عناصر الخطبة
1/رمضان ضيف كريم 2/حاجة أرواحنا إلى رمضان 3/مظاهر عروج الروح في رمضان 4/العبودية أعلى مظاهر عروج الروحاقتباس
أولُ المعارج وأظهرُها في رمضان معراجُ الصيام, صوم رمضان لن يمنحَك أرضا، ولن يؤهلك للفوز بالسحب على سيارة، ولن تستحق به زيادة في الراتب, وإنما ستنال ما هو أعلى من ذلك بكثير, مكسب رمضان الأعظم هو الذي من أجله شرع الله فيه الصيام...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: ففي ظل انغماسنا في مشاغل الحياة، ومعافَستِنا لأحداثِها وأوجاعِها, وفي خضم بحر الدنيا المتلاطم، وزينتِها الخدّاعة، وطريقِها الموحش, إذا بالضيف يدق الباب: من الطارق؟ "أنا رمضان", احبس الأنفاس، واستعد للقاء, افتح الباب، واستقبل خير الأضياف.
رمـضانُ أقـبلَ يا أُولي الألبابِ *** فاستَـقْـبِلوه بعدَ طولِ غيـابِ
عـامٌ مضى من عمْرِنا في غفْلةٍ *** فَتَـنَبَّهـوا فالعمرُ ظـلُّ سَحابِ
وتَهـيّؤوا لِـتَصَـبُّرٍ ومـشـقَّةٍ *** فأجـورُ من صَبَروا بغير حسابِ
حين أقبل ضيفُ رمضانَ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قدمه لأصحابِه, وعرض عليهم بطاقةَ التعريفِ به فقال: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ", وفي الحديث الآخر: "ونادى منادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ, ويا باغيَ الشَّرِّ: أقصِر، وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ".
ساعاتٌ قلائل, ويبدأ السباق، ويشتد التنافس, سباق رمضان لن تجدَه في مضمارِ يكتظُّ بالجماهير، ولا في حلبة يتهافتُ عليها المعجبون، ولا في ملعب يتنافس فيه المحترفون؛ سباق رمضان هو سباقُ القلوب والأرواح، إلى رضوانِ الله ولذةِ القرب منه في الدنيا، ثم التنعمِ بجنته والنظرِ إليه في الآخرة.
جاء رمضان هبةً من الله ونعمة؛ ليرقيَ نفوسنا، ويعرجَ بأرواحنا، وينتشلَنا من وحلِ الدنيا وغمرتِها إلى مراقي الإيمان, ونعيم الصلة بالله -تعالى-.
عباد الله: كما أن الجسد يسقم ويجهد ويتعب، فهو يحتاج إلى الدواء والراحة والغذاء؛ فإن الروحَ كذلك تسقم وتسأم وتستوحش، وهي بحاجة ماسة إلى الطُّمأنينة والسكينة والغذاء, وكما أنك دائما تسعى في تربية جسدك وتطهيرِه؛ فإن روحك كذلك تحتاج منك السعي إلى صقلِها وتزكيتِها, وهنا تأتي فرصة رمضان!.
رمضانُ معراجُ الأرواح، الشهر الذي تصفو فيه القلوب، وتزكو فيه الأرواح، وتُغسل فيه الخطايا, مكاسبُ رمضان ليست مكاسبَ مادية تنتمي إلى طينة الأرض ونعيمِها الزائل، وإنما هي مكاسبُ روحيةٌ تنتمي إلى ملكوت السماء، ومعارج النعيم الخالد.
وأولُ المعارج وأظهرُها في رمضان معراجُ الصيام, صوم رمضان لن يمنحَك أرضا، ولن يؤهلك للفوز بالسحب على سيارة، ولن تستحق به زيادة في الراتب, وإنما ستنال ما هو أعلى من ذلك بكثير, مكسب رمضان الأعظم هو الذي من أجله شرع الله فيه الصيام، ووهبنا نعمة رمضان؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183], ذلكم هو المكسبُ الحقيقي، والربحُ الوفير (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
حين ترى الماء البارد في وسط النهار الحارق, الكأس يلمع، والبطن تقرقر، والنفس تتمنى وتشتهي، فيأبى المؤمن إلا طاعة الله، وحرمانَ النفس من شهواتِها؛ ابتغاء رضوان الله, وهل التقوى إلا ذاك؟.
حين يراك الله على هذه الحال، هل ستظن أن أحدا سيوفي أجرَك إلا هو؟! وهل ستظن أن الأضعافَ سيكون لها حد أو حصر؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أَجْلِي".
هل سبق أن قرأت أو سمعت أو شاهدت في حفلات التكريم، أو شهادات التقدير، أو كلمات الشكر والثناء، أحلى وأروع من هذه المباهاة من الله لعباده؟.
يا لله, ما أجلّها من كلمة! هي من المولى -سبحانه وتعالى- رواء على صدور الصائمين، إنه تصوير لمشهد العبودية، إنه تصوير لمشهد الإخلاص لله وحده، إنه تصوير لمشهد الاستسلام والطاعة له -جل جلاله-، ولو اشتهت النفس، ولو جاعت البطن، ولو جفت الشفاه من العطش، إنه إعراض عن الشهوات طوعًا واختيارًا للوصول إلى ذِرْوةِ سَنَام؛ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40، 41].
إن الصائمَ في رمضان يتحررُ بصومه من رقِّ الشهواتِ الدنيوية؛ لينال بذلك أعلى مقامات العبودية للواحد القهار.
من يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله؛ رجاءَ ثوابه وتصديقَ موعوده، فهو الذي سيؤهل إلى أن يفوز بجائزة المغفرة في آخر الشهر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".
من يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله، فهو الذي تصوم روحُه قبل أن يصوم جسدُه، فيمسكَ عن الحرام كلِّه من أجل الله، ولا يكتفي بمجرد إمساكِ الجسدِ عن الطعام والشراب، و"مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ", "ورُبَّ صائِمٍ حَظُّهُ مِنَ صِيامِه الجوعُ والعَطَشُ", "وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ", كما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الذي حُقَّ له أن يفرح بصومه؛ "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ", وهذا الذي حُقَّ له أن يستعد للوقوف عند زحام باب الريان؛ ليسرع إلى الري بعد عطش الصوم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ في الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ له الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ معهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ منه، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ منه أَحَدٌ".
عباد الله: في رمضان اتصلت الأرض بالسماء، ونزل جبريل بالقرآن، فأضاء بنوره ظلمات الأرض، وأحيا بغياثه صرعى الضلال, نزل القرآن في رمضان فبارك الشهر؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185] ، ونزل في ليلة القدر منه فبارك الليلة؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 1 - 3].
بالقرآن تعرج الروح إلى خالقها، فتتصل به، تنصت إلى حديثه، وتسمع توجيهاته، وتتبصر بهداه، وتقتبس من نوره, القرآن هو غذاء الروح الذي لا تحيا إلا به، بل هو الروح كما سماه الله؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52].
حين كان يدخل رمضان على النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يضاعف صلته بالقرآن، فيقوم به الساعات الطوال، يحيي به ليله، ويزكي به قلبه، وهكذا كان أصحابه والصالحون من بعدهم، يملؤون يومهم وليلتهم بالتلاوة والختمات, وكان رمضان هو موعد مدارسة النبي -صلى الله عليه وسلم- للقرآن مع جبريل في كل عام، كما قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنه-.
وإن من المعارج التي ترقى بها الروح في رمضان معراج الصلاة، الصلوات المفروضة التي هي خير الأعمال عند الله، ثم صلوات النوافل، وخصوصا صلاة الليل، حين يقوم الإنسان بين يدي ربه في هدأة الليل، فيسكنُ الجسد لتسافرَ الروحُ إلى رحلة علوية سماوية، فتستمدَّ من لقاء الله السكينةَ والطُّمأنينة، والراحةَ والإيمان، والطهرَ والنقاء, وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه"، وقال في شأن قيام رمضان: "إنَّ الرَّجلَ إذا صلَّى معَ الإمامِ حتَّى ينصرفَ؛ كتب لَه قيامُ ليلةٍ".
قلت ما سمعتم, وأستغفر الله الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أخي المسلم: كم سعيت لتملأَ جيبك من المال؟! وكم بذلتَ لتشبع بطنك من الطعام؟! وكم جَهِدتَّ لتنامَ على وافر الفراشِ وتلبسَ أحسنَ الثياب؟! لا حرج عليك في ذلك، ولكن أخبرني: أما آن لك أن تلتفت إلى روحك لتؤنسَ وحشتَها، وتلمَّ شعثَها، وتواسيَ أحزانَها، وتذيقَها سرورَها وبهجتَها؟!.
لئن كان الجسد يسعد بطيب الطعام ولذيذ الفراش، فإن الروحَ لا تسعدُ إلا بالوقوفِ على باب العبودية، والاتصالِ برب البرية، "ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية".
وليس هذه دعوة منا إلى رهبانية مذمومة، أو صوفية منبوذة، بترك الطيبات وتحريم المباحات، فديننا أعطى كل ذي حق حقه، وجاء بإشباع الجسد كما جاء بتغذية الروح.
ففي رمضان أُمرنا بتعجيل الإفطار كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ"، ورغبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في السحور ووصفه بالبركة؛ ليكون ذلك أرفق بالجسد، فقال: "عليكم بهذا السَّحورِ؛ فإنما هو الغَداءُ المُباركُ". فلا رهبانيةً تَحرِم الجسد، ولا غوايةً تهوي بها الروح.
أنصت بقلبك إلى المنادي، ولبي بروحك وجسدك ذلك النداء: "يا باغيَ الخيرِ: أقبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ: أقصِر".
اللهم بلغنا رمضان ونحن في صحة وعافية وإيمان, اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام وتلاوة القرآن وسائر الأعمال.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم