كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، يحيط به أصحابه دفعًا لأذى المشركين، فلما وصلوا جبلي الصفا والمروة تهلل وجهه؛ وقد تساءل الصحابة عن السر، فأخبرهم الحبيب ببشارة من رب السماء لزوجته خديجة..
لقد كانت خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- هي الوحيدة بين النساء التي حيّاها ربُها بالسلام، ووعدها ببيت من قصب اللؤلؤ في الجنة تعيش فيه بلا تعب ولا صخب برفقة الحبيبﷺ.. فماذا فعلت كي تنال هذا الشرف؟!
فضل خديجة .. أول المؤمنين
كانت السيدة خديجة أولى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن بدعوته وصلى بصلاة المسلمين وتوضأ بوضوئهم مع النبي.
ظلت أم المؤمنين رضي الله عنها زوجة النبي الوحيدة، على مدار حياتهما الممتدة 24 عامًا، وشهدت معه مشهد الوحي والبعثة، وربت بناته ومن شملهم بالرعاية في بيته من أبنائها السابقين(ربائبه) وغيرهم. [ابن إسحاق]
شاركت السيدة خديجة نبي الله حياته حتى الهجرة في السراء والضراء؛ فكانت سكنًا له من أذى المشركين، وعقلا راجحًا يعوده إذا اعترته حيرة قبل البعثة. [ابن هشام]
حين بشرها النبي بالجنة وسلام الله عند غار حراء، ردت خديجة رضي الله عنها: «الله السلام وعلى جبريل السلام» ويقول العلامة ابن حجر بكتابه: كانت فقيهة تفهم أن السلام اسم الله يطلب منه ولا يرد عليه، فلم تقل "وعليه السلام"[فتح الباري لابن حجر]
وقد بشّرها النبي بمنزلتها بين النساء في حديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: «خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة» [رواه البخاري]
نسب خديجة ..سيدة نساء قريش
سُميت السيدة خديجة بالطاهرة، وسيدة نساء قريش [الروض الآنف للسهيلي]، وهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي في النسب، ولم يتزوج من ذرية جده قصي غير اثنتين: خديجة بنت خويلد، والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما . [السيدة خديجة لعبدالحميد طهماز]
كان خُويلد بن أسد، أبوها، من أشراف قريش، وقد أُرسل ضمن وفد قريش إلى اليمن لتهنئة ملكها سيف بن ذي يزن، عندما انتصر على الأحباش بعد عام الفيل. [أخبار مكة للأزرقي]
أما والدتها فهي القرشية فاطمة بنت زائدة وبها تلتقي بنسب النبي، وذلك من جهة جدتها هالة بنت عبد مناف بن قصي بن كلاب.
ساهم إخوتها عن قرب بالأحداث الكبرى وهم: هالة بنت خويلد (أُم أبو العاص بن الربيع الذي تزوج بابنتها زينب بنت محمد)، والعوام بن خويلد (والد الزبير بن العوام)، ونوفل بن خويلد (قُتل مع المشركين في غزوة بدر).
أما أبناء إخوتها فمنهم حكيم بن حزام بن خويلد(كان تاجرا معروفا وأسلم، وأحبه النبي)، والزبير بن العوام بن خويلد حواري الرسول (رفيقه)، والأسود بن نوفل بن خويلد، أحد المهاجرين للحبشة. [ابن هشام]
وكان عمها عمرو بن أسد زعيم قومه، وعمتها أم حبيب بنت أسد هي والدة برة بنت عبد العزى جدة النبي لأمه، كما سنرى الدور الكبير الذي لعبه ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد في التبشير بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. [ابن هشام]
عاشت السيدة خديجة في بيئة ميسورة لم تعرف الإعسار، فكان ثراؤها معروفًا بين بطون العرب[صور من حياة الصحابيات لمحمد حامد]
أزواج السيدة خديجة قبل رسول الله
أول أزواج خديجة هو: أبو هالة بن النباش التميمي، كان بالغ الثراء، وقد توفي عنها تاركًا ولدين ذكرين وهما: هند وهالة. [الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر]
وكان هند بن أبي هالة، صحابي ربّاه رسول الله في بيته، وشهد غزوة بدر وقُتل مع علي بن أبي طالب في معركة الجمل، وعُرف بكونه فصيحًا بليغًا، وصف رسول الله فأحسن، وروى عن النبي صفته ، وحليته.وبه كنيت السيدة خديجة قبل الإسلام.
أما أخوه هالة بن أبي هالة فقد مات ولم يدرك الإسلام [الطبري]
الزوج الثاني للسيدة خديجة هو: عُتيق بن عائذ بن مجزوم: وقد عاشت معه وقيل أنها طُلِّقت، وقيل أنه توفي عنها، لكنها أنجبت منه ابنة واحدة، تزوجت وأسلمت لاحقًا وتدعى "هند بنت عتيق" [ابن حجر]
وظلت السيدة خديجة ترفض كل من تقدم لخطبتها بعد هذين الزوجين من شرفاء قريش حتى أعجبت برسول الله وكان زواجهما [ابن هشام]
تجارة النبي لخديجة .. بداية التعارف
كانت قريش معروفة بين القبائل بالتجارة، وكانت خديجة بنت خويلد واحدة من أشهر تاجرات قريش، تستأجر الرجال للخروج في رحلات تجارتها للشام مقابل الأجر.
في هذا الوقت كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ناهز العشرين من عمره، وأصبح شابًا جلدًا قويًا، بهي الطلعة، معروفًا بحلو الشمائل، وكرم الأخلاق.
أرسلت السيدة خديجة إلى النبي لما علمت عن أخلاقه، ودعته ليخرج في مالها وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة.
قَبِل محمد عليه الصلاة والسلام هذا العرض فرحل إلى الشام، وقيل بأن عمه هو من أقنعه، وقد حالفه التوفيق وعاد إلى خديجة بأرباح مضاعفة. [السيرة النبوية لمحمد أبوشهبة]
لم تنس السيدة خديجة رضي الله عنها ما قصه عليها غلامها ميسرة، بعد العودة من الرحلة للشام مع محمد؛ فقد ذكر لها رفض النبي القسم باللات والعزى خلال جدل مع أحد التجار اليهود، وجاء في رواية أن احد الرهبان ويدعى نسطور قد قال بنبوءة محمد في بصرى، كما جرت كرامات عدة للنبي ومنها ما رواه ابن اسحاق وابن هشام من الغمامة التي ظللته في الحر الشديد.. [ابن هشام]
ولما دخل محمد ﷺ مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في مجلس مرتفع، شاهدته على بعيره تكسوه المهابة والجلال، وقد أخبرها بخبر التجارة وما ربحت، فسُرت لذلك سرورًا عظيمًا، وأجزلت له في العطاء، ولكن شيئًا خفيًا كان يزيدها سعادة بما سمعت!
خديجة تعرض الزواج بمحمد
ظلت ذكرى قديمة تلح على السيدة خديجة رضي الله عنها؛ حين اجتمعت مع نساء مكة في عيد لهن في الجاهلية، فتمثل رجل يهودي يخبرهن بنبي يخرج من قريش يقال له أحمد، يُبعث برسالة الله، فلما رأت محمد صلى الله عليه وسلم وشمائله، لم تشك في كونه هو ذلك الرسول. [ابن إسحاق]
كان محمد أنضر الشباب وجهًا وأكملهن رجولة وخلقا، وكانت نفس خديجة تهفو إليه، لكنه لم يكن يفكر في الزواج لقلة ما في يده من المال.
واتفقت الروايات كلها على أن السيدة خديجة رضي الله عنها هي التي خطبت النبي لتتشرف بالزواج منه، ومهدت لإجراءات الخِطبة، وتجاوزت بذلك كل الأعراف والتقاليد التي تجعل الرجل هو الخاطب. [سيرة أمهات المؤمنين للنابلسي]
أرسلت خديجة صديقتها نفيسة للنبي أولًا لتتأكد من رغبته في الزواج منها، ثم ذهبت إليه وعرضت نفسها، وقالت: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك (مكانتك) في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك.
وعن أنس رضي الله عنه أن السيدة خديجة لما زارها النبي بإذن من عمه، خرجت إلى الباب وقالت: أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي وادع الإله الذي يبعثك لي. [فتح الباري]
ليلة السعد.. كيف تزوج النبي وخديجة؟
أعلمت خديجة أهلها برغبتها في التزوج من محمدﷺ، فوجدت منهم قبولًا وترحيبًا، وكذا رحب أعمام النبي، وخرج معه إلى بيت خديجة عمّاه: أبو طالب، وحمزة.
خطبها أبو طالب لابن أخيه محمدﷺ، بحضور عمها عمرو بن أسد، فوافق ورحّب وقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه (وهو مثل عربي يدل على الكفاءة والكرم).وأصدقها النبي بعشرين بكرة (أي: من الإبل) [ابن هشام]
وخطب أبو طالب خطبة زواج النبي قائلا :"إن ابن أخي لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفًا ونبلًا وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قلَّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم" يقصد النبوة [الواقدي]
كم كان عمر النبي حين تزوج خديجة؟ لقد كان عمره ﷺ خمس وعشرون (25) عاما، فيما كان عمرها أربعون (40) عاما. [ابن هشام]
في تلك الزيجة المباركة نزل قول الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8] فقد كانت خديجة نعم الزوج، وقد أعانته لحَمل أمانة الرسالة الأعظم.
ولما انتهى العقد، نُحرت الذبائح ودُقت الدفوف، فإذا بين الحضور "حليمة" قد جاءت من بادية بني سعد، لتشهد عرس ولدها الذي أرضعته، ثم لتعود في الغداة ومعها أربعون رأسا من الغنم، هبة من العروس.
ودمعت عينا "محمد" وهو يتفقد أمه "آمنة" فإذا يد لطيفة رقيقة، تأسو الجرح القديم في حنان غامر، وإذا به يجد في "خديجة" عوضًا جميلًا عما قاساه من طويل حرمان. [سيدات بيت النبوة لبنت الشاطيء]
كان الزواج أكبر دليل على عدم بحث النبي على أسباب المتعة الجسدية، وقد اختار كريمة قومها، وظل هذا الزواج قائمًا حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عامًا، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر، دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى [فقه السيرة للبوطي]
بشرى خديجة ومعجزة شق الصدر
روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، )فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثمّ حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه (يتعبد ذوات العدد(ليال عدة) قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء» [رواه البخاري]
ولما أصبح في عقده الرابع بدأت تظهر له المبشرات، يسمعها أو يراها، يقظةً أو مناما، فكان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه. [ابن هشام]
وقد ردت السيدة خديجة مخاوف النبي من أن يكون اعتراه شيء قائلة: «معاذ الله ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث» [الإصابة لابن حجر]
وكان الرسول كلما رأى رؤيا قصّها على خديجة، لكنه رأى رؤي العين وليس منامًا أن سقف بيته نزل منه ملكان؛ بينهما جبريل عليه السلام؛ فشقا صدره وجوفه وأخرجا ما فيه وغسلاه بماء زمزم، ثم جاءا بطست ذهبي ملؤه حكمة وإيمانًا وأفرغاه في صدره، ثم أطبقاه.. كان ذلك قبل حادثة الإسراء والمعراج مباشرة وقد قيل أن الله كان يهيء نفس النبي لمشاهدة ما هو أكبر مما يستطيعه البشر. ولما سمعت خديجة تلك المعجزة قالت: «أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرًا، هذا خير فأبشر» [فتح الباري لابن حجر]
نزول الوحي ويقين خديجة بالنبوة
ليلة القدر وفي غار حراء نزل أمين السماء ليبلغ النبي بحمل الرسالة، فأصابه الروع من حديث جبريل عليه السلام، وارتعد حين تلى عليه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1]
انطلق النبي في غبش الفجر مروّعًا مأخوذًا ترعد فرائصه، ويرجف فؤاده، وقد امتقع لونه، وشحب وجهه، ثم دلف بيته وهو يقول:«زمّلوني زمّلوني … لقد خشيت على نفسي» [رواه البخاري]
أسرع رسول الله لحبيبته وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها يخبرها بما جرى له، فما كان منها إلا أن ضمته إلى صدرها، ووضعت يدها على جبينه، وهي تهدىء من روعه قائلة له:
«الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا بن عم واثبت فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدا.» واستطردت في امتداح أخلاق النبي قائلة :«إنك لتصل الرحم وتحمل الكَل وتكسب المعدوم وتُقري الضيف وتُعين على نوائب الحق» [رواه البخاري]
نبوءة ورقة بن نوفل للنبي
انطلقت السيدة خديجة بزوجها بعد نزول الوحي، إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان حكيمًا جاهليًا مُسنًا اعتزل الأوثان واعتنق النصرانية، فلما سمع ما حدث معه، انطلق قائلا:
«قدوس ... قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت» [ابن هشام]
وقال ورقة : «يا ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أو مُخرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ثمّ لم ينشب ورقة أن توفي و فتر الوحي» [رواه البخاري]
السيدة خديجة أول من صلى مع الحبيب
ظهر جبريل أمين الوحي عليه السلام لمحمد ﷺ في أحسن صورة وأطيب رائحة بأعلى مكة، وفي رواية ابن إسحاق أنه أقرئه السلام من ربه، وقد ضرب الأرض برجله فانبعث الماء، وتعلم منه النبي الوضوء والصلاة، وصلى أول ركعتين قبل العروج إلى السماء في رحلة الإسراء.
لما عاد النبي إلى الأرض كان الحجر والشجر يسلم عليه، ولما جاء النبي السيدة خديجة ليخبرها، غشى عليها من الفرح.
أخذ الحبيب صلى الله عليه وسلم زوجته من يدها، حتى أتى بها زمزم، فتوضأ حتى يريها الوضوء، ثم أمرها فتوضأت، وصلى بها كما صلى به جبريل عليه السلام.
وبهذا كانت خديجة أول من آمن، وأول من ثبت، وأول من توضأ وأول من صلى بعد الحبيب المصطفى [ابن إسحاق]
إيذاء قريش لخديجة زوج الرسول
واجهت السيدة خديجة رضي الله عنها مع النبي عدوان المشركين، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما أن السيدة خديجة كانت سببًا بتفريج هم النبي من تكذيب قومه وإعراضهم.
تأذت خديجة في ابنتيها، وكان الله يعدهما بالخير، وقد طلب المشركون من عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب، أن يطلقا ابنتي رسول الله رقية وأم كلثوم، فأبدلهما ربهما خيرا من المشركين. [ابن هشام]
وفي حصار المشركين للمؤمنين ومن يحمونهم من بني هاشم وبني عبدالمطلب، بمنع الطعام والشراب والمصاهرة والتجارة معهم، قررت السيدة خديجة أن تترك قبيلتها بني أسد أهل القوة والمنعة، وتلتحق بزوجها النبي محمد ومن معه .
عانت السيدة خديجة مع الصحابة، حتى كان يُسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة ألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود [ابن هشام]
وقد اعتدى أبوجهل على حكيم بن حزام ابن أخي السيدة خديجة، لأنه كان يصطحب غلامًا بحمل قمح للسيدة خديجة إعانةً للمستضعفين.
امتدت يد قريش إلى تجارة خديجة تنال منها، فكانت تتقبل كل ذلك بصبر وجلد، وكثيراً ما كان يأتي رسول الله إلى منزله معفر الجبين، وقد أصابه سفهاء القوم بالأذى فتتلقاه بحنانها فتمسح جراحه الزكية، وتغسل وجهه الشريف، وتواسيه بالكلمة الطيبة.
واستمر حصار أهل مكة وقريش للنبي ثلاث سنين، حتى سنة عشر من بعثة الرسول، حتى تعاقد نفر من عقلاء قريش على نقض الصحيفة، ومحا الله ما كان فيه من جور بأن أكلته الأرضة (حشرة) وبعدها توفيت خديجة رضي الله عنها. [مجلة الوعي، سلسلة أمهات المؤمنين]
أبناء خديجة.. الأمومة الجارفة
أرخى الزمن في حياة النبي وخديجة تلك الرخية الهادئة خمسة عشر عامًا، ناعمين بالألفة والاستقرار، وقد أتم الله عليهما نعمته، فرزقهما البنين والبنات.
كما ذاقا في تلك الفترة لوعة الثكل في الولدين العزيزين القاسم وعبدالله، فكان للزوجين تصبرهما ما أعانهما على تجرع الكأس [بنت الشاطيء]
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها ولودًا ودودًا منجبةً، وهذا من محاسن المرأة التي امتدحها نبي الله [الروض الآنف]
عاشت خديجة مع الرسول خمسة عشر (15) عامًا قبل بعثته، أحاطته بكل رعاية وعناية واهتمام، وكانت هي السنوات التي شغلت فيها بإنجاب أولادها باستثناء عبد الله الذي ولد بعد البعثة.
وقد رزقت السيدة خديجة من نبي الله بولدين توفيا في صغرهما، ثم جاءت البنات: زينب ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
لم تكتف خديجة رضي الله عنها برعاية أولادها، بل رعت ربائب نبي الله، ومنهم: علي بن أبي طالب الذي طلبه النبي من بيت عمه للتخفيف عليه، وربت ابن أخيها العوام بن خويلد ويدعى "الزبير"، واختارت من رقيق أخيها حكيم صبيًا يدعى "زيد" بن حارثة، وقد استوهبه منها رسول الله، فأعتقه وتبناه قبل أن يوحى إليه.
وظل هند بن أبي هالة عند أمه خديجة بعد زواجها بمحمد، فكان ربيب رسول الله وكان أحسن من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة لم يكن الواحد منهم يستطيع رفع بصره طويلًا لمهابة وجه النبي. [الطبري]
تمتع هؤلاء الأبناء برعايةٍ وتربيةٍ قويمة من السيدة خديجة ساهمت بدورهم الكبير في الإسلام، فكان "عليّ" و"الزبير" و"زيد" من المسلمين الأوائل. [ابن هشام]
وكانت محنة رحيل الأبناء الذكور شاقة على نفسها وهي الأم الرؤوم؛ وقد بشرها النبي بمنزلتهم في الجنة. [بنت الشاطيء]
لما نزلت الآية { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] قالت أم سلمة : دعا النبي فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء ودعا لهم «اللهم هؤلاء أهل البيت» [الترمذي] وقد تربوا جميعا في كنف خديجة. [فتح الباري]
وقد شاء الله أن تضع السيدة خديجة مولودتها الأصغر فاطمة الزهراء، في اليوم الذي أنقذ الله فيه قريشاً على يد محمد صلى الله عليه وسلم من فتنة عمياء، فأعاد بيده الشريفة الحجر الأسود إلى الكعبة، بعد كارثة السيل الذي صدع جدرانها.
و بأولاد السيدة فاطمة ابنة خديجة ومحمد، حُفظت العترة المحمدية فى ولديها الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة، كما ورد بذلك الأثر عن النبى. [ابن هشام]
وفاة السيدة خديجة.. وعام الحزن
أصعب وأشق شيء على النفس هو فراق الأحبة بعد العشرة الطيبة، وبينما كانت المواجهة على أشدها بين الحق والباطل، وبحلول العام العاشر من بعثة النبي، إذا بجسد السيدة خديجة يعتريه الضعف والوهن وتستعد للرحيل.
فلم يمر على كسر حلقة الحصار وانهياره غير ستة أشهر حتى مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكافله بعد جده عبد المطلب،وقد حزن عليه النبي حزنًا شديدًا.
وقد كانت خديجة رضي الله عنها، وزير صدق على الإسلام، يشكو الرسول إليها ويجد عندها أنسه وسلواه. أما أبو طالب، فقد كان ناصرًا له على قومه.
ويقول ابن سعد في طبقاته: «كان بين وفاة خديجة وأبي طالب شهر وخمسة أيام» ولهذا سمي بعام الحزن.
وقد لاذت السيدة خديجة بفراشها، تتأهب لساعة الرحيل، ولم يطل رقاد خديجة في فراشها طويلًا إذ سرعان ما غشيتها المنية، وكانت وفاتها بين يدي الزوج الحبيب.
وبرحيل خديجة وعم النبي، زاد الفجار من القرشيين من إيذائهم، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يطمئنها بأن الله مانعٌ أباها وحاميه. [فقه السيرة للبوطي]
ذكرى خديجة وغيرة نساء النبي
تعددت زيجات رسول الله بعد السيدة خديجة لغرض تشريعي، ومن ذلك إيواء الضعيفات وربط الصلات مع أصحابه، ومنع تحكم الوثنيين.
وكان رسول الله شديد البِر بسيرة السيدة خديجة في حياتها وبعد رحيلها، حتى ثارت أحيانًا غيرة نسائه أمهات المؤمنين، والغيرة طبيعة في المرأة.
وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول : «ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة وما رأيتها» [رواه البخاري]
وذات يوم استأذنت هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة بالدخول على رسول الله، فكان صوتها أشبه بخديجة، فارتاح النبي وقال:«اللهم هالة». [رواه مسلم]
وفي مسند أحمد يوجد حديث تنكر فيه السيدة عائشة إكثار النبي من ذكر خديجة كبيرة السن الراحلة، ورد الرسول بأن الله لم يبدله خيرًا منها وقد آمنت به وصدقته وواسته ورُزق منها الولد.
وعن عائشة رضي الله عنها، أنه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول:أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبّها» [رواه مسلم]
وهكذا ظل رسول الله وفيًا لحبه للسيدة خديجة، ممتنًا لصنيعها الجميل في حياته، وقد ظن المشركون أن رحيلها يعني النهاية ولم يدركوا أنها لم ترحل إلا وأمين الوحي يرعى النبي صلى الله عليه وسلم، والسابقون الأولون يحيطونه بمهجهم وأرواحهم، والدعوة للإسلام تصل لما وراء بلاد العرب، وتحملها فئة من الصحابة عبر الصحراء والبحار إلى الحبشة.. لم تمت خديجة إلا ورجال من يثرب لن يلبثوا أن يبايعوا الرسول ويعودوا ليعبئوا المدينة لنصرته طمعًا في النصر على أعداء الله أو الاستشهاد في سبيله
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم