عناصر الخطبة
1/نص حديث: \"إن الحلال بين والحرام بين\" 2/التحذير من الوقوع في الشبهات 3/أنواع القلوب من حيث تأثيرها الفتن 4/خطر تتبع الفتاوى الشاذة 5/ضابط البر والإثم 6/علاج الوقوع في الشبهات 7/طريقة رائعة لابن الجوزي في محاسبة النفساقتباس
أيها الإخوة: إنما من اعتاد التساهل، وتمرن عليه، واجترأ على شبهة ثم شبهة أغلظ منها، وهكذا.. وقع في الحرام لا شك. ويمنع من ذلك الورع، يقول القاسمي: "من العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا وتاجرنا، وركبنا البحار والبراري، وخاطرنا واجتهدنا في طلب أرزاقنا أشد الاجتهاد، ثم إذا طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم في جنات لا نصب فيها ولا وصب، طمعنا بأن نقول...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه، يعني سمعته يقول وأشار إلى أذنيه-: "إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذ صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" [متفق على صحته].
هذا الحديث الجامع المانع يقول النووي عنه، قال: "جماعة من العلماء: "هو ثلث الإسلام".
والإسلام يدور عليه، وعلى حديث الأعمال بالنية، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
فترك الشبهات ورع، وبه يكون الورع سببا لحماية الدين والعرض.
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، وغيره، من مواقعة الحرام البين، وحذر أيضا من مواقعة الشبهات، والانغماس فيها؛ لأن الشبهات سبيل إلى الوقوع في الحرام؛ ولأن الشيطان يستخدمها بكثرة ليضل بها المقتصدين في العبادة: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) [فاطر: 32].
وهم أكثر المسلمين أولئك الذين لا يرغبون في التخلي على ما اعتادوا عليه من أعمال أقل ما يقال عنها: أنها شبهات!.
فلا هم يكثرون من النوافل، ولا يتركون الشبهات، وإنما يكتفون بالصلاة المفروضة، وبعض السنن، والحمد الله!.
هؤلاء لا يدخل عليهم الشيطان من بوابة الحرام المحض، لا؛ لأن نجاحه في إدخال الحرام المحض الواضح؛ كالزنى، وشرب الخمر، وأكل الميتة، والخنزير، وغير ذلك من المعاصي الجلية، فبقية الإيمان في قلوبهم يقف رادعا، وزاجرا لهم عن ذلك.
ولكن نجاحه يكون أيسر وأقرب في المشتبهات، في الصغائر، صغائر المعاصي، حيث يتصيد قلوبهم في مواطن ضعفها، وساعات غفلتها، ويضع في عقولهم التبريرات تلو التبريرات، هذا ليس حراما! الناس يفعلون! الشيخ الفلاني قال يجوز! نيتي طيبة! إلى آخره من التسويفات والمبررات.
ومن هنا يأتي هذا الحديث الشريف مذكرا ومحذرا إيانا من الشهوات التي هي شبهات في ذاتها، وأن الشبهات؛ كما جاء في الحديث سياج المعاصي، عبر عنها في الحديث بالحمى.
ومن حما حول الحمى بأغنامه، وقع الغنم، أو بعض منها في ذلك الحمى، لا محالة، يترك الأرض الواسعة، ويذهب إلى الحمى، يدور بأغنامه هناك، وهو انتهاك لحرمة الحمى، ومجلبة لسخط صاحبه، فمحارم الله هي الحمى.
فمن أراد أن يأمن يوم العرض، وبعد العرض، فليتورع عن شبهات أن يحوم حولها؛ لأنه إذاً سيقع في الحرام، أو يكاد!.
ولذلك نجد علماء الكتاب والسنة، والهدي النبوي، لا العقل المجرد، نجد أولئك المعروفين بالورع والفضل زيادة عن علمهم الشرعي، حين يفتون في مسألة ما، يقدرون المصالح المترتبة، والمفاسد المترتبة والمتوقعة كذلك، قبل أن يسارعوا إلى القول بالإباحة، أو غير ذلك.
ويقدرون كذلك، وهو أمر مهم جدا، يقدرون فطرة الإنسان وغريزته: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء) [آل عمران: 14].
فالنساء من الشهوات، فالإنسان ما لم يستمسك بدينه، ويعض عليه، ما لم يبتعد عن مواطن الفتن والفساد، ومواطن المعصية، فيضعف قلبه لا ريب، وهو مصدق قوله كما في الحديث: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فالقلب جهاز حساس، رقيق، يتأثر بالمحيط حوله، وله خاصية الامتصاص، يمتص الخير، ويمتص الشر، على حد سواء؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا".
أي أن تلك الفتن تلصق بعرض القلوب، والعرض هو جانب القلوب، كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر فيه شدة التصاقها به،، فأيما قلب أشرب تلك الفتن التي تلصق بجانب القلب: "أيما قلب أشربها...".
هنا الشاهد خاصية التشرب والامتصاص، ولذلك يقول النووي: "أشربها" أي دخلت فيه دخولا تاما، وألزمها وحلت منه محل الشراب، كما قال تعالى: (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: 93] أي حب العجل.
"أيما قلب أشربها نكتت فيه نكت سوداء" اتسخ ذلك القلب بنكة سوداء.
وهنا أيضا شاهد آخر في هذا الحديث ينم على طبيعة قلوبنا: أنها تتأثر بسرعة: "أيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء".
أثر كل خير يعمله الإنسان على قلبه، قال: "حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض".
أي ما دام صاحبه ينكر الفساد والفتن، وسوف يأمن الضعف، ويسلم من الخلل.
قال: "وأسود مُرْبَادًّا" متلونا بلون بين السواد والخضرة، لون معنوي، كما أن البياض لون معنوي، قال: " كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه".
فالقلب يصبح مع كثرة اقترافه المعاصي، وكثرة تلطخه بالنكت السوداء، التي هي أثر الذنوب، يصبح منتكسا، لا يقبل خيرا، ولا حكمة، ولا يتأثر بموعظة ولا نصيحة، بل ولا يقبل الحق لو رائه، إلا ما أشرب من هواه.
معاشر المسلمين: أعلمتم لما يشير النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
إلى أهمية صلاح المضغة وخطورة فسادها: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فالحوم حول الشبهات يعرض القلب للنكت، فكيف بالمعاصي ذاتها؟
كثير من المسلمين حين يتهافتون على فتوى الشيخ الفلاني، المشهور بإباحته للشبهات، بل إباحته لبعض المعاصي أيضا.
العقلانية طغت على الورع، وعلى مدى التمسك بالكتاب، وصحيح السنة، وهم في واقع الأمر، لا يبحثون عن الحق، ولا يتحرون الدقة.
والدين جدير بأن يبحث فيه صاحبه عن الدقة، وأن يتحرى، وإنما يبحثون عمن يسهل عليهم حصول ما تهواه قلوبهم، هم لا يبحثون عمن يحميهم -بإذن الله تعالى- مما يخدش دينهم، لا يبحثون عمن ينصح لهم، ويتحرى نجاته ونجاتهم من الخوض في المحرمات.
ولكنهم يبحثون عن صاحب الجرأة، عن الفتوى المائعة التي تميع الدين، وتحقق مآربهم، ويهمون أنفسهم، يقولون وهم بهذه النية: أنهم قد أدوا ما عليهم نحو سؤال أهل الذكر، وأن أهل الذكر يتحملون المسئولية!.
لماذا انصرفوا إلى ذلك النوع من المشايخ؟
فسبحان الله كيف يضعف الإيمان في القلوب؟ كيف يغيب الورع؟ كيف تسيطر الغريزة على القلب حال ضعف صاحبها وتستأثر به؟ كيف يصبح الدين أهون على المسلم من ضعيف على عامته؟
الدين الذي هو أغلى شيء في حياة المسلم، يصبح رخيصا، يستبدل بأزهد الأثمان، أين أنت يا وابصة -رضي الله عنه-؟
هذا القلب يبحث عن الحق، ويخاف على دينه، إذا أحس بكدر في الفتوى، وهو إحساس من رق قلبه، وخضعت جوارحه لأوامر الله ونواهيه.
يقول وابصة بن معبد -رضي الله عنه-: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، وإذا عنده جمع فذهبت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك يا وابصة، فقلت: أنا وابصة دعوني أدنو منه، فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو منه، فقال لي: ادن يا وابصة، ادن يا وابصة، فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته، فقال: يا وابصة أخبرك ما جئت تسألني عنه أو تسألني؟ فقلت: يا رسول الله فأخبرني، قال: جئت تسألني عن البر والإثم، قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري، ويقول: "يا وابصة استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس" [رواه الإمام أحمد].
يقول صالح بن زهران: "إذا رأيت العالم لا يتورع فليس لك أن تأخذ منه".
كثير من المسلمين يتضايقون ويتضجرون من قول العالم: "لا يجوز" "حرام " أو "الأحوط كذا" ويقولون: هذا ما عنده غير حرام! حرام!.
لكنهم يفرحون بمن يفتيهم بالإباحة متى وجدوه، ولا يهمهم مدى صحة دليله الذي اعتمد عليه، ولا يهمهم حاله، ولا سلامة منهجه من عدم سلامته، ولا مقدار ورعه، فأين هم من وابصة؟!
وابصة الذي يعرف قدر دينه، فيخشى عليه، ويتحرى له ويصونه من أدنى شائبة؛ لأن دينه أغلى عنده من الدنيا بأجمعها.
إذا كنت في الدنيا بصيرا فإن *** بلاغك منها مثل زاد المسافر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه *** فما فاته منها فليس بضائر
ينبغي التنبه -بارك الله فيكم أجمعين- ينبغي علينا جميعا أن نتنبه إلى هذا الأمر، فهو عنوان الفلاح، فقد كان الصالحون من أبناء أمتنا، يدركون هذا.
قال رجل للحسن البصري: "أمؤمن أنت؟" قال: "إن كنت تريد قول الله -تعالى-: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ)[البقرة: 136] فنعم، وإن أردت قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال: 2] فلا أدري".
ما يعقل -أيها الإخوة-: أن يطلب من جميع الناس أن يكونوا في ورعهم وخشوعهم كالحسن البصري؟ هذا مطلب صعب، لكن يطلب منهم أن يتحروا لدينهم، يتأملوا في هذا الأمر: "ألا إن في الجسد مضغة".
أن يستبرؤوا لدينهم وعرضهم، باستبعادهم عن الشبهات في مطاعمهم، في أموالهم، في تجارتهم، في عقودهم، في كلامهم، في تصرفاتهم، في ما يقتنون وما لا يقتنون، فيما يشترون وما لا يشترون، في ما تلبس نساؤهم، وما لا تلبس، وفيما يسمحون لأولادهم، وفيما لا يسمحون.
علينا -معاشر الإخوة-: أن نسعى بجد إلى تطبيق شيء حتى لو كان يسيرا، والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
وثقوا أنكم إذا فعلتم ذلك، وسلكتم منهج هذا الحديث، فإن الله معكم: (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 35].
فلنعتصم بالله -عباد الله-، ولنسأله العفو والمعافاة والمغفرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو البر الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
أيها الإخوة: إنما من اعتاد التساهل، وتمرن عليه، واجترأ على شبهة ثم شبهة أغلظ منها، وهكذا.. وقع في الحرام لا شك.
ويمنع من ذلك الورع، يقول القاسمي: "من العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا وتاجرنا وركبنا البحار والبراري، وخاطرنا واجتهدنا في طلب أرزاقنا أشد الاجتهاد، ثم إذا طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم في جنات لا نصب فيها ولا وصب، طمعنا بأن نقول بألسنتنا: اللهم اغفر لنا وارحمنا".
قال ابن الجوزي: أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص، فكنت كلما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء -أي من رقته وتذوقه لحلاوة الذكر والعبادة-، وكلما استنارت لي طريق التحصيل، تجدد في قلبي ظلمة.
فقلت: يا نفس السوء، الإثم حواز القلوب، وقد قال: "استفت قلبك" فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر.
وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين، أو في المعاملة، ما لذت، والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذُ من تكِات الملوك.
وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لابد لها منه، وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر.
فقلت لها: أو ليس الورع يمنع من هذا؟ قالت: بلى.
قلت: أليست القسوة في القلب تحصل به؟ قالت: بلى.
قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته.
فخلوت يوماً بنفسي، فقلت لها: ويحك: اسمعي أحدثك: إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟
قالت: لا.
قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير، ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي لا يؤمن.
ويحك! اتركِ هذا الذي يمنع من الورع لأجل الله، فعامليه بتركه، وكأنك لا تريدين أن تتركي إلاّ ما هو محرم فقط، أو ما لا يصح وجهه.
أو ما سمعت أن: "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه".
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحاز سواهم، وأمّـلوا فما بلغوا مناهم؟
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها؟! وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء؟! وكم من طيب العيش لا يملك دينارين؟! وكم من ذي قناطير منغص؟!.
أما لك فطنة تتلمحي أحوال من يترخص من وجه، فيسلب منه من أوجه؟
ربما نزل المرض بصاحب الدار، أو ببعض من فيها، فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه، والمتقي معافى.
فضجت النفس من لومي، وقالت: إذا لم أتعدّ واجب الشرع فما الذي تريد مني؟
فقلت لها: أضنُّ بك عن الغبن، وأنت أعرف بباطن أمرك.
قالت: فقل لي: ما أصنع؟ قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثّـلي نفسك بحضرة معظم من الخلق، فإنك بين يدي الملك الأعظم، يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك.
فخذِ بالأحوط، واحذرِ من الترخُـص في بيع اليقين والتقوى بعاجل الهوى.
فإن ضاق الطبع مما تلقين، فقولي له: مهلاً، فما انقضت مدة الإشارة.
والله مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.
هذه المحاسبة التي ذكرها ابن الجوزي والنقاش الذي دار بينه وبين نفسه حبذا لو مارسه من أحس بميل نحو الهوى، على حساب دينه.
أسأل الله -تعالى- أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم