عناصر الخطبة
1/رابطة الأخوة الإيمانية 2/مأساة السجون 3/نصائح وتوجيهات للقائمين على السجون 4/بعض الواجبات نحو أسر المساجين 5/التذكير بالمساجين خارج البلداقتباس
حديثنا -أيها الإخوة-: عن شيء غائب بنفسه حاضر بمأساته وأثر جرمه. أما غيابه فهو بتغييبه عن الناس فليس فيهم وهو منهم، لا يرى الدنيا وهو من أهلها. أما حضوره بمأساته، فإنَّ أمره لم ينته عند إلقاء القبض عليه وقضيته لم تنس بإيداعه غيابة السجن، وقطعِ صلته بمريديه، وحجبه عن أهله وذويه. فلعلك أدركت من هم محل الكلام؟ إنهم نزلاء ال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله فتح بابه للتائبين، وقبل برحمته رجوع المذنبين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخذ العفو وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتواضعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جعل الله المسلمين أمة واحدة، ارتبط أفرادها برابطة الأخوة الإيمانية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10].
يفرحهم ما فيه عزهم، وجمع كلمتهم، والسعي بما فيه صلاحهم واستقامة مجتمعاتهم.
ويسؤوهم ما فيه سبب هوانهم، وتفريق صفهم، وفلُّ وحدتهم، وإفسادُ تجمعهم.
عباد الله: إن طائفة من أبناء المجتمع وهم موجودون في كل مجتمع، لا يستثنى مجتمع دون آخر إن هذه الطائفة من الأبناء زلَّت بها القدم حين آثرت حظوظ النفس العاجلة، واستهانت بنواهي الله الزاجرة، فهي تتخبط في حرمات الله آثمة فاجرة.
حديثنا -أيها الإخوة-: عن شيء غائب بنفسه حاضر بمأساته وأثر جرمه.
أما غيابه فهو بتغييبه عن الناس فليس فيهم وهو منهم، لا يرى الدنيا وهو من أهلها.
أما حضوره بمأساته، فإنَّ أمره لم ينته عند إلقاء القبض عليه وقضيته لم تنس بإيداعه غيابة السجن، وقطعِ صلته بمريديه، وحجبه عن أهله وذويه.
فلعلك أدركت من هم محل الكلام؟
إنهم نزلاء السجون، ومن أوقفتهم يد العدالة، وحجبتهم حماية المصلحة العامة عن النزوة الخاصة، والطيشة الظالمة.
إن هذا الموضوع تكاد تسبق فيه الدموع العبارات، وتختنق قيه الكلمات بغصص العبرات.
وحيث إنَّ مناقشة أمور المساجين، وأحوالَ السجون، يطول به المقام، ويتشعب فيه الكلام، فالجهات الرسمية جزء من قضيتهم، والمجتمع الذي تنتمي إليه هذه الطائفة جزء آخر، وأسرهم وذووهم جزء ثالث.
فهل نجعل الكلام موجهاً لإدارات السجون وماذا عليها من الترتيبات التي تحاصر بها جريمة السجين حتى لا يخرج السجين بعد محكوميته بجريمة إلى جريمته؟.
أو نجعل حديثنا مع سجين لا يزال في مكان قصي عنا، فهو يعد الساعات قبل الأيام والأيام قبل الشهور، نفد صبره واشتد كربه، ولا يرى فرجه إلا من عند ربه.
مع جلالة هذه المواضيع إلا أنَّ حكمة القول تقتضي أن يكون الحديث مع الحاضر دون الغائب مع من يرجى أن تكون الكلمات تسد فيه الثغرات، والتوجيهات تدفع عنه -بإذن الله- المهلكات.
وبداية القول هنا أمور لا أظنها محل خلاف بيننا:
فأولاً: السجين من جملة المسلمين، فأخوته ثابتة في الدين حال سجنه وبعد أن يفرج عنه كما أنها ثابتة قبل أن بركب الشطط ويدخل السجن أو هي أشد، فالتباعد عنه والتبرؤ منه، والتساهل في حقوقه تفريط فيما أوجب الله تجاهه.
ثانياً: من المساجين من أخذ على غرة فهو مظلوم في سجنه، ملاحق بغير ذنبه فهو يعاني مرارة الظلم فوق مرارة السجن: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف: 188].
ثم بعد هذا نجعل كلامنا إلى سجين فرَّج الله عنه، وأعتقه الله من سجنه فهو بين أهله بعد انقطاع طال أو قصر، فنقول له: الحياة دروس والكبوة بعدها الأوبة، والغفلة علاجها التوبة فاحفظ الله يحفظك أقبل على ربك يصلح لك ما أفسدته يد المعصية، ودنسته أوساخ الخطيئة.
ولغيره نقول: لا يجوز لمسلم كائناً من كان أن يحقر مسلماً؛ لأنه كان سجيناً في يوم من الدهر، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك" [رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"].
فقبول السجين بعد أنَّ فرَّج الله عنه فيه إعانة له على نفسه وشدٌّ من أسره، وقطع لأطماع رفقاء السوء منه، والسجين يبتلى بعد خروجه كما يبتلى في سجنه، والتخلي عنه إعانة للشيطان عليه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعينوا الشيطان على أخيكم... ".
فالاحتساب في توظيف المفرج عنهم من السجناء، وشغلهم فيما يهذب نفوسهم، ويقضي على النزوات فيها، ويسدُّ حاجتهم من أكبر المعروف فيهم، ومن أعظم ما يدخره الإنسان أجراً عند ربه.
وإذا كانت الحكمة تقتضي أن لا توكل إليه مهام الأمور، وأن لا يجعل صاحب السوابق على خزائن الأرض، فالحكمة أيضاً تقتضي أن لا يترك لينهكه الفراغ، ثم يتولى ليفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
ومن أول وأولى من نخاطب بذلك أقارب السجين، فحق عليهم زيارته، وإبقاء العلاقة معه، بل ودعوته وصنع وليمة له احتفاء بخروجه، واستبشاراً بمستقبل مشرق في حياته، وغد أفضل يكون فيه عضواً نافعاً لنفسه ولأسرته ولمجتمعه.
وفي ذلك رفع لمعنويته وإعطاء لنفسه الثقة من نفسه، وأثر ذلك لا يعلم مداه إلا خالق النفوس العالم بما تكنه وما تعلنه.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله على نبيه المصطفى، وعلى آله ومن بهداهم اهتدى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فثالث الأمور التي هي محل اتفاق بين الجميع، وهي من شرع رب العالمين: أن لا يؤاخذ أحد إلا بذنبه، وأن لا يؤخذ إلا بما جرَّه على نفسه: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [النجم: 38].
فهذا السجين إن كان أباً فما حال أسرته؟ وكيف قبول الناس لأطفاله؟
وقد اتفقنا أن أسرهم بلا ذنب!.
أيها الإخوة: لمثل هذه البيوت وهذه الأسر فليتناد المتنادون! ولأولئك الأطفال المنكسرة، أصحاب القلوب النظيفة والأعين البريئة لأولئك فليتواضع المترفعون، وليتطامن المتعالون.
فعن مصعب بن سعد قال: رأى سعد بن وقاص -رضي الله عنه- أن له فضلا على من دونه -أي: زيادة منزلة بسبب شجاعته وغناه ونحو ذلك- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" أي: "بضعفائكم" ببركتهم ودعائهم لصفاء ضمائرهم، وقلة تعلقهم، بزخرف الدنيا فيغلب عليهم الإخلاص في العبادة، ويستجاب دعاؤهم[رواه البخاري].
إنَّ الغالب على ذوي المساجين أنهم من الضعفاء، وأولاد المساجين أيتام وآباؤهم أحياء فواجب الأخوة أن تلحظ أسر المساجين وأن يتعرف على حاجاتهم فلقد أصبحت بيوتهم عورة تحوم حولها ذئاب البشر لعلهم يظفرون بصيد فيه، وربما ساوموا على أعراض حرماته مقابل مال يدفعونه، أو حاجة يقضونها.
فالغالب في أسر السجين أنه يقوم على شؤون البيت امرأة ضعيفة، هل تتفرغ لتربية الأبناء؟ أو تطلب وظيفة لتحصل على راتب يحميها من السؤال، ويكفيها ذل الاستجداء؟ أو تتابع صغارها في مدارسهم وتأمين سيرهم دون انقطاع؟ ثم ماذا عندها لاعتلال صحتهم ونوازل الدهر فيهم؟
هموم بعضها كاف فكيف إذا اجتمعت؟
فعلى أصحاب الفضل والحسبة وأهل الخير والمعرفة في الأحياء أن يتعرفوا على أسر المساجين في حيهم أو في غيره ويعملوا جادين على رفع معاناتهم وتفريج ضائقتهم والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
والاستيحاش من بيوت أناس عائلهم مسجون مهما كان ذنبه، ومهما طالت محكوميته استيحاش لا معنى له، نعم عليك أن تكون واضحاً في سؤالك عنهم ومجيئك إليهم وتعاملك معهم حتى تدفع الريبة عن نفسه، وتحمي بذلك عرضك وتدفع قائلة السوء في عملك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
ومما يذكر في هذا المقام ليشكر جهود "اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم بالقصيم" واسمها دليل -إن شاء الله- على مسماها، وقد أثنى عليها عدد من المشايخ الذين اطلعوا على جهودها، كما أفتى سماحة المفتي العام للمملكة بجواز دفع الزكاة لهم.
فالوقوف معها معنوياً ومالياً وبذل المعونة البدنية وإبداء الرأي والمشورة لأعضاء اللجنة كل هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن صنائع المعروف التي تقي مصارع السوء.
أيها الإخوة: الكلام على قضايا مساجين الداخل لا ينسينا سجون الخارج الذين يمضون في سجون أعدائهم السنوات تلو السنوات، ومنهم من مضى عليها العقود ولا يزال في قبضة عدوه، فما أطول ليلهم! وأشد كربتهم! فلا تسأل عن قسوة المعاملة! وإذلال الزبانية فأصابتهم الأمراض! فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.
وما نقموا منهم إلا أن يقولون ربنا الله.
أما إنه لو كان يهوديا أو نصرانيا لرأيت انتفاضة العالم، وتحرك منظمات حقوق الإنسان.
ولكن لهؤلاء دعاؤنا أن الله يربط على قلوبهم ويجعل فرجهم.
ثم الدعاء للمشردين في بقاع الأرض، أخرجوا من ديارهم بغير حق يقضون الأيام الشاتية والليالي القارصة في عراء من الأرض، أطفالا وشيوخاً ونساء.
فاللهم اربط على قلوبهم، وأنزل دفاً في ربوعهم، وقهم بلطفك برد الشتاء، وشدة الأمطار وبرد الثلوج...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم