عناصر الخطبة
1/نعمة الستر وحقيقتها 2/الحث على ستر أهل المعاصي 3/فضائل الستر على المسلمين وثمراته 4/أحق الناس بالستر 5/التحذير من نشر الفضائح والمنكراتاقتباس
ولما أشارَ هزَّالُ بنُ يزيدٍ الأسلميِّ على ماعزِ بنِ مالكٍ الأسلميِّ أَنْ يعترفَ بخطيئتِه عندَ رسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-, دعاهُ الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقالَ له: "يا هزَّالُ! لو سَتَرتَه بثَوْبِك؛ كانَ خيرًا لكَ ممَّا صنعتَ به"...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الجليلِ الواقي لِمنْ اتقاه، الهادي لِمنْ استهداه، المستجيبِ لمن دَعَاه، لا مانعَ لما أعطاه، ولا رادَّ لما قَضَاه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له الحكمةُ البالغةُ فيما قَضَاه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه أفضلُ خلقهِ وصفوةُ أحبابِه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا،
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّ تقواه أفضلُ ذُخرٍ للعبدِ يومَ لقاه.
أيُّها المؤمنونَ: السَّترُ نعمةٌ ومنةٌ من اللهِ، إذَا أسبغه على العبدِ بَلَغَ به غايةَ السكينةِ والاطمئنانِ، والسَّترُ: هو إخفاءُ ما يَظْهرُ من العبدِ من زلاتٍ وعيوبٍ وذنوبٍ، وهذا الخُلُقُ العظيمُ صفةٌ من صفاتِ الرَّبِّ الرحيمِ، ودليلٌ على سعةِ فضلِه ورحمتِه على عبدِه مهمَا بَلَغَ به الحالُ من الذنوبِ والعيوبِ والتقصيرِ.
واللهُ -تعالى- ستِّيرٌ يُحبُّ السَّترُ، قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ"(رواه النسائي، وصححه الألباني).
ولقد كان نبيُّنا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عظيمَ الحياءِ، عفيفَ اللِّسانِ، حريصًا على كَتْمِ المعايبِ والزلاَّتِ، وكان يقولُ للناسِ: "ما بالُ أقوامٍ يقولونَ كذَا وكذَا"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وروى البخاريُّ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ: "يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ؛ فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ نَعَمْ, وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيُقَرِّرُهُ, ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"(رواه البخاري).
ولما أشارَ هزَّالُ بنُ يزيدٍ الأسلميِّ على ماعزِ بنِ مالكٍ الأسلميِّ أَنْ يعترفَ بخطيئتِه عندَ رسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-, دعاهُ الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقالَ له: "يا هزَّالُ! لو سَتَرتَه بثَوْبِك؛ كانَ خيرًا لكَ ممَّا صنعتَ به"(رواه أبو داود, وصححه الألباني).
أيُّها المؤمنونَ: ولقد كانَ السلفُ -رضي اللهُ عنهم- أحرصَ النَّاسِ على السَّترِ، فهذا أبو بكر -رضي اللهُ عنه- يقولُ: "لو أخذتُ سارقًا, لأحببتُ أن يَسْتُره اللهُ -عزَّ وجلَّ-، ولو أخذتُ شاربًا, لأحببتُ أن يَسْتُره اللهُ -عزَّ وجلَّ-"(رواه ابن أبي شيبة في المصنَّف), وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه- قالَ: "لا يَسْتُر اللهُ على عبدٍ في الدُّنيا؛ إلَّا سَتَر عليه في الآخرةِ"(رواه عبدالرزاق في المصنَّف).
وقال الحسنُ البصريُّ: "مَنْ كانَ بينَه وبينَ أخيهِ سِتْرٌ فلا يكشِفْه"(مكارم الأخلاق للخرائطي), وعن محمودِ بنِ آدمَ قال: سمعتُ سفيانَ بنَ عيينةَ يقولُ: "لولا سِتْرُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ما جالسَنا أحدٌ"(شعب الإيمان للبيهقي), وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: "المؤمنُ يَسْترُ وينصحُ، والفاجرُ يهتِكُ ويُعيِّر"(جامع العلوم والحكم لابن رجب), وقال ابنُ القيِّمِ: "للعبدِ سِتْرٌ بينَه وبينَ اللهِ، وسِتْرٌ بينَه وبينَ النَّاسِ، فمنَ هَتَكَ السِّتْرَ الذي بينَه وبينَ اللهِ؛ هَتكَ اللهُ السِّتْرَ الذي بينَه وبينَ النَّاسِ"(الفوائد).
فما أجملَ السَّترَ، وما أعظمَ بركتَه!؛ فهو جوهرٌ نفيسٌ، وعُملةٌ نادرةٌ، وطاعةٌ وقُربةٌ وإحسانٌ، يُورثُ المحبةَ بين الناسِ، ويُثمرُ حَسْنَ الظَّنِّ، ويُطفئُ نارَ الفسادِ والإفسادِ، وبه تقومُ الأخلاقُ، وتَحفَظُ الأُمَّةُ ترابُطَها وبُنيانَها، حضَّ عليه الإسلامُ وكافأَ عليه, قال -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "ومَن ستَرَ مُسْلمًا؛ ستَرَه اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ"(رواه مسلم).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيم)[النحل:18].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -أيها المؤمنون-، واعلموا أنَّ السَّترَ شأنَه عظيمٌ، ولولاهُ لافتضحَ أكثرُ الخلقِ، وَسَترُ الإنسانِ على نفسِه بعد الخطيئةِ عملٌ فاضلٌ مرغوبٌ فيه، ويُرجى لصاحبهِأنْ يَسترَه اللهُ عليه في الدنيا، ويغفرَه له في الآخرِة.
وأحقُّ الناسِ بالسَّترِ وكتمِ العيوبِ هم ذوو الهيئاتِ وأهلُ المروءةِ, الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرةُ بالمعاصي، ليسوا من المسوِّقين للمنكراتِ، قال -صلَّى اللهُ عليه وسلم-: "أقيلوا ذوي الهيئاتِ عثراتِهم إلاَّ الحدود"(رواه أحمد، وصححه الألباني).
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنَّ سترَ المعاصي والذنوبِ لا يعني تركَ مناصحةِ مَنْ وَقَعَ فيها، ولا يعني تهوينَها في النفوسِ؛ بل يجبُ التعاونُ قَدْرَ المستطاعِ على سترِها ومنعِها.
عبادَ اللهِ: وفي رمضانَ وغيرِه يجبُ الحذرُ من نَشْرِ الفضائحِ وإشاعةِ القبائحِ, عَبْرَ برامجِ ومواقعِ الانترنتِ، وشاشاتِ الفضائيَّاتِ، ووسائلِ التواصلِ، واعلموا أنَّ نشرَها يفتحُ على الناسِ أبوابَ الشرِّ والفسادِ، ويكونُ سببًا لضعافِ النفوسِ ومرضى القلوبِ للوقوعِ فيها, ومُعاقرتِها بلا خوفٍ من خالقٍ, أو حياءٍ من مخلوقٍ، فلا تسلْ بعدَ ذلكَ عن ضعفِ الثقةِ بين الناسِ.
وأشنعُ من التشهيرِ بالمعاصي أنْ يُعيِّر المرءُ أخاه بالذنبِ؛ فهذا خُلُقٌ دنيءٌ تأباه الشِّيَمُ، يقولُ الحسنُ البصريُّ: "كانَ يُقالُ: مَن عَيَّر أخاه بذنبٍ تابَ منه؛ لم يَمتْ حتَّى يَبتليَه الله به".
أسألُ اللهَ -تعالى- أَنْ يسترَ عيوبَنا، ويغفرَ ذنوبنَا، ويتجاوزَ عن زلاَّتِنا وهفواتِنا، وأَنْ يحفظَ علينا عافيتَنا وسترنَا في الدنيا والآخرةِ.
اللهم يا من سترت علينا في الدنيا استر علينا في الآخرة, ولا تفضحنا بين الخلائق يا كريم.
هذا, وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى, والقدوةِ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم