَّج زينب من زيد وقد تجاوزت سن الثلاثين، وقد كانت - رضي الله عنها - بنت عمته، فأمها أميمة بنت عبدالمطلب، وكان يعرفها شابة بالغة، وكان يشاهدها منذ طفولتها حتى صارت كهلة، فلو كان في قلبه أو نفسه - صلى الله عليه وسلم - شيء تجاهَها، لتزوَّجها هو، ولما قام بتزويجها لزيد، ولما أجبرها على ذلك، ولآثرها لنفسه، مع العلم أن زينب - رضي الله عنها - كانت قد رفضت في البَدْء الزواج من زيدٍ، وأبدت حبها ورغبتها في الزواج من محمد - صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان المستشرقون قد أعجبَتْهم روايات المفسرين المسلمين؛ لأنها توافقُ هواهم ونيَّاتهم الخبيثة، فإن الله قد هيَّأ من بني جنسهم ممَّن هو أعلم منهم وأشهرُ منهم يردُّ عليهم وعلى تلك الروايات التي أشاعها المفسرون المسلمون، وأعدُّ هذا في نظري من المعجزات النبوية، كيف أن الله - سبحانه - يُسَخِّرُ من أعداء الإسلام مَن يرد لا على خبث الأعداء فحسب، بل على أوهام علمائنا أيضًا؛ انتصارًا لهذا الدين أو لنبيِّ هذا الدين، فاسمع أخي القارئ ما يقوله قِس غير مسلم وغير عربي في هذه القضية، فبين يدي كتاب "محمد في المدينة" تأليف المستشرق مونتكمري واط - ترجمة شعبان بركات، وهو من كبار الأساتذة الجامعيين الأوربيين - يعرضُ هذا المستشرق في البَدْء ما أشاعه عددٌ من العلماءِ المسلمين القدامى كالطبري، والذين اتبعوهم من المستشرقين، يعرض رواياتهم حول مسألة تعدُّد زوجاته ولا سيما علاقته بزينب، فيقول ما نصه: "أخذوا ينمِّقون القصص حول علاقاته بالنساء، أو حبه من النظرة الأولى لزينب"[3]، فعبارته: "ينمقون القصص" تكاد تنطبق على أقوالهم بدقة، فهي تعني أنهم لم يختلقوا هذه الروايات الباطلة فحسب، بل نمقوها بكلام مرتَّب، رتبوا مقدماتها ونتائجها.
لذلك نرى هذا المستشرق يترك أقوال علمائنا والمفسرين القدامى، ويترك كذلك أقوال المستشرقين، ويستند لبيان حقيقة زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زينب إلى القرآن الكريم، فيذكر أن معاصري محمَّد ويعني بهم صحابته - رضي الله عنهم - ما كانوا ينتقدون هذا الزواج، ولكنهم كانوا ينتقدونه أنه كيف يجوزُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوَّج امرأةَ زيدٍ، وزيد هذا كان الرسول قد تبنَّاه، فكان من عادة العرب في الجاهلية تحريم الزواج من امرأة المُتَبَنَّى؛ لأنهم كانوا يعدُّون المتبنَّى كالابن الحقيقي، فمن أجل إبطال هذه العادة أمر الله رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالزواج من زينب، فيقول ما نصه: "وكانت هذه النظرة تستوحي المبدأ القديم القائل بأن الولد الرَّبيب المتبنَّى كالابن الحقيقي... غير أن تفسيرَ آيات القرآن المذكورة هو أنه لا يجبُ عدُّ الولد الربيب المتبنَّى كالابن الحقيقي؛ ولهذا فإنه يستحسن التخلي التام عن النظريات القديمة، وينم القرآن عن أن محمدًا في أول الأمر كان لا يريد الزواج من زينب؛ لأنه كان يخشى استهجانَ الرأي العام، ثم رأى أن هذا الزواج واجبٌ يفرضه الله عليه... فقد دلَّل زواجُه من زينب للمؤمنين أنه لا مانع للزواج من زوجة الولد المتبنَّى المطلَّقة، وكان من أهداف محمد في عقد هذا الزواج أن يقضي على سيطرة هذا الوهم القديم على سلوك الناس"[4]، وما ذكره مذكور في نص القرآن يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى.
ويذكر هذا المستشرق في صفحةٍ أخرى أن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زينب كان لهذا السبب، وسبب آخر هو أن زينب بنت جحش كانت تنتمي لقبيلة موالية لقبيلة عبدِشمسٍ المكية، وهي قبيلة كبيرة ولها مكانتها في ذلك الوقت، فكان زواجه منها غايته أيضًا تقوية علاقاته مع هذه القبيلة؛ إذ يقول ما نصه: "أما زواجها - يعني زواج زينب - من محمَّد، فيمكن أن يكون العامل الاجتماعي قد تغلَّب على العامل السياسي؛ إذ أراد أن يبرهن على أنه قطع كل عَلاقة بالمحرَّمات القديمة، ومع ذلك فإنه كان يفكر بقبيلة عبدشمس"[5].
ويذكر سببًا ثالثًا هو أن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زينبَ كان لغرضٍ سياسيٍّ أيضًا، ذلك أن أهل قبيلة زينب كانوا حلفاءَ والدِ أبي سفيان، وكان زواجه من زينب قبل زواجه من بنت أبي سفيان، وكان أبو سفيان يقود حملة عسكرية كبيرة ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - [6]، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بزواجه من زينب أن يمتص إلى حدٍّ ما عداوةَ أبي سفيان له.
ويذكر سببًا رابعًا، فيقول ما نصه: "ربما أدرك محمَّد أن زينب ملَّت زيدًا، وليس هناك من رجل يليق بأن يصبح زوجًا لها إلا هو"[7].
ويقول أخيرًا ما نصه:
"وبالرغم من القصص العاطفية، من البعيد أن يكونَ محمدٌ قد أُسِر بمفاتن زينب الجسدية... ولكن زينب حين تزوَّجت محمدًا كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، وهي سن متقدِّمة بالنسبة للعربية..."[8].
فهو بكلامه الأخير هذا ينفي بصفة مطلقة أن يكونَ الدافع إلى زواجه منها حبه لها، فقصة هذا الزواج كما يُوجِزها الأستاذ محمود محمد غريب - الموجِّه الديني لشباب جامعة القاهرة - هي كالآتي:
كان زيدٌ - رضي الله عنه - عبدًا عند خديجة - رضي الله عنها - فلمَّا تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقوم بخدمتِه.
جاء أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطالبُه بأن يعتق ابنه زيدًا ويعيده إليه، ففعل ذلك، إلا أن زيدًا أبى أن يعود إلى أبيه وآثر البقاء عند محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يجد أحدًا خيرًا منه في رحمته وحنانه، وحسن معاشرته وأخلاقه، فلما رأى أبوه منه ذلك تبرأ منه أمام الملأ، ونادى: أيا معشر قريش، اشهدوا أن زيدًا ليس ابني، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجبرَ خاطر زيد، فنادى في المقام نفسه: يا معشر قريش، اشهَدوا أن زيدًا ابني، ومنذ ذلك الحين أخذ الناس يسمونه زيد بن محمد، فقد تبنَّاه - عليه الصلاة والسلام - ثم عزم أن يزوِّجه فاختار له بنت عمته زينب بنت جحش، وكان - عليه الصلاة والسلام - يرمي من وراء ذلك تحطيم القيود التي وضعتها الجاهلية على العبيد؛ إذ كانوا يمنعون أن يزوِّجوا العبد من السيدة الحرة.
رفضت السيدة زينب في بادئ الأمر أن تتزوج زيدًا الذي كان عبدًا، كذلك رفض أخوها هذا الزواج، لكن السماء قالت كلمتها في هذا الموضوع، فلا اختيار في أمر الله، قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
وأطاعت زينبُ أمرَ السماء، أما قلبها فلا سلطان لها عليه، وكان لا بد لهذا الزواج من أن يُنجِب المشاكل، ويذهب زيدٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشتكي، ويطيِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاطره ويتألَّم له؛ لأنه كان يتمنَّى نجاح التجربة، ولكن الوحي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زينب ستُصبِح زوجةً له بعد أن يطلقها زيد، وفزع النبي - عليه الصلاة والسلام - من هذا الخبر؛ لأنه سيفتح عليه أفواه المنافقين؛ إذ كيف جاز له أن يتزوَّج زوجةَ متبنَّاه، وكان من عادة العرب في الجاهلية تحريم هذا الزواج؛ لأنهم كانوا يعدُّون المتبنَّى كالابن الحقيقي، فأراد الله إبطال هذه العادة الجاهلية؛ لذلك كتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - خبر الوحي راجيًا أن يعفيَه الله من هذا الزواج، في هذه اللحظات جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبِره بعزمه على طلاق زينب، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: أمسك عليك زوجك واتقِ الله، فنزل قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].
والمعنى: إذ تقول يا محمدُ لزيدٍ الذي أنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وأنعمت عليه بنعمة العتق: أمسك عليك زوجتَك، فلا تطلقها، واتقِ الله؛ لأن الطلاق أبغض الحلال، وتخفي في نفسك الشيء الذي سيُظهِره الله، وهو أنك تخفي أن زينب ستُصبِح زوجةً لك بعد طلاقها من زيد، كما أخبرك الوحي، وتخشى الناس وحديثَهم، بأنك تزوَّجتَ مطلقةَ ابنِك بالتبنِّي، وقد كان هذا محرَّمًا في الجاهلية، واللهُ أحقُّ أن تخشاه، فلما قضى زيدٌ منها وطرًا؛ أي: بعد أن طلقها زيد وانقضت عدَّتها، زوجناك منها[9].
فزواج زينب من زيدٍ، ثم طلاقها منه، وزواج الرسول - عليه الصلاة والسلام - منها، هذا كله تدبير من الله - جل وعلا - ليبطلَ الله بالعمل لا بالقول قانونًا جاهليًّا يقضي بتحريم زواج الرجل من امرأة ابنِه بالتبنِّي؛ ليبين الله - سبحانه - أن المتبنَّى لا يكون ابنًا حقيقة بأي حال من الأحوال؛ لهذا يجوز للمتبني أن يتزوج امرأة مَن تبناه بعد أن يطلقها.
فهذا الزواجُ كان لسبب تشريعي، وكان أيضًا لسبب إنساني؛ لأن زينب - رضي الله عنها -لم تكن راضيةً بزواجها من زيد - رضي الله عنه - إلا أنها قبِلت به بإلحاح من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاستحياؤها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإكرامًا له قبِلت بهذا الزواج، وقد رأى - عليه الصلاة والسلام - أنه هو الذي يتحمَّل نتيجة سوء العَلاقة بينها وبين زيد التي أدَّت بالنهاية إلى الفراق بينهما، فتزوجها مواساةً لها - رضي الله عنها.
وأبعد من هذا كلِّه كيف يتسنَّى لمؤرخ أو لمفسر أو لمستشرق، أن يزعم أن محمدًا رأى زينب فأُعجِب بجمالها فأمَر زيدًا ليطلِّقها من أجل أن يتزوجها، كيف وهذا الزواج قد فرضه الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بدون اختيار منه، وباعتراف المفسرين جميعهم بصريح قوله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ [الأحزاب: 37]؟! وكلمة ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ واضحٌ منها أن فاعل هذا الزواج هو الله - سبحانه - لذلك كانت زينب - رضي الله عنها - تفخرُ على نساء النبي جميعِهن بهذه الآية، وتقول: "كلكن تزوجتن في الأرض، أما أنا فزوَّجني الله من فوق سبع سموات".
ومثل هذه الأحاديث يُورِدُها الطبري نفسه والذين قالوا ما قالوا، يقول القرطبي في تفسيره: "ولهذا كانت زينب تُفاخِرُ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوَّجكن آباؤكن وزوَّجني الله - تعالى"؛ رواه النسائي، وتقول: "إن الله - عز وجل - أنكحني من السماء".
ويقول ابن كثير في تفسيره: وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخرُ على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقولُ: زوَّجكن أهاليكن، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سموات... وعن محمد بن عبدالله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة - رضي الله عنهما - فقالت زينب - رضي الله عنها -: أنا التي نزَل تزويجي من السماء، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب - رضي الله عنها.
وقال ابن جرير: حدَّثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب - رضي الله عنها - تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأدلي عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلي بهن: إن جدي وجدك واحد، وتعني بذلك عبدالمطلب، وإني أنكحنيكَ الله - عز وجل - من السماء، وإن السفير جبريل - عليه الصلاة والسلام.
وقوله - تعالى -: ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ [الأحزاب: 37]؛ أي: إنما أَبَحْنا لك أن تتزوَّجها، وفعلنا ذلك؛ لئلاَّ يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قبل النبوة قد تبنَّى زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فكان يقال: زيد بن محمد، فلما قطع الله - تعالى - هذه النسبة بقوله - تعالى -: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 4، 5]، ثم زاد ذلك بيانًا وتأكيدًا بوقوع تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش - رضي الله عنها - لمَّا طلَّقها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - ولهذا قال - تعالى - في آية التحريم: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23]، قال: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾؛ ليُحتَرز من الابن الدَّعِي (المتبنَّى)، فإن ذلك كثير فيهم.
وقوله - تعالى -: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾؛أي: وكان هذا الأمر الذي وقع قد قرَّره الله - تعالى - وحتمه، وهو كائن لا محالة.
وقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ [الأحزاب: 38]؛ أي: فيما أحلَّ له وأمره به من تزوج زينب - رضي الله عنها - التي طلَّقها دعيُّه (متبنَّاه) زيدُ بن حارثة - رضي الله عنه.
وقوله - تعالى -: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]؛ أي: هذا حكم الله - تعالى - في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، رد على مَن توهم من المنافقين نقصًا في تزوجه امرأة زيدٍ مولاه ودعيِّه الذي قد تبنَّاه"[10].
[1] بحث للدكتور رياض هاشم أستاذ مساعد في السيرة النبوية.
[2] تفسير ابن كثير.
[3] محمد في المدينة؛ مونتكمري واط، ص502.
[4] المصدر نفسه، ص502 - 503.
[5] المصدر نفسه، ص439 -440.
[6] المصدر نفسه، ص504 - 505.
[7] المصدر نفسه 505.
[8] المصدر نفسه، ص505 - 506.
[9] زواج النبي - صلى الله عليه وسلم.
[10] تفسير ابن كثير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم