عناصر الخطبة
1/ حديث خولة المجادِلة في زوجها 2/ خطر الغفلة عن مشاكلنا الداخلية 3/ البعدان الحقيقيان من قصة المجادلة 4/ الفوائد التي نستوحيها من قصة المجادلةاقتباس
لا يصلح أن نغفل عن مشاكلنا الداخلية، حتى لو كانت جزئية أو بسيطة، بحجة أن المجتمع أو الأمة تواجه مشاكل ضخمة وكبيرة في فلسطين مثلاً أو العراق أو الصومال أو غيرها. وهذا لا يعني إغفال الشأن الخارجي، لكنه يعني أن الشأن الخارجي مهم والشأن الداخلي أيضًا مهم.
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا، فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ، وَالذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ"، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: "يَا خُوَيْلَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ". ثُمَّ قرَأَ عَلَيَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 1-4].
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً". قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: "فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ". قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ". قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا -يَا رَسُولَ اللهِ- سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: "قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا". قَالَتْ: فَفَعَلْتُ.
أيها المسلمون: وردت هذه القصة في مطلع سورة المجادلة، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين من القرآن الكريم، وسور هذا الجزء تركّز على البعد الداخلي والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط، وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين، فما دلالة هذا؟!
دلالته أنه لا يصلح أن نغفل عن مشاكلنا الداخلية، حتى لو كانت جزئية أو بسيطة، بحجة أن المجتمع أو الأمة تواجه مشاكل ضخمة وكبيرة في فلسطين مثلاً أو العراق أو الصومال أو غيرها. وهذا لا يعني إغفال الشأن الخارجي، لكنه يعني أن الشأن الخارجي مهم والشأن الداخلي أيضًا مهم، والقرآن كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- يعالج كلا الأمرين.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله لذلك المجتمع الناشئ وهو يوجهها ويربيها، فتتصل السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، فنشهد التوجيه الرباني ينزل في شأنٍ يوميٍ لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة؛ لتقرر حكم الله في قضيتها. فما أحوجنا -أحيانًا- لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة في مواجهة التحديات الحضارية، تلك التحديات التي تشمل صورًا منوعة من التدافعات، وأهمها التدافع الفكري والثقافي.
أيها المسلمون: وبتدبر آيات هذه القصة، نجد أن لها بعدين:
الأول: وهو البعد الظاهر القريب؛ إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وقع في إحدى البيوتات الإسلامية، بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فشكت إليه وحاورته في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل الوحي بآيات الظهار في مطلع سورة المجادلة؛ لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية. هذا هو البعد الأول.
أما الثاني: وهو البعد التربوي العظيم، والذي يمكننا استجلاؤه من خلال النظرة المنهجية الكلية الفاحصة لآيات القصة وملابساتها، حيث يقدم الرد الهادئ لقضية مهمة، طالما دار الجدال والتشكيك حولها، ألا وهي قضية مكانة المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي. وبتدبر آيات القصة من خلال تلك النظرة يمكننا أن نضع أيدينا على بعض الفوائد التي تجعل من خولة -رضي الله عنها- خير دليل وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني:
الفائدة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة: لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- أن سبب المشكلة وبداية القضية، أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت -وهو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما- في شيء ما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، أي محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية، ثم بعد ذلك أراد زوجها أوس بن الصامت -رضي الله عنه- أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شكواها ورفع القضية إليه.
لقد تصرفت تصرفًا راقيًا حيال هذه المشكلة، وتحركت وجادلت، بل صممت على الحل العادل الذي يتوافق وظروف بيتها، ويؤكد ذلك الروايات الصحيحة عن القصة وكذلك اسم السورة، وكل هذا يؤكد أنها كانت على قدر من المسؤولية على استيعاب أي خلاف عائلي.
الفائدة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف: وعندما نورد هذا المثال إنما نورده لنفتح بابًا في التربية، وهو: إذا كان هؤلاء بشرًا يخطئون ويتشاحنون ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة، لم تكن لتغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني الفريد، وهو باب عظيم في التربية، وأن الله سبحانه يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].
إن الاختلاف بين البشر سُنّة ثابتة ومطردة من سنن الله -عزَّ وجل- الإلهية: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) [هود:118]
[هود: 118، 119]، إذًا لا يحق لنا أن نذهل أمام المشاكل والخلافات التي تقع، سواء في محيط الأفراد، أو في محيط الأسرة الواحدة، أو في محيط المؤسسات، ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل محرم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
ومن هذا الملمح التربوي المهم نضع أيدينا على سمة مهمة من سمات المنهج الذي أفرز هذا العصر الناصع، وهو أن المنهج الذي أخرج هذه الأمة الرائدة القائدة، كان منهجًا واقعيًّا، منهجًا يرقى بالبشر إلى أفق وضيء، ولا ينسى أنهم بشر، يخطئون ويتعاتبون ويغفرون ويُعاقبون. وخولة -رضي الله عنها- تصرَّفت تصرفًا راقيًا حيال هذه المشكلة، فعندما نزل الوحي بالحل لقضيتها، نجد أنها جادلت وحاورت، وحصلت بحكمتها على أفضل الحلول، ثم كانت رفيقة بأسرتها، حتى بزوجها وهي في قمة غضبها منه ومن تصرفاته، وهي بذلك تفتح لنا بابًا عظيمًا في التربية، وهو أدب الاختلاف.
الفائدة الثالثة: الورع والخوف من الله تعالى: لقد كان موقف خولة رضي الله عنها عظيمًا وفريدًا عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد، فقالت: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
تدبّر أحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الله تعالى، وتأمل كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود، وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله عز وجل، ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية من أجل المحافظة على كيان الأسرة، وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع الذي ربيت عليه المرأة في ذلك المجتمع الرباني الفريد، فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين -وهو حماية كيان الأسرة- لا يسوِّغ أن يكون ذلك على حساب طاعته سبحانه.
الفائدة الرابعة: فقهها للمرجعية: لقد حملت خولة -رضي الله عنها- شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- فلم تذهب لغيره حتى وإن كانت عائشة -رضوان الله عليها-. وتأمل كيف أنها أتت وانفردت به -صلى الله عليه وسلم- ولم تشرك أحدًا في حل قضيتها. تقول عَائِشَةُ -رضي الله عنها- وهي حاضرة للمجلس، قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) [المجادلة: 1]. إنها مثل أي فرد داخل ذلك المجتمع، تقر وتعلم أن لها قيادة ومرجعية يُرجع إليها، ولم يكن يجهل ذلك أي فرد، سواء الرجل أو المرأة أو الطفل.
فإذا كنا على قناعة بواقعية البشر، وأن من حقهم الخطأ، فلا يحق أن ننسى الضابط الذي يحمي هذه الواقعية ويمنع انحرافاتها، ألا وهو ضابط المرجعية التي يرجع إليها عند حدوث الخلافات. وإذا كنا على قناعة في أن كل زوجين من حقهما الخطأ، وأن حدوث أي مشاكل زوجية هو أمر طبيعي من سمات البشر، فإننا نتعلم من خولة -رضي الله عنها- أهمية معرفة من له الحق في إصلاح هذا الخلاف، فيحافظ على السر ويحاول حل المشكلة.
الفائدة الخامسة: شجاعتها الأدبية وقدرتها على الحوار: لقد ورد عن خولة -رضي الله عنها- أنها كانت تتمتع بقدرة فائقة على الحوار، حيث عرضت قضيتها بشجاعة وثقة ولباقة، وكيف أنها –بهذه الصفة- قد رفعت عن نفسها -بل عن أمة كاملة- الحرج والظلم إلى يوم القيامة. تدبر كيف بدأت شكواها وهي تقول -كما في بعض الروايات-: "يا رسول الله! أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك". فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: "حُرِّمْتِ عليه"، فقالت: والله ما ذكر طلاقًا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي، ووحدتي، ووحشتي، وفراق زوجي وابن عمي، وقد نفضت له بطني، فقال: "حُرِّمْتِ عليه"، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية، وإن زوجي ظاهَرَ مني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أُوحي إليَّ في هذا شيء"، فقالت: يا رسول الله! أوحِيَ إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: "هو ما قلت لك"، فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله آيات سورة المجادلة.
ومما يدل أيضًا على قدرتها -رضي الله عنها- على الحوار ما حصل بينها وبين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زمن خلافته؛ فقد مر بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: "يا عمر: قد كنت تدعى عُمَيْرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب". وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟! فقال: واللهِ! لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟! هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!
الفائدة السادسة: اعتزازها بكرامتها وإنسانيتها: لقد ورد في أمر خولة -رضي الله عنها- أن أمها (معاذة) التي أنزل الله فيها قوله -عز وجل-: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) [النور: 33]، وهي الأَمَة التي كان عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول يُكرهها على البغاء والزنا والفجور، فأبت ذلك ونزلت فيها هذه الآية. قال السدي -رحمه الله-: نزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أُبي ابن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى (معاذة)، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فشكت إليه، فذكره أبو بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبي: من يعذرنا من محمد؟! يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيه هذا.
ونستشعر من هذا الخبر ملمحًا تربويًّا طيبًا، وهو أن خولة -رضي الله عنها- قد نشأت متأثرة تأثرًا بالغًا بأمها معاذة التي كانت مجرد أمة مملوكة، ولكنها لم تك إمعة أو سهلة أمام سيدها الذي أكرهها على الفسق، فرفضت، وكان لها موقف زكَّاه الله -عز وجل- من فوق سبع سماوات، وخلَّده، فكان سببًا في نزول آية سورة النور. ولو تدبرنا محور الآيات التي نزلت في خولة وأمها -رضوان الله عليهما- لوجدناها تدور حول قوة الشخصية، والاعتزاز بالرأي مادام على الحق، حتى كان موقفهما سببًا في نزول آيات بينات يتعبد بتلاوتها، وأحكام ثابتة نزلت لتوجه أمة إلى قيام الساعة. وهي السمة التي تبين مدى رفعة المنهج الذي كان سببًا في بث روح الكرامة والعزة والأنفة في روح حامليه، حتى وإن كُنَّ نساءً أرقاء. وكذلك أهمية التربية الأسرية، وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات، ويحملون الكثير من صفاتهم.
نفعني الله وإياكم بهدي...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: نواصل استنباط هذه الفوائد والمعالم من قصة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها-:
الفائدة السابعة: احترام خصوصية الزوج: هناك ملمح تربوي عظيم نستشعره من الحديث الشريف الذي ورد عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير) [المجادلة: 1]، فعائشة -رضي الله عنها- وهي من هي، لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها -صلى الله عليه وسلم- وبين أحد الضيوف، خاصة عندما يكون امرأة، وهو الملمح الذي يبين مدى سعة أفق ذلك الجيل الرباني، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي كانت بين الزوجين.
الفائدة الثامنة: الثقة في القيادة الواعية: عندما حملت خولة -رضي الله عنها- شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أخذ الأمر بجدية وحقق في الأمر، وتصرفه -صلى الله عليه وسلم- إنما يدل على أمور عظيمة تضع الضوابط المطلوب توافرها في كل قيادة راشدة، تلك الصفات هي التي جعلت كل فرد يرجع إليها في كل شيء، حتى ولو كانت مشكلة داخلية عائلية لا يدري بها أحد، تلك الثقة هي التي جعلت من الجميع -حتى ولو كانت امرأة- ترجع إليها بشكواها وتطلعها على أسرارها الداخلية.
كان -صلى الله عليه وسلم- على الرغم من مشاغله -كونه حاكمًا مسؤولاً عن دولة عظيمة مترامية الأطراف- كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين الأفراد، دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه، لم يدّعِ -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو، الدراية بكل شيء، بل قال رأيه وسمح لخولة -رضي الله عنها- أن تحاوره، حتى نزل الوحي بالحل.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم