عناصر الخطبة
1/ آكد الحقوق على العباد وأوجبها 2/ فضل بر الوالدين وعظم أجر الإحسان إليهما 3/ وتحريم عقوق الوالدين 4/ عظم دور الأب في حياة الأبناء 5/ بر الأب وحقوقه 6/ بر الآباء بعد موتهم 7/ التلطف في دعوة الآباء للخيراقتباس
للأب حق الإحسان والطاعة، وتحقيق ما يتمناه، وله ود الصحبة والعشرة، والأدب في الحديث، وحسن المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمش بين يديه، وحيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه ولو قبلت رجليه فهو من البر، وتلزمك النفقة عليه في حال الحاجة، ولا تنسى أن تتحفه بالهدية في حال غناه ..
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الدين لعباده، وقسم الحقوق بينهم، فأعطى كل ذي حق حقه (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة: لا حق على الإنسان أعظم وأكبر بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم من حقوق الوالدين، فقد تظاهرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وأخذ الله تعالى ميثاق من كانوا قبلنا عليه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..) [البقرة: 83]، وأوجبه سبحانه في شرعنا بأقوى صيغة، وأبلغ عبارة، وقرنه بتوحيده والنهي عن الشرك به، فقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23]، فعبّر عنه بصيغة القضاء التي هي من أقوى صيغ الأمر والإلزام؛ فإن قضاء القاضي نافذ، والله تعالى أحكم الحاكمين وأعدلهم وأقواهم، وقال: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ.؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيّ قَالَ: «بِرّ الْوَالِدَيْنِ»، قَالَ ثُمَ أَيّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ. قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيّ»؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ»؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا». رواهما البخاري ومسلم، وغيرها كثير..
أيها الأحبة: الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة في وجوب بر الوالدين وتحريم عقوقهما، وهي معلومة لدى المسلمين ولن نستطرد بذكرها.. وسأقتصر في حديثي اليوم عن بر الأب بالخصوص، لا تقليلاً من شأن الأم، بل سبق أن خصصناها بحديث..
فالأب: هو سب وجودك في الحياة وما أنت إلا بَضْعة منه..
الأب: هو شمس الحياة ومبعث الاستقرار..
الأب هو ملاذ الأولاد بعد الله، وحاميهم به تقوى قلوبهم، وتزهو نفوسهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم..
الأب: هو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياة آمنة حافلة بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده..
الأب: هو خبرة الحياة التي يحتاجها الأبناء لحل ما يواجهونه، وما يقابلونه من صعاب وأحداث جمة ومشاكل... والأب كما أنه مصدر القوة والأمان لأولاده الصغار.. هو في نفس الوقت مصدر الأنس والبركة لأولاده الكبار..
وللأب حق البر والتكريم مهما بلغ سنه، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته قال الله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الاسراء: 24].. نعم واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. الرحمة التي ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً.. وكأنما للذل جناح يخفضه الولد لوالده إيذاناً بالسلام والاستسلام... (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). فهي الذكرى الحانية.. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان.. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب.. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا مما لا يقدر على جزائه الأبناء...
للأب حق الإحسان والطاعة، وتحقيق ما يتمناه، وله ود الصحبة والعشرة، والأدب في الحديث، وحسن المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمش بين يديه، وحيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه ولو قبلت رجليه فهو من البر، وتلزمك النفقة عليه في حال الحاجة، ولا تنسى أن تتحفه بالهدية في حال غناه، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ». رواه ابن ماجه وصححه الألباني، (ويجتاح) أي يستأصله، فلوالدك عليك حق النفقة والرعاية عند الحاجة أو الكبر والشيخوخة..
أيها الإخوة: كم يؤلم المؤمن ما ينتاب بعض الآباء من الحاجة مع قدرة الأبناء على الوفاء بها، ولكن مشاغل الحياة أبعدتهم.. حق على الأبناء أن يفرضوا لآبائهم ما يكفيهم من النفقة دون طلب منهم أو مسألة بل لهم المنة بقبولها..
ولقد جعل الدين بر الآباء بعد موتهم في صلة من لهم فيهم علاقة أسرية وصحبة، وذلك بِالْمَوَدَّةِ، وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، وَإِطْلَاقِ الْوَجْهِ، وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ». رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأسلمي رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، فقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ.؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ» وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إِخَاءٌ وَوُدّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذَاكَ. رواه ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني.
أيها الأحبة: واجب الإحسان بالتعامل مطلوب حتى مع الأب المشرك، فإن الآيات والنصوص قد جاءت في تبيان هذا، من ذلك قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) [مريم :41].. وكان من تلطفه عليه السلام مع أبيه في الخطاب وهو كافر ما يهز الوجدان ويحي الضمير الذي فيه حياة، يقول له في غاية التأدب: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) [مريم :42-44]، ويبدي شفقته على أبيه في أثناء الخطاب والدعوة، ويقول: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً)، فتأمل في هذا الخطاب.. ما أحسنه! وما ألطفه! مع كفر الأب وهو من أعداء إبراهيم، ويعامل ابنه بمنتهى الشدة والصلافة؛ حيث قال: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) [مريم :24ٍ]، ومع ذلك كان موقف الابن إبراهيم عليه السلام في غاية اللطافة قَالَ: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) [مريم: 47]. ويؤكد هذا المعنى ما روته أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ "قيل أي كارهة للإسلام" أَفَأَصِلُهَا قَالَ: نَعَمْ. متفق عليه، أسأل الله تعالى أن يرزقنا البر بوالدينا أحياء وأمواتًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: من المحزن لكل مسلم ما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن فلاناً قد ساءت علاقته بوالديه.. وربما لم يرى أباه أياماً وربما شهوراً وربما عياذًا بالله سنين.. أين هؤلاء من وعيد الله ورسوله وتهديده على أعواد منبره حين قال: آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ آمِينَ، قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ». الحديث رواه ابن حبان وغيره وهو صحيح.
أيها الابن: كم أسعدك أبوك في صغرك وحنا عليك بعد كبرك..
واليوم وبعدما كبرت تغير كل شيء..! حتى الزيارة صارت عليك ثقيلة..! وحديثه صار
مملاً والوقت معه محدوداً.. الأنس لغيره والبشاشة وحسن المنطق لسواه.. آه ثم آه من هذا العقوق.. أيها المقصر بحق والديك ألا تخاف من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك حين قال: «من أدرك أحد والديه، ثم لم يغفر له فأبعده الله وأسحقه»..
يا من منَّ الله عليه بحياة والديه أو أحدهما احذر ثم احذر ثم احذر أن تفوتَك الفرصة، بادر بالبر، واطرح العقوق والهجر.. اللهم اغفر لوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارًا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم