اقتباس
فيا أيها المؤمنون ويا أيها المؤمنات: هذه أمكم أم المؤمنين أجمعين، فقد قال الله -عز وجل-: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، وأولى أزواجه هي أمنا خديجة، فلنعرف لها قدرها، ولننزلها منزلتها ولنعلِّم بناتنا الاقتداء بها، ولنذكرها في كل مجمع كي لا يتطرق النسيان إلى شمائلها، ولنسمِّي بناتنا باسمها، فيتردد اسم "خديجة" صباحًا ومساءًا في بيوتنا... فما أحوجنا في عصرنا هذا إلى خديجة في كل بيت، وخديجة في كل شأن... إذًا لانصلحت أحوالنا...
لما اختار الله -عز وجل- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلـم- ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين واختاره لمهمة البلاغ والإنذار والتبشير، فقد اصطفى له امرأة لتعينه على هذه المهمة ويثبت بها قلبه ويقوي بها ظهره ولتكون له المشيرة والخبيرة والمعينة، فاختار -سبحانه وتعالى- له الطاهرة خديجة بنت خويلد لتكون نعم المعين والنصير. ومن منا ينسى ليلة البعثة النبوية، ليلة ابتداء نزول الوحي؛ حين عاد النبي -صلى الله عليه وسلـم- من غار حراء واجفًا خائفًا مرتعدًا يقول: زملوني ودثروني، قائلًا لزوجته خديجة: "أي خديجة، ما لي، لقد خشيت على نفسي"، فأجابته جوابًا جبر الله به قلبه: "كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل... (متفق عليه).
هي أمنا وأم المؤمنين أجمعين، وهي زوجة نبينا -صلى الله عليه وسلـم- الأولى، وهي المؤيدة والمساندة والمثبتة له -صلى الله عليه وسلـم- من أول لحظة من لحظات بعثته، وهي أول من أسلم مطلقًا بعد رسول -صلى الله عليه وسلـم- فقد كانت في فترة من الفترات نصف الإسلام وحدها، وهي المنفردة برسول الله -صلى الله عليه وسلـم- خمسًا وعشرين سنة وحدها، وهي الطاهرة قبل الإسلام وبعدها؛ إذ كانوا يلقبونها في الجاهلية بـ"الطاهرة"، وهي المرأة الكاملة والزوجة الوفية والمنفقة السخية... وهي التي لا تنتهي فضائلها.
نعم، إن فضائل أم المؤمنين خديجة كثيرة عديدة لا تكاد تنحصر، قد أُخبرنا ببعضها، وكثير منها لم يشتهر ولم نعلمه، لها في الجاهلية فضائل، ولها داخل بيت محمد -صلى الله عليه وسلـم- فضائل، ولها في الإسلام فضائل... فبأيها نبدأ؟ وأيها نذكر؟ وأيها نقدِّم؟! إنها لتتسابق وتتسارع وتتسامى كلها لكي نعدَّها ونحدث بها، لكن دعونا نذكر ما اتفق منها وما تبادر منها إلى أذهاننا. فأولى فضائلها: أنها الرائدة السابقة إلى الإسلام: فقد أجمعت الأمة الإسلامية كلها أنها أول من دخل الإسلام من أهل الأرض، يقول ابن حجر: "ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت أن من سن سنة حسنة"(فتح الباري لابن حجر العسقلاني).
وثاني الفضائل: أنها المرأة الكاملة الفريدة النبيلة، خير نساء أهل الأرض، قرينة مريم ابنة عمران: فهذا علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد"(متفق عليه)، و"معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه"(شرح النووي على صحيح مسلم). وثالثها: أنها التي أرسل إليها الله -عز وجل- جبريل ليبلغها منه السلام عليها، ورابعها: أنه المبشرة ببيت في الجنة من لؤلؤة مجوفة: وقد جاءت هاتان الفضيلتان في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- إذ يقول: أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا نصب"(متفق عليه)، "قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف، وقيل: قصب من ذهب منظوم بالجوهر، قال أهل اللغة: القصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، قالوا: ويقال لكل مجوف قصب"(شرح النووي على صحيح مسلم). وكما قررنا سابقًا؛ إن فضائلها لا تكاد تنحصر أو تنتهي.
ولعل من أفضل فضائل أم المؤمنين خديجة وأبرز شيمها: ذلك الوفاء النبوي لها، وذلك الحب الذي استقر في قلب النبي -صلى الله عليه وسلـم- تجاهها، ويتضح وفاء النبي-صلى الله عليه وسلم- لها في المظاهر الآتية التي تدلي بها وتعرضها شاهدة واحدة هي ضرتها الصغرى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عن أمهات المؤمنين أجمعين-: أولًا: لم يتزوج -صلى الله عليه وسلم- عليها طوال حياتها: فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- على خديجة حتى ماتت"(مسلم)، ويعلق ابن حجر على هذا الحديث قائلًا: "وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه -صلى الله عليه وسلم- عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عامًا انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عامًا، وهي نحو الثلثين من المجموع ومع طول المدة، فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها"(فتح الباري لابن حجر العسقلاني). ثانيًا: إعلان النبي -صلى الله عليه وسلم- حبه لها ومجاهرته به: فعن عائشة أيضًا قالت: ما غرت على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على خديجة وإني لم أدركها... فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة! فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني قد رزقت حبها"(مسلم)، قال النووي: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رزقت حبها" فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت"(شرح النووي على صحيح مسلم). ثالثًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من ذكر فضائلها: تروي شاهدتنا عائشة -رضي الله عنها- فتقول: "ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياها"(متفق عليه)، ومن المقرر أن "كثرة الذكر تدل على كثرة المحبة، وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها: مدحها والثناء عليها"(فتح الباري لابن حجر، بتصرف قليل). رابعًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتعاهد صديقاتها وقريباتها بالمعروف عرفانًا بجميلها: فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ...وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟!، فيقول: "إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد"(متفق عليه)، وعنها أيضًا أنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: "اللهم هالة"، قالت: فغرت..."(متفق عليه). خامسًا: أنه -صلى الله عليه وسلـم- كان يغضب ممن ذكرها بسوء، ويرد غيبتها: فعن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله -عز وجل- بها خيرًا منها، قال: "ما أبدلني الله -عز وجل- خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -عز وجل- ولدها إذ حرمني أولاد النساء"(أحمد، وأصله في الصحيحين).
فيا أيها المؤمنون ويا أيها المؤمنات: هذه أمكم أم المؤمنين أجمعين، فقد قال الله -عز وجل-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، وأولى أزواجه هي أمنا خديجة، فلنعرف لها قدرها، ولننزلها منزلتها ولنعلِّم بناتنا الاقتداء بها، ولنذكرها في كل مجمع كي لا يتطرق النسيان إلى شمائلها، ولنسمِّي بناتنا باسمها، فيتردد اسم "خديجة" صباحًا ومساءًا في بيوتنا... فما أحوجنا في عصرنا هذا إلى خديجة في كل بيت، وخديجة في كل شأن... إذًا لانصلحت أحوالنا.
ومساهمة منا في "ملتقى الخطباء" في تكريس ذكرها ونشر فضائلها وعرفان جميلها... فقد جمعنا هذا الملف العلمي الشامل، وأسكناه كتبًا ومراجعًا، وخطبًا ودروسًا ومحاضرات، ودراسات وأبحاثًا وموادًا أخرى كثيرة، منها المسموع ومنها المرئي ومنها المقروء، ورتَّبنا هذه المواد في المحاور التالية، فلعل الله ينفع بها. :
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم