عناصر الخطبة
1/دور النفاق في نزول النكبات بالمسلمين 2/النفاق في عصر النبوة 3/النفاق في عصر الخلافة الراشدة 4/دور النفاق في الفتنة بين الصحابة 5/دور النفاق في إسقاط الخلافة العباسية ومذبحة بغداد 6/تحذير القرآن من خطر المنافقين 7/سقوط الدولة العثمانية على يد المنافقين واليهود 8/الموقف الشرعي تجاه المنافقيناقتباس
بدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة استوعبت أرجاء الجزيرة، حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد -صلى الله عليه وسلم- على صحيح الدين إلا أهل...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
والحديث لا يزال موصولاً عن أخطر فئة على مجتمعات المسلمين، وهم المنافقون.
المتأمل للتاريخ يدرك أن أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين أفراداً ومجتمعات ودولاً، إنما حلّت بهم عن طريق النفاق والمنافقين.
واليوم نقلب بعض أوراق التاريخ، ونتأمل في بعض صفحاتها لنأخذ العبرة والعظة، ولندرك خطورة هذه الشرذمة على الأمة.
لنبدأ من أطهر فترة في تاريخ المسلمين بعد عهد النبوة، عهد الخلافة الراشدة.
توفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتولى الخلافة أبو بكر -رضي الله عنه-، ومع أن مدة خلافته كانت قصيرة، لكنه شُغل رضي الله عنه، واستغرق جهده في مدة حكمه، بفئام ممن كُتم نفاقهم، وأُسكت صوتهم، أيام تَنزُّل الوحي، حيث كانوا دائمي الخوف، وهذا سر انقماعهم، إنه الخوف من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ) [التوبة: 64].
فلما أمِنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق كان مستوراً، وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كُرهاً على عهد الرسالة: (وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة: 98].
وبدأت معالم فتنة تولى كبرها مبكراً أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذّر منهم: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَـافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: 101].
بدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة استوعبت أرجاء الجزيرة، حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد -صلى الله عليه وسلم- على صحيح الدين إلا أهل المسجدين، فقد بدأ الأمر بشبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: "كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكن لنا".
متذرعين بأن الله -تعالى- قال: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة: 102].
فقام الصديق وأعلنها مدوية: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام.
ولا ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين الذين تحولوا إلى مرتدين، ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فساداً داخل حصن الإسلام والمسلمين.
وشاء الله -تعالى- أن يُطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به رجل واحد استطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم.
وفي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خنس النفاق وانقمع، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره؟!
ومع هذا، فإنه قتل رضي الله عنه بتواطؤ المجوسي أبي لؤلؤة مع رجلين آخرين كان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى الهرمزان، وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر -رضي الله عنه- نفاقاً، والآخر يدعى جُفينة، وقد مات على النصرانية، فتمكن النفاق أن يطعن خنجره في خليفة المسلمين وهو يصلي بالمسلمين، ليلقى الله شهيداً.
وأما في عهد عثمان بن عفان، فقد تحرك النفاق بصورة لم يسبق لها زمن صاحبيه، تمثّل في عبد الله بن سبأ وجماعته حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب بابن السوداء الإسلام في زمن عثمان، وانطلى نفاقه على كثيرين، واجتمع على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر، زاعماً النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم، وبث الخلاف بينهم، وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، وبدؤوا فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل من كان يستحي منه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
وتأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: (وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّـالِمِينَ) [التوبة:47].
وبعدها نشبت الفتنة، ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت بقتل عثمان -رضي الله عنه- بعد أن حاصروه في بيته مدة أربعين يوماً، وقتله المجرمون، وأَسالوا دمه مفرَّقاً على المصحف الذي جمع الأمة عليه، ولم يكن يدور بخلد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما وصلت إليه، حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج، ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تغلق بعد ذلك، فقد ظل قتلة عثمان موضوعاً لمزيد من الفتنة، ومزيدا من المصائب التي رُزِئ الإسلام بها، بسبب النفاق وأهله.
بويع علي بالخلافة، وباتت ظلال المصيبة مخيمة على الأجواء، واختلطت مشاعر الحزن بمشاعر الغضب، حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على الثأر، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قتل فيه عثمان ملطخاً بدمه، ووضعوه على منبر المسجد بالشام حيث كان هناك معاوية ابن عم عثمان، وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة آخرون على علي في المدينة أن يقيم الحدود على قتلة عثمان، فلم يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم، ولكنه طلب التمهل حتى تستقر الأمور؛ لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.
ولولا نفاق هؤلاء وتسترهم بالإسلام مع اختلاطهم في الناس لما أشكل أخذهم، والثأر منهم، ولكنه النفاق الذي يخدع ويخادع، ويخلط الأمور كلما كادت أن تصفو، فتحرك المنافقون الذين يزعجهم استقرار مجتمعات المسلمين، وتوحد كلمتُهم، ونشبت بسببهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- الحرب بين علي ومعاوية -رضي الله عن الجميع-، وازداد سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضاً في طائفتين دعواهما واحدة، وقُتل من المسلمين خلق كثير فُجع لأجلهم علي -رضي الله عنه- حتى تمنى لو كان مات قبل أن يرى ذلك، فقد قال لابنه الحسن لما رأى القتل يستحرُّ في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: "يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة" فقال الحسن: "يا أبَهْ! قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني! إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا".
وصدق رضي الله عنه فلم يكن ممكناً لأحد أن يتصور أن تبلغ خيانة المنافقين على الأمة إلى أن تنشب مثل هذه المعركة التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين، منهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.
إنه النفاق والذي بسببه حصلت بين المسلمين موقعتي: صفين والجمل، فاضطر علي -رضي الله عنه- لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمة نكراء في موقعة النهروان التي قتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي.
وهل انتهت فتنة النفاق عند هذا؟
لا، لم يتركوه رضي الله عنه، بل كان مقتله هو أيضاً على أيديهم حيث قتله الأثيم عبد الرحمن بن مَلجَم، وهكذا تمكن المنافقون من قتل الخليفة الثاني عمر، والخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي -رضي الله عن الجميع-.
إنه النفاق، وفي أيامنا هذه كيف قُتل أسد الشيشان؟
لقد قُتل غدراً باستخدام مادة النفاق التي يصعب تمييزها في بعض الأحيان.
أيها المسلمون: لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية في حادثة من أبشع حوادث التاريخ ذكرها بتفاصيلها وآلامها، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية، ملخصها: أن المستعصم بالله محمد بن الظاهر كان هو الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة سنة 639هـ، بعد وفاة أخيه المستنصر بالله عبدالله بن الظاهر.
وكان للمستعصم وزير يسمى محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور ب"ابن العلقمي"، وكان منافقاً رافضياً خبيثاً استطاع بإظهاره الصلاح والتقوى التقرب إلى السلطان، حتى صار وزيراً للخليفة، وهذا هو شأن المنافقين في كل وقت، فإنهم يحرصون على مثل هذه المناصب ليحققوا من خلالها ما يريدون.
كتب هذا المنافق كتاباً إلى "هولاكو" ملك التتار يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد، وأن يزيل خلافة المسلمين إذا حضر بجيوشه إليها، وكان التتار قد هُزموا في عهد المستنصر بالله، وقُتل منهم خلق كثير، وكان هذا العلقمي يريد ويهدف إلى محو أهل السنة، وإقامة دولة فاطمية رافضية مكانها.
فكتب "هولاكو" لابن العلقمي بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة، فإن كنت صادقاً فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرِّق العسكر، فإذا عملت ذلك حضرنا.
فلما وصل كتاب "هولاكو" إلى الوزير ابن العلقمي دخل على المستعصم وزيّن له أن يُسرّح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن، ولأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر، ولثقة الخليفة بوزيره كما هي العادة، استجاب الخليفة لرأيه وأصدر قراراً عسكرياً بتسريح خمسة عشر ألف عسكري، فخرج "ابن العلقمي" ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد، وكل ملحقاتها الإدارية، وفرقهم في البلاد.
وبعد عدة أشهر زيّن هذا المنافق للخليفة مرة أخرى أن يسرّح أيضاً عشرين ألفاً، واستجاب الخليفة له وأصدر أمراً بذلك، ففعل "ابن العلقمي" مثلما فعل في المرة الأولى، وانتقى أفضل الفرسان فسرّحهم، وكان هؤلاء الفرسان الذين انتقاهم بقوة مائتي ألف فارس.
فأصبح عدد جيش بغداد لا يزيد على عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا نحو مائة ألف جندي.
ولما أتم مكيدته كتب إلى "هولاكو" بما فعل، فركب "هولاكو" وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة، وقاتلوا ببسالة وصبر، حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى، وتبعهم المسلمون، وأسروا منهم، وعادوا مؤيدين منصورين، ومعهم الأسرى، ورؤوس القتلى، ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فأرسل المنافق الرافضي "ابن العلقمي" جماعة من أصحابه ليلاً فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل، والناجي منهم من أدرك فرساً فركبه وخرج من معسكر الوحل.
وكان "ابن العلقمي" قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه، فقد هيأ له الأمر بما يحقق له ولجيوشه الظفر، فعاد "هولاكو" بجيوشه وعسكر حول بغداد، ولمّا أصبح الصباح دخل جيش التتار بغداد، ووضعوا السيف في أهلها، وجعلوا يقتلون الناس كباراً وصغاراً، شيوخاً وأطفالاً، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى ملك التتار "هولاكو" فأخرجهما "هولاكو" إلى ظاهر بغداد، ووضعهما في خيمة صغيرة، ثم أمر عسكره بقتلهما ضرباً بالأرجل، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفساً، ثم دخل التتار دار الخلافة فسلبوا ما فيها، وصاروا يقتلون كل من يشاهدون من أهل مدينة بغداد، حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس -أي مليوني قتيل-، واستمر التتار أربعين يوماً، وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحداً.
قال ابن كثير -رحمه الله-: بأن القتل استمر أربعين يوماً في بغداد، فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها، ليس فيها أحد إلاّ الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الوباء والفناء، والطعن والطاعون -فإنا لله وإنا إليه راجعون-.
ولما نودي بالأمان في بغداد، خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليسلم من القتل، وبعضهم حفر المقابر، ودخل فيها، فلما نودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر أناس كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر، بسبب تلوث الهواء، فماتوا على الفور.
يقول ابن كثير: وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى: الله لا إله (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) [سورة طـه: 8]
وبمقتل المستعصم بالله انتهت الخلافة في بغداد، وسقطت الدولة، بفعل هذا المنافق.
استدعى "هولاكو" ابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، و"هولاكو" رجل ذكي يعلم خطورة هذا الصنف من البشر، والذي خان غيره قد يخونه، فقال له: لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيراً، وأنت مخالف لملتنا، فإنك لم تحسن لأهل ملتك، فما نرى إلاّ أن نقتلك.
ثم أمر بقتله، فقُتل شر قتلة.
هكذا النفاق، يقوض أركان الدول إذا لم يُنتبه له، وهذه أحد حيل المنافقين في التخريب والإفساد، وهو إدخال العدو إلى داخل الدولة المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم، حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة.
وإدخال العدو للبلد قد يكون حسياً، كما فعل "ابن العلقمي" وذلك بإدخاله مباشرة بقضّه وقضيضه، ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة.
أو يكون معنوياً، فيكون القتل بطيئاً، وذلك بإدخال فكره وثقافته، وترويجها بين الناس ونشرها عن طريق الطابور الخامس، وهم المنافقون والشهوانيون والعلمانيون، فيقومون هؤلاء بتهيئة الجو، وخلخلة الثوابت والأسس، حتى يتحلل المجتمع تدريجياً، ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة، لعب فيها النفاق دوراً بارزاً وكبيراً.
فنسأل الله -جل وتعالى- أن يكفينا شر المنافقين والعلمانيين، وأن يحفظ بلاد المسلمين من شرورهم ونفاقهم وخداعهم، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم، أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يُخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
لقد حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم -رحمه الله-: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
ومما يوجب مزيد الحذر من المنافقين: أنهم كثيرون منتشرون في بقاع الأرض، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أحواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة -رضي الله عنه- رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: "يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق".
أيها المسلمون: وعوداً إلى التاريخ، فإن النفاق كان له دور بارز في إسقاط الدولة العثمانية، كما كان دوره بارزاً في إسقاط الدولة العباسية.
فمهما قيل عن خلافة آل عثمان من الأتراك، وما كان عليها من المآخذ، فإن التاريخ يحفظ لهم أنهم حافظوا على وحدة العالم الإسلامي في كيان سياسي عالمي استمر ما يزيد على خمسة قرون، صدوا خلالها عن المسلمين الحملات الشرسة من كفار الشرق والغرب من الروس والأوروبيين.
ولكن تلك الخلافة التي أذلت كبرياء طواغيت العالم في العديد من الملاحم، تكرر معها في أواخر عهدها أمر قريب مما حدث مع الدولة العباسية، حين استوزر الخلفاء، وقربوا عناصر من المنافقين الحاقدين على الإسلام الحاملين لأسماء المسلمين، فقد سيطر على مقاليد الأمور في تركيا في أواخر عهد الخلافة شرذمة من منافقي اليهود الذين كانوا قد قدموا إلى تركيا من أسبانيا بعد أن طردهم النصارى من هناك بعد انتهاء حكم المسلمين في الأندلس، وتكوَّن تحالف غير مقدس من اليهود الصرحاء والنصارى في الخارج، مع المنافقين الأتراك في الداخل سواء كانوا من أصول تركية، أو من هؤلاء الدخلاء المهاجرين الذين كانوا مع أعداء الأمة قلباً وقالباً.
ومع مجيء القرن العشرين كان التنسيق بين اليهود وبين المنافقين الأتراك قد بلغ مداه، وبخاصة عندما رفض السلطان العثماني عبد الحميد أن يعطي اليهود فلسطين ليقيموا عليها دولة لهم.
فعندها عزم زعيم الصهيونية الحديثة "هرتزل" على إزاحة تلك العقبة، وهي الخلافة الإسلامية ليقيم اليهود على أنقاضها دولة للمنافقين المرتدين في تركيا، ثم دولة لليهود الظاهرين في فلسطين، ولم يكن بوسع "هرتزل" ولا من حوله من المنظمات اليهودية المدعومة بنصارى أوروبا أن يصلوا إلى هذين الهدفين لولا أولئك المنافقين المتسمين بأسماء المسلمين داخل تركيا.
فقد تأسس المحفل الماسوني المسمى بمحفل الشرق العثماني في تركيا، ليكون نادياً للضرار، يضم في أعضائه كل عدو لدود للإسلام، وشكل المنافقون الأتراك أيضاً جمعية الاتحاد والترقي وحزب تركيا الفتاة ليضموا في أعضائها عناصرهم من القادة في الجيش وغيره من مرافق الدولة، وبدأ الجميع يتحركون في غفلة من الساسة والعلماء وأهل الفكر من المسلمين الذين غفلوا أو تغافلوا عن حكم الله في إبعاد المنافقين وجهادهم والغلظة عليهم، حتى انتهى الأمر إلى إسقاط الخلافة العثمانية، وإلغاء منصب الخليفة على يد أكبر رموز النفاق في القرن المنصرم: "مصطفى كمال أتاتورك" وعندها خلع المنافقون رداء الإسلام، وارتدوا ثوب الردة المسماة بالعلمانية، تلك الراية الكفرية الفضفاضة التي أظلت تحت جناحها كل منافق خوّان.
ومع وضوح أمر العلمانية الآن وانكشاف منافقوها إلا أنهم يسيرون على الطريق نفسه الذي سار عليه ابن سلول وابن سبأ وميمون القداح والعلقمي وكمال أتاتورك.
إنه طريق النفاق، وهو الطريق الذي ظل موصولاً إلى يومنا هذا، حيث يمكننا أن نقول: إن مسيرة الذل التي تسير فيها الأمة منذ أكثر من قرن من الزمان لم يذلل سبلها ويمهد طرقها إلا طوائف المنافقين الذين اتخذوا من الكافرين أولياء، فأسلموهم أمة الإسلام وأخضعوها لهم، ومكنوهم من تركيعها عسكرياً، واستلابها حضارياً، والتحكم فيها سياسياً واقتصادياً في غيبة سلطان الحكم بدين الإسلام الذي عملوا قبل الأعداء على محاربته ومحاربة أهله بالأصالة عن أنفسهم حيناً، وبالنيابة عن الأعداء أحياناً.
وأخيراً ما هو الموقف الشرعي تجاه المنافقين؟
يتمثل ذلك في أمور:
أولاً: النهي عن موالاتُهم، والرُكون إليهم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[آل عمران: 118 - 119].
ثانياً: زجرُهم ووعظُهم؛ لقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء:63].
ثالثاً: عدم المجادلة، أو الدفاع عنهم، حيث قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء: 105 - 107].
رابعاً: جهادُهم، والغلظةُ عليهم؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة: 73].
خامساً: تحقيرُهم، وعدم تسويدُهم؛ فعن بريدة مرفوعاً: "لا تقولوا للمنافق سيّد، فإنه إنّ يك سيداً، فقد أسخطتم ربكم -عز وجل-".
سادساً: عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ) [التوبة: 84].
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها شملنا، وأن تلم بها شعثنا، وأن ترد بها الفتن عنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم