عناصر الخطبة
1/كرم النبي صلى الله عليه وسلم 2/محرمات في البيع 3/الأخلاق المحمودة في البيعاقتباس
لا حرج ولا تثريب على الإنسان أن يأخذ حقه، وأن يربح في متجره، وحِيَازَةَ الْمَالِ الْعَظِيمِ لَا تَضُرُّ صَاحِبَهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ، وَنَمَّاهَا بِالْحَلَالِ، وَأَنْفَقَهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر إنه غفور شكور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبرك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 172].
في الصحيحين أن جَابِرَ بْنُ عَبْدِ اللهِ، كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَالَ جابرُ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: “بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ”، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: “بِعْنِيهِ”، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ: “أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ”.
إن كان في الدنيا كريم واحد *** يزن الجميع فهو النبي محمدِ
ما أصدقه وأروعه من سخاء وسماحة ولطافه “خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ”.
كريم يرى الأموال شرّ ذخيرةٍ *** بعينٍ ترى المعروف خيرُ الذخائر
“خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ” حق أن توضع على كل باب متَّجِر وعلى جبين كل من يحاسبون الناس على الفتيل والقطمير ولا يتجاوزون عن المعدم الفقير
ومن لديه المال لم يكترث *** بما يعاني البائس المعدم
كم شح بالمال حازه غيره *** من بعده وهو به يأثم
لا حرج ولا تثريب على الإنسان أن يأخذ حقه، وأن يربح في متجره، وحِيَازَةَ الْمَالِ الْعَظِيمِ لَا تَضُرُّ صَاحِبَهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ، وَنَمَّاهَا بِالْحَلَالِ، وَأَنْفَقَهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ "نِعْم الْمَالُ الصَّالِح لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ".
لكن العتب والشطط أن يخيم الجشع وتحضر الانفس الشح، فيبالغ في الأرباح، ويبخس في مكونات السلع، ويغش في الدعايات بما يبهر العقول ويأخذ بالعيون (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[المطففين: 1-3].
يستوفون حقهم كاملا بالهللة والدينار، ويبخسون حق الناس بالمُشترى.. في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام:" لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ " وما أكثر السلع المصراة في الأسواق والمتاجر، ترى السلعةَ كبيرةً في حجمها، خادعة في مظهرها، لكنها قليلة في محتواها، إن هذا هو البخس والغش والتدليس والخداع. (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)[المطففين: 4]
ترهيب من رب العالمين للوقوف بين يديه، لمن يبخس الناس أشيائهم أو يأكل حقوقهم (جزاءا وفَاقا)[النبأ: 26]، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].
وأشدها دناءة وجشعاً احتكار السلع والتقتير على المسلمين محافظة على سعرها كما يزعمون وإلا فهي في الحقيقة جشع وظلم وشح.
نعوذ بالله من الشح المطاع *** والحرص والجبن وخب وخداع
والكبر والبهت ومذموم الطباع، في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: “لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ” والخاطئ هو الآثم، قال الإمام النووي رحمه الله" وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ لِلتِّجَارَةِ وَلَا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ بَلْ يَدَّخِرُهُ ليغلوا ثَمَنُهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ، كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ".
حين يظهر الشح والجشع يتطبع المجتمع بالأنانية وحب الذات وعدم الإيثار وتنزع الرحمة في مراعاة الآخرين ومصالحهم، فلا ينظر المرء إلا إلى لمصلحته ولا يهمه إلا ما يدخل في جيبه..
من جاد جاد عليه الله واستترت *** عيوبه وكفى بالجود سربالا
من جاد ساد ومن شحت أنامله *** بالبذل أمست له الأعوان خذالا
ثنتان كلتاهما للود جالبة *** صبر جميل وكف يبذل المالا
لقد نظم الإسلامُ الحقوق وراعى المصالح العامة على المصالح الشخصية، فنهى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وقال “دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ”(أخرجه مسلم).
كل هذا تجنبا لاحتكار السوق واللعب بالأسعار والتشطيط على المسلمين وجعل المال والاتجار دولة بين الأغنياء.
فَلا تَأمَنَنَّ الدَّهْرَ حُرًّا ظَلَمْتَهُ *** فَمَا لَيْلُ حرّ إن ظلمت بِنَائِمِ
ومن شيم الكرماء التسهيل والتيسير على المسلمين وعدم استغلال حاجتهم، ومع هذا فهو سبب للمغفرة ودخول الجنة في الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" أَنَّ رَجُلًا مَاتَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَكُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي النَّقْدِ - فَغُفِرَ لَهُ " قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
السماحة راحة في النفس ونماء الرزق وحبُ من الخلق ورحمة من الخالق في الصحيح “رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى” بوب عليه البخاري فقال بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ.
“مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا نُزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ”
(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[العنكبوت:17].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وصلى الله على عبده ورسوله، أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واذكروا نعمة الله عليكم واعلموا أن الرزق لا ينال بالغش والخداع، والغنى لا ينال بالحيل والتدليس..
فكَمْ مِنْ قَوِيٍّ قَوِيٌّ فِي تَقَلُّبِهِ *** مُهَذَّبِ الرَّأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ يَنْحَرِفُ
وَمِنْ ضَعِيفٍ ضَعِيفِ الْعَقْلِ مُخْتَلِطٌ *** كَأَنَّمَا مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ
وإذا فتح الله أبوابه فلا رادَّ لفضله، يصيب برحمته ما يشاء، وهو الولي الحميد. يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[العنكبوت: 62].
لما آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، ثم تزوج، حتى صار بعد ذلك من أثرياء المدينة.
والمال الكفاف مع السلامة، أفضل من كثرته مع الاخطار، ورحم الله الشافعي حيث يقول:
لَو كانَ بِالحِيَلِ الغِنى لَوَجَدتَني *** بِنُجومِ أَقطارِ السَماءِ تَعَلُّقي
لَكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجا حُرِمَ الغِنى *** ضِدّانِ مُفتَرِقانِ أَيَّ تَفَرُّقِ
والقناعة غنا “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ”(أخرجه مسلم).
و”لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ”(متفق عليه).
والمعول على البركةِ، والبركةُ من الله، فلعمري ما حلت البركة في المال القليل إلا وسع فئاما، ولا نزعة من وفير إلا أصبح شحيحا.
اللهم ارزقنا غنا لا يطغينا وصحة لا تلهينا وفضلا منك ورحمة..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم