ذنوب الخلوات

الشيخ هلال الهاجري

2024-09-06 - 1446/03/03 2024-09-08 - 1446/03/05
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/التحذير النبوي من فعل المنكرات في الخلوات 2/شهادة الجوارح يوم القيامة على أصاحبها 3/من أضرار ذنوب الخلوات على صاحبها 4/وجوب مراقبة الله في كل حال

اقتباس

قَد يَعجَبُ الإنسانُ مِن تَغيِّرِ أَحوالِ بَعضِ الصَّالحينَ، بَعدَ أَن كَانَ يَضربُ بِهِ المَثلُ في العَابدينَ، والسِّرُّ هو في التَّساهلِ بِنَظرِ رَبِّ العَالمينَ، قَالَ بَعضُهم: "أَجمَعَ العَارِفونَ باللهِ بِأنَّ ذُنوبَ الخَلواتِ هِيَ أَصلُ الانتِكَاسَاتِ، وَأَنَّ عِباداتِ الخَفَاءِ هِيَ أَعظمُ أَسبابِ الثَّباتِ"...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحَمدُ للهِ الذي يَعلمُ السِّرَّ وَأَخفَى، الذي خَلقَ فَسوَّى، والذي قَدَّرَ فَهَدى، أَحصَى عَلى العِبادِ أَعمَالَهم وَقَدَّرَ آجَالَهم، ويَومَ القِيامةِ يَجزي كُلَّ نَفسٍ بما تَسعَى، أَحمِدُ رَبي وَأَشكرُه، وَأَتوبُ إليهِ وَأَستغفرُه، لَهُ الفَضلُ والثَّناءُ والنِّعمُ التي لا تُحصَى، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الأسماءُ الحُسنى، وَأَشهدُ أنَّ نَبيَّنَا وَسَيدَنا مُحمدًا عَبدُهُ وَرَسولُه المُصطَفَى، اللهمَّ صَلِّ وَسَلمْ وَبَاركْ عَلى عَبدِكَ وَرسولِكَ إمَامِ الأوليَاءِ، وَعلى آلِهِ وَصحبِهِ الأَتقياءِ.

 

أَمَا بَعدُ: فَهَا هُو يَقِفُ في عَرصَاتِ يَومِ القِيامةِ وقد أَحاطَتْ بِه حَسنَاتُهُ كَالجِبالِ البَيضاءِ، ويَغبِطُهُ النَّاسُ عَلى أيَامِهِ التي قَضاها في الدُّنيا باجتِهَادٍ وعَملٍ صَالحٍ وعَطاءٍ، وَيَقولونَ: هَنيئاً لَهُ المَنازلُ العُليا في جَناتِ النَّعيمِ، ويَا لَيتَنا عَمِلنَا مِثلَ عَملِهِ لِهَذا اليَومِ العَقيمِ، وَلَكِنْ

حَدَثَ مَا لَم يَكُنْ في الحُسبانِ، وتَحوَّلَتْ تِلكَ الجِبالُ إلى هَباءِ دُخَانٍ!، فَمَا الذي حَدَثَ؟ وَما هُو الخَبرُ؟.

 

عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا"، فَخَافَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-، وحُقَّ لَهم أَن يَخافُوا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا".

 

فَلا إِلَهَ إلا اللهُ، أَيُّ جَريمةٍ أَن يَظهَرَ الإنسانُ أَمامَ النَّاسِ بِمَظهَرِ الصَّلاحِ، ولا يَرونَهُ إلا في طَاعةٍ وخَيرٍ وبِرٍّ وفَلاحٍ، وإذا خَلا لَم يُبالِ بِنَظرِ الجَبَّارِ، ووَقَعَ في الحَرامِ وانتَهَكَ الأستارَ، فَأَينَ المَفَرُّ عِندَمَا تُنشَرُ الأَسرارُ؟! (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61].

 

إنَنا في زَمانٍ قَد سَهُلَ فِيه الوُصولُ إلى المَعَاصي، وَقَرُبَ فِيهِ الدَّانيُّ مِن القَاصيِّ، وَأصبَحَ الإنسانُ بِواسطةِ شَاشَتِهِ، يَدورُ العَالمَ وَهو في غُرفَتِهِ، وَهَذَا -واللهِ- الامتِحانُ الكَبيرُ، في مُراقبَةِ نَظرِ العَليمِ الخَبيرِ، فَأَخبرني مَا هُو نَصيبُكَ -أَيَّها الحَبيبُ- مِن قَولِهِ: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)[المائدة: 94]؟.

 

إذَا مَا خَلَوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلا َتَقُلْ *** خَلَوتُ وَلَكنْ قُلْ عَليَّ رَقيبُ

وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعةً *** وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغيبُ

 

لا يَغرَّنَّكَ صَمتَ جَوَارِحِكَ اليَومَ وَأَنتَ في خَلَواتِكَ مَع المَعاصي والسَّيئاتِ، فَوَ اللهِ لَتَسمعُ كَلامَها وَهي تَشهَدُ عَليكَ بِتَفَاصيلِ الجَرائمِ والخَطيئاتِ، فِي يَومٍ تُبلى فيهِ السَّرائرُ ويُنطِقُها عَالمُ الجَهرِ والخَفيَّاتِ؛ (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[فصلت: 20 - 21].

 

اعلَموا -أيُّها الأحِبَّةُ- أَنَّ مِن ذُنوبِ الخَلَواتِ مَا قَد يُظهِرُها اللهُ في الدُّنيا فَيَفتَضِحُ مِنهَا العَبدُ، يَقولُ ابنُ الجَوزيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَنَّ الإنسانَ قَد يُخفي مَا لا يَرضَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُظهِرُهُ اللهُ -سُبحَانَهُ- عَليهِ وَلو بَعدَ حِينٍ، وَيُنطِقُ الأَلسنَةُ بِهِ، وَإن لم يُشَاهدْهُ النَّاسُ"، كَانَ ‌حَبيبُ العَجَمَيُّ تَاجِرًا يُقرضُ الدَّراهمَ بِالرِّبَا، فَمَرَّ ذَاتَ يَومٍ بِصبيانٍ يَلعبونَ، فَقَالَ بَعضُهم لِبَعضٍ: قَد جَاءَ آكلُ ‌الرِّبا، فَنَكَّسَ رَأسَهُ وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفشيتَ سِرِّي إلى الصِّبيانِ، فَرَجعَ إلى بَيتِهِ تَائبَاً، وَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، واجتَهَدَ في العِبادةِ، وبَعدَ زَمَنٍ مَرَّ بِأولئكَ الصِّبيانِ، فَقَالوا: اسكتُوا، قَد جَاءَ ‌حَبيبٌ الزَّاهدُ العَابدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ، الكُلُّ مِنكَ، وَصَدَقَ، فَمَن أَحسَنَ فِيمَا بَينَهُ وَبينَ اللهِ -تَعَالى-، أَحسنَ اللهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ العِبادِ؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: قَد يَعجَبُ الإنسانُ مِن تَغيِّرِ أَحوالِ بَعضِ الصَّالحينَ، بَعدَ أَن كَانَ يَضربُ بِهِ المَثلُ في العَابدينَ، والسِّرُّ هو في التَّساهلِ بِنَظرِ رَبِّ العَالمينَ، قَالَ بَعضُهم: "أَجمَعَ العَارِفونَ باللهِ بِأنَّ ذُنوبَ الخَلواتِ هِيَ أَصلُ الانتِكَاسَاتِ، وَأَنَّ عِباداتِ الخَفَاءِ هِيَ أَعظمُ أَسبابِ الثَّباتِ"، فَإيَّاكَ أَن تَكونَ مِن الذينَ قَالَ اللهُ -تَعَالى- فيهم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108].

 

والعَجَبُ كَلُّ العَجَبِ مِن الذي يَجتَهِدُ في الاختِفَاءِ عَن الأَنظارِ، ويُغلِقُ الأَبوابَ وَيُطفِئُ الأَنوارَ، ثُمَّ يُريدُ أَن يَفعلَ مَا يُغضِبُ الرَّحمَنُ، فَأينَ نَظَرُ اللهِ -تَعالى- والمَلكَانِ؟! (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة: 7].

 

فَالعِلاجُ هُو مُراقَبةُ اللهِ -عَزَّ وَجلَّ-، والحَياءُ مِن نَظَرِهِ إليكَ والوَجَلُ، وتَجَنَّبْ الخَلوةَ التي يَقَعُ فيها الخَلَلُ، وتَذكَّرْ إذا دَعَتكَ نَفسُكَ إلى الزَّللِ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[التوبة: 78]، وَرَدِّدْ:

 

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ *** وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ

فَاَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا *** إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا كُلَّها دِقَّها وَجِلَّها صَغِيرَها وَكَبِيرَها، عَلانِيَتَها وَسَرِّها، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَم تَغفِرْ لَنَا وَتَرحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ، رَبَّنَا اغفِرْ لَنَا وَتُبْ عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوّابُ الغَفُورُ، اللَّهُمَّ ارزُقْنَا تَوبَةً نَصُوحًا قَبلَ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوبَتَنَا، وَاغسِلْ حَوبَتَنَا، وَأَجِبْ دَعوَتَنَا، وَاهدِ قُلُوبَنَا، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَالمُسلِمِينَ وَالمُسلِمَاتِ، اللَّهُمَّ أَعِنّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًّا لِلذِّينَ آمِنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحيمٌ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

المرفقات

ذنوب الخلوات.pdf

ذنوب الخلوات.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات