عناصر الخطبة
1/أقدار الله خير لعباده ورحمة بهم 2/ابتلاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وزوجه في حادثة الإفك 3/تساؤلات في الابتلاءات والإجابة عليها 4/من حِكم البلاء وأسراره.اقتباس
خَلَقَ اللَّهُ الْبَلَاءَ رَغْمَ أَنَّهُ مُرٌّ وَمَكْرُوهٌ لِتَتَكَشَّفَ حَقَائِقُ التَّوْحِيدِ؛ فَمَعَ الْبَلَاءِ وَالِابْتِلَاءِ يُمْتَحَنُ الْخَلْقُ بِالتَّعَلُّقِ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّةُ النَّاسِ الْحَقَّةُ، وَمَعَ الْبَلَاءِ تَتَهَذَّبُ النُّفُوسُ؛ فَيَنْكَسِرُ هَوَى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْحَيَاةَ، وَقَدَّرَ فِيهَا الْبَلَاءَ وَالْمُنَغِّصَاتِ، وَالشُّرُورَ وَالْمُكَدِّرَاتِ؛ فَسُرُورُهَا مَشُوبٌ بِحُزْنٍ، وَفَرْحَتُهَا مُؤْذِنَةٌ بِزَوَالٍ، جَدِيدُهَا يَبْلَى، وَسَاعَاتُ حَيِّهَا تَتقَضَّى، وَمَنْ رَامَ حَيَاةً نَاعِمَةً بِلَا بَلَاءٍ، وَعَيْشًا سَالِمًا مِنْ كُلِّ عَنَاءٍ؛ فَلَنْ يَذُوقَهَا وَلَنْ يَجِدَهَا إِلَّافِي تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي يُنَادِي فِيهَا مُنَادِي اللَّهِ: "إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا".
وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدَرَ الْحَيَاةِ وَطَبِيعَتَهَا؛ فَإِنَّ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَيَسْتَقِرَّ فِي الْوِجْدَانِ: أَنَّ كُلَّ مُرٍّ وَبَلَايَا، وَسَوْءَاتٍ وَمَنَايَا؛ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي خَلَقَهَا وَأَرَادَهَا، لِحِكَمٍ تَظْهَرُ حِينًا، وَتَغِيبُ أَحَايِينَ، حِكَمٌ تَظْهَرُ فِيهَا عَظَمَةُ الْخَالِقِ وَقُدْرَتُهُ وَجَمِيلُ صِفَاتِهِ.
إِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ؛ فَأَسْمَاؤُهُ تَنَاهَتْ فِي حُسْنِهَا، وَصِفَاتُهُ كَمُلَتْ فِي جَمَالِهَا، وَأَفْعَالُهُ وَتَقْدِيرَاتُهُ مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَمُنَزَّهَةٌ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَعَبَثٍ؛ (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الْأَعْرَافِ: 180]، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 91]، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 2].
عدْلٌ حُكْمُهُ، وَمُحْكَمٌ تَدْبيرُه، ونَافِذٌ أمْرُهُ، حُدُودُهُ مُحْكَمَة، وَتَشْرِيعَاتُهُ فيها المصْلَحَة، وَكُلُّمَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَسُلْطَانِهِ؛ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَلِمَ خُلِقَ، وَمَا يُصْلِحُ مَنْ خَلَقَ.
وَتَقْدِيرَاتُهُ لِلْخَلْقِ كُلُّهَا خَيْرٌ فِي خَيْرٍ، وَلَيْسَ فِي أَقْدَارِهِ شَرٌّ مَحْضٌ، حَتَّى وَإِنْ ظَهَرَ لِلْعِبَادِ بَعْضُ الشَّرِّ وَالسُّوءِ؛ فَهُوَ بِحَسَبِ مَا يَرَوْنَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا مِنَ الْخَيْرِيَّةِ مَحْجُوبَةً، رُبَّمَا تَظْهَرُ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَرُبَّمَا لَا تَظْهَرُ، وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ بِرَبِّهِ وَأَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ".
وَتَأَمَّلْ مَعِي حَادِثَةَ الْإِفْكِ الَّتِي طُعِنَ فِيهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عِرْضِهِ، وَأُوذِيَ أَشَدَّ مَا يَكُونُ الْإِيذَاءُ عِنْدَ أَهْلِ الْغَيْرَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدَثِ شَرٌّ وَسُوءٌ، وَبَلَاءٌ مَكْرُوهٌ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنَ الْآلَامِ، طَغَى فِيهَا الْمُنَافِقُونَ وَتَخَوَّضُوا، وَفِي عِرْضِ النِّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَفَكَّهُوا، يَأْتِي الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بَلْسَمًا شَافِيًا، وَلِأَوْجُهِ الْخَيْرِ فِي هَذَا الْقَدَرِ مُبَيِّنًا وَكَاشِفًا؛ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النُّورِ: 11].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ فَالشَّرُّ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ لَا فِي خَلْقِهِ وَفِعْلِهِ، وَخَلْقُهُ وَفِعْلُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّهَ -سُبْحَانَهُ- عَنِ الظُّلْمِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ".
فَمَا تَرَاهُ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- مِنْ مَكْرُوهٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَوْفِي أَيِّ زَمَانٍ؛ فَتَيَقَّنْ أَنَّ تحت الْغَيْبِ أُمُورًا مِنَ الْخَيْرِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَكَارِهَ تَأْتِي مَعَهَا الْحِكَمُ وَالْغَايَاتُ الْحَمِيدَةُ.
وَيَبْقَى السُّؤَالُ الْأَهَمُّ:
هَذَا السُّؤَالُ رُبَّمَا طَافَ بِخَيَالِ بَعْضِ الْعِبَادِ، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُ مَنْ خَاضَ فِي لُجَجِ الْإِلْحَادِ:
لِمَاذَا يَخْلُقُ الْبَلَاءَ وَيُقَدِّرُ المصائبَ، مَا الْحِكْمَةُ؟ مَا السِّرُّ؟
لِمَاذَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَيَتَنَعَّمُ الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ؟
لِمَاذَا يُضْطَهَدُ الْأَوْلِيَاءُ؟ وَيَسْلَمُ الْأَعْدَاءُ؟
وَقَبْلَ الْإِجَابَةِ يُقَالُ:
الْأَصْلُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ الَّذِي سَيُسْأَلُ عَمَّا فَعَلَ مَعَ أَقْدَارِ اللَّهِ؛ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 23].
وَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الِاعْتِرَاضِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ تَحَسُّسِ وَالْتِمَاسِ حِكْمَةِ وُجُودِ الْقَدَرِ الْمُرِّ.
إِنَّ وُجُودَ المحن وَالضَّرَّاءِ، وَالنِّقْمَةِ وَالْبَلَاءِ لَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيُشَاهِدَ الْخَلْقُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَضِدِّهَا.
نَعَمْ خَلَقَ اللَّهُ الْبَلَاءَ رَغْمَ أَنَّهُ مُرٌّ وَمَكْرُوهٌ لِتَتَكَشَّفَ حَقَائِقُ التَّوْحِيدِ؛ فَمَعَ الْبَلَاءِ وَالِابْتِلَاءِ يُمْتَحَنُ الْخَلْقُ بِالتَّعَلُّقِ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّةُ النَّاسِ الْحَقَّةُ.
وَمَعَ الْبَلَاءِ تَتَهَذَّبُ النُّفُوسُ؛ فَيَنْكَسِرُ هَوَى الْإِنْسَانِ، وَيَظْهَرُ ضَعْفُهُ وَعَجْزُهُ؛ فَتَذُوبُ مِنْهُ خَطَرَاتُ الْغُرُورِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَهْرُبُ عَنْهُ خَلَجَاتُ التَّفَاخُرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "فَلَوْلَا أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ لَطَغَوْا وَبَغَوْا وَعَتَوْا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ، حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ؛ أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ".
وَمَعَ الِابْتِلَاءِ تَنْجَلِي لِلْعَبْدِ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَيَتَعَبَّدُ لِلَّهِ الْخَالِقِ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ فَهُوَ يَصْبِرُ وَيَتَصَبَّرُ لِأَنَّ رَبَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، يَتَذَلَّلُ وَيَنْكَسِرُ لِيَقِينِهِ أَنَّ خَالِقَهُ هُوَ الْجَبَّارُ الَّذِي يَجْبُرُ كُلَّ كَسِيرٍ، يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ لِعِلْمِهِ أَنَّ مَنْ يَرْجُوهُ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَظْهَرُ حُسْنُ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ، وَهَذِهِ حَالٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَعِيشُهَا الْعَبْدُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَسَّهُ الْبَلَاءُ.
وَيُوجِدُ اللَّهُ المواجع وَالْبَلَاءَ لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ فَضْلَ الْخَيْرِ وَالْعَافِيَةِ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرَضٌ لَمَا عُرِفَ فَضْلُ الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ لَمَا عُرِفَ فَضْلُ الْأَمْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَقْرٌ وَحَاجَةٌ لَمَا عُرِفَ فَضْلُ الْغِنَى وَالْكِفَايَةِ، وَلَا يَعْرِفُ قِيمَةَ السَّرَّاءِ وَالْعَافِيَةِ إِلَّا مَنْ ذَاقَ مِنْ عَلْقَمِ الضَّرَّاءِ وَالْبَلَاءِ.
هَذِهِ النُّفُوسُ لَوْ تُرِكَتْ فِي أَحْضَانِ السَّرَّاءِ بِلَا شَرٍّ، لَأَوْرَثَهَا ذَلِكَ الْبَطَرَ وَالْأَشَرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ رَبِّهَا، وَالِاعْتِدَاءَ وَالطُّغْيَانَ، وَالْغَفْلَةَ عَنْ أَصْلِ وُجُودِهَا؛ (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)[فُصِّلَتْ: 51].
فَكَأَنَّ هَذِهِ الْبَلَايَا تُعِيدُ هَذِهِ النُّفُوسَ إِلَى رُشْدِهَا وَاعْتِدَالِهَا.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَغَانِمِ وُجُودِ الْبَلَاءِ حُصُولُ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، وَكَثْرَةِ الْأُجُورِ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَهَذِهِ الْمَكَاسِبُ تَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَضْرَارِ وَالْأَكْدَارِ، وَكَفَى بِهَذَا مَغْنَمًا وَحِكْمَةً.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبِيِّ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ".
وَعِنْدَ أَحْمَدَ: "فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ".
عِبَادَ اللَّهِ: وَمَعَ الْبَلَاءِ الْعَامِّ تَظْهَرُ حَقَائِقُ النَّاسِ، فَأُنَاسٌ لَا يُعْرَفُ فَضْلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ إِلَّا حِينَ يُبْتَلَوْنَ، وَأُنَاسٌ يَسْقُطُونَ مَعَ أَوَّلِ اخْتِبَارٍ وَمِحْنَةٍ؛ (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)[آلِ عِمْرَانَ: 179].
فِي الْبَلَايَا كَشْفٌ لِمَعَادِنِ الْقُلُوبِ والْمَوَاقِفِ الصَّادِقَةِ، فَيَتَكَشَّفُ لِلْجَمِيعِ الْقُلُوبُ الْمُؤْمِنَةُ، مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي فِيهَا مَرَضٌ، وَلِذَا ذُكِرَ عَقِبَ آيَةِ الْبَلَاءِ قَوْلُ الْحَقِّ: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 11].
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "النَّاسُ مَا دَامُوا فِي عَافِيَةٍ فَهُمْ مَسْتُورُونَ؛ فَإِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ صَارُوا إِلَى حَقَائِقِهِمْ؛ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ إِلَى إِيمَانِهِ، وَصَارَ الْمُنَافِقُ إِلَى نِفَاقِهِ".
هَذَا الْبَلَاءُ دُرُوسٌ فِي تَرْبِيَةِ الرِّجَالِ؛ فَيُرَبِّي نُفُوسَهُمْ عَلَى التَّحَمُّلِ وَالتَّصَبُّرِ، وَعَلَى التَّعَايُشِ مَعَ صَدَمَاتِ الْحَيَاةِ وَشَدَائِدِهَا، لِيَخْرُجَ الْمُبْتَلَى بَعْدَ هَذَا الْبَلَاءِ وَهُوَ أَقْوَى إِيمَانًا، وَأَصْلَبُ عُودًا، وَأَكْثَرُ صَبْرًا، وَأَشَدُّ الْتِصَاقًا بِاللَّهِ.
وَتَبْقَى الْبَلَايَا رَسَائِلَ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ لِتَقُولَ لِأَهْلِهَا بِلِسَانِ الْحَالِ: "لَا تَرْكَنُوا إِلَى الْعَاجِلَةِ، وَعَلِّقُوا الْقُلُوبَ بِالْبَاقِيَةِ الْخَالِدَةِ؛ (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الْقَصَصِ: 60]، (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)[آلِ عِمْرَانَ: 198]".
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ …
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: وَبَعْدَ خَبَرِ حِكْمَةِ الْبَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، لَا يَطْلُبُ الْبَلَاءَ، وَلَا يَبْتَغِي الْشَّقاءَ، وَلَا يَتَمَنَّى لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَلَا يَسْعَى لِلِاضْطِهَادِ، بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَأَنْ لَا يُفْتَنَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، لَكِنْ إِنْ نَزَلَ الْبَلَاءُ؛ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَأَنْ يَسْعَى فِي اسْتِدْفَاعِ قَدَرِ الْبَلَاءِ بِقَدَرِ الْعَافِيَةِ.
وَمِمَّا يُهَوِّنُ الْبَلَاءَ فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْمَقُولَةُ الَّتِي قَالَهَا الْعَبْقَرِيُّ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَا أَصَابَتْنِي مُصِيبَةٌ إِلَّا وَجَدْتُ فِيهَا ثَلَاثَ نِعَمٍ : الْأُولَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي دِينِي، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَتْ، وَالثَّالِثَةُ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَيْهَا الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ".
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم