عناصر الخطبة
1/الخلق مبتَلَون بالمَنْح والمَنْع 2/الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة دليل على إيمان الأمة وتحضرها 3/أمثلة لتعامل الإسلام مع ذوي الاحتياجات الخاصة 4/نظرة الإسلام لذوي الاحتياجات نظرة احترام وتقديراقتباس
الإنسان لا يستمد مقامَه ولا مكانتَه من ضخامة بدنه وقوة عضلاته، ليس العجز بفقد السمع والبصر أو النطق ولكن العجز الحقيقي في عدم توظيف هذه الحواسّ والقوى التوظيفَ الحقيقيَّ، المعوَّقُ -على الحقيقة- مَنْ أكمل اللهُ له قدراتِه فعطَّلَها ولم يصرفها في مرضاة الله ونفع نفسه وأمته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الرزاق، مد الأرض وبسطها، ورفع السماوات السبع الطباق، أحمده -سبحانه- وأشكره، حمدا كثيرا طيبا مباركا، يملأ الآفاق، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة خالصة مخلصة مبرأة من الشك والشرك والنفاق، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، والمبعوث ليتمم مكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أهل البر والإحسان والإنفاق والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، فالأيام قلائل، والأهواء قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، جِدُّوا -رحمكم الله- في العمل، واحذروا التقصير واتقوا الزلل، واغسلوا بدموع الحسرات أدران الخطيئات، وتأمَّلُوا عواقب الدنيا وعيوبها، فقد كشف ذوو البصائر غيوبَها، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فَاطِرٍ: 5-6].
أيها المسلمون: خاطب الله -عز شأنه- الإنسان بأكرم ما فيه، خاطبه بإنسانيته التي يتميز بها عن سائر المخلوقات (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الِانْفِطَارِ: 6-8]، خلقه فأحسن خلقه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التِّينِ: 4]، فالناس مكرمون في أصل خلقتهم الإنسانية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الْإِسْرَاءِ: 70]، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الْحُجُرَاتِ: 13].
والخلق مُبْتَلَوْنَ بما أعطاهم الله وَمَنَح، وبما أخذ منهم وسلب، مبتلون بكمال الخلق وبتمام الصحة وبسلامة الجسد، كما أنهم مبتلون بضد ذلك، من النقص والإعاقات والعجز، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 35]؛ ومن أجل هذا فالإنسان موضع العناية والرعاية والحفاظ على الكرامة مهما كانت ظروفه، ومهما ابتلي من عوائق وإعاقات.
معاشر الإخوة: وإن اهتمام الأمة بأفرادها جميعا بكل فئاتهم وتنوع أحوالهم وابتلاءاتهم دليل على إيمانها وحسن تدينها، كما هو دليل على تحضرها ورقيها، ناهيكم إذا كان لها عناية خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة والمبتلين بنقص في قواهم وقدراتهم.
وديننا -بفضل الله ومِنَّته- سبَّاق في هذا الميدان وفي كل ميدان، انطلاقا من مبدأ التكافل الاجتماعي يجلِّي ذلك ويجسِّده قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا شَكَى عُضْوًا تَدَاعَى سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" (مخرَّج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-).
أيها المسلمون: إخواننا وأبناؤنا وأخواتنا وبناتنا ذوو الاحتياجات الخاصة هم جزء من بنائنا ونسيجنا الاجتماعي، إنهم عناصر فعَّالة ذات إسهام في هذا البناء، حقهم أن توفَّر لهم البيئة الصالحة والظروف الملائمة لمنحهم الفرص الحقيقية المناسبة من أجل البناء والعطاء وتوظيف القدرات واستثمارها لهم ولنا، ذوو الاحتياجات الخاصة محفوظة حقوقهم الدينية والعلمية والعملية والنفسية والجسمية والاجتماعية والمالية وسائر شئونهم.
وإن في ديننا الكثير من مفردات العناية والاحتفاء بهذه الفئة من إخواننا عناية ورعاية يستوون فيها مع غيرهم من الأصحاء والأسوياء.
معاشر الإخوة: ومن أجلى مفردات العناية والاحتفاء ما يعبر عنه بالدمج والاندماج وفرص المشاركة، فتأملوا -رحمكم الله- هذه التوجيهات العظيمة والدقيقة، فهذا عبد الله بن أم مكتوم، الرجل الأعمى عاتَب اللهُ نبيَّه محمدا -صلى الله عليه وسلم- من أجله حين قال سبحانه في محكم تنزيله، بسم الله الرحمن الرحيم: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) [عَبَسَ: 1-11].
في هذه القصة والتوجيه نموذج لأصول التعامل مع هذه الفئة الكريمة على الله، والكريمة على الناس والكريمة على أهل العقول والحجا، وأهل النصح والصلاح، وأهل المسئولية الحقة، في هذه القصة لا تمييز بينهم وبين غيرهم من علية القوم ووجهائهم فضلا عن سائر الناس؛ فقد عوتب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه التفت إلى مجموعة من صناديد قريش فيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وفيهم العباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، هذه لفتة ولفتة أخرى؛ وهي أن المكلفين على درجة واحدة؛ علية القوم وسوقتهم خاصتهم وعامتهم، ولهذا قال في ختام العتاب: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) [عَبَسَ: 11]؛ أي الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم أفاد ذلك ابن كثير -رحمه الله-.
عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- لم يكن عَمَى بصرِه مانعًا من النظر في كفاءته ومقدرته؛ فقد استخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- على المدينة ثلاث عشرة مرة، كما تقول كتب التاريخ، فالنقص في جانب ليس نقصا في كل الجوانب، بل لعل في ذلك ما ينبِّه إلى أن البشر كل البشر فيهم جوانب نقص كما أن فيهم جوانب كمال، عبد الله بن أم مكتوم شهد فتح القادسية ومعه اللواء وقيل: إنه قتل فيها شهيدا -رضي الله عنه وأرضاه-.
هذا الأعمى -رضي الله عنه- كان يقوم بوظيفة الأذان بل كان هو المسئول عن ضبط الوقت للصلاة والصيام "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" ولمزيد من دمجه ومشاركته في المجتمع وهو أنموذج لغيره لم يأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد على الرغم مما أبداه من أعذار فهو أعمى وليس له قائد يقوده إلى المسجد وبينه وبين الطريق عوائق قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قال: نعم، قال: أَجِبْ، لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً" (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
أيها المسلمون: ومن التوجيهات في الاحتفاء بهذه الفئة ودمجها ومشاركتها ما جاء في قوله -سبحانه-: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) [النُّورِ: 61]، قال أهل العلم: إنهم -أي: المؤمنين- كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيرُه إلى ذلك، ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسُه والمريض لا يستوفي الطعامَ كغيره فكرهوا أن يؤاكلوهم؛ لئلا يظلموهم فأنزل الله الآية.
وثمة اعتبارات أخرى ذكرها بعض أهل العلم؛ منها: أن أصحاب الحاجات الخاصة مرهفو الشعور، رقيقو العاطفة دقيقو الإحساس، يخشى الواحد منهم أن يكون وجوده مع الأسوياء مكدِّرا أو مؤذيا فيتحرَّج من مخالطتهم، والأكل معهم فجاءت الآية الكريمة لتنفي ذلك، وربما ساء خُلُق بعض الناس فنفر من الأكل مع هذه الفئة الكريمة كِبْرًا وتعززا فجاءت الآية لترفع كل هذه الاحتمالات وتدمج كل الفئات ليعيشوا جميعا في بنية متراصة متراحمة متآخية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النُّورِ: 61]، كل ذلك في إنسانية أخَّاذة ورفق جميل وإبعاد عن الخجل والمسكنة والاستنقاص والازدراء.
ومن التوجيهات المستنبطة في المشاركة والاندماج ما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، قيل : يَا رَسُولَ اللهِ، وما الفأل؟ قال: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ" (متفق عليه).
إنه هدم للحاجز بين المريض معوَّقًا أو غيره، وفتح للأبواب أمامه وأمام المجتمع بالخلطة والمشاركة دون خوف، فلا يتردد صحيح ولا يخجل مُبْتَلًى مع الأخذ بالأسباب واتقاء المخاطر المدلول عليها بمثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ".
معاشر الأحبة: ومن جميل حضارتنا وطريف تراثنا واحتفائها بكل رجالاتها أنها أبقت على رجالات الأمة وقادتها العلمية والفكرية من أعلامها، أبقت عليهم بألقابهم، من غير خجل أو انتقاص من الأعرج والأعمش والأصم والأخفش وغيرهم ولقد كان لأصحاب هذه الألقاب مكانتهم العلمية وخلَّد ذكرَهم التاريخُ تخليدا لا يدانى.
أيها المسلمون: ومما ينبغي تقريره أن أصحاب الاحتياجات الخاصة يواجهون مشكلات ومعوقات لا يستطيعون معها مواجهة معترك الحياة بقدراتهم الذاتية؛ مما يوجب بذل مزيد من العناية وحسن التعامل لتتحقق لهم حاجاتهم ويشبعوا حاجاتهم، إن لهؤلاء الأفاضل الكرام الحق في إيجاد الوسائل المساعدة وتوفير البيئة الملائمة وتهيئة الظروف في عملهم وتعليمهم وتنقلهم وتحركهم داخل المساكن والطرقات والمرافق العامة والخاصة، وأماكن العمل ودور التعليم، والبيئة العمرانية.
يجب تقديم كل المساعدات الْمُعِينَة على التكيف مع البيئة الاجتماعية ليتحقق لهم أقصى الدرجات الممكنة من الفاعلية الوظيفية والتوافق مع قدراتهم ليعتمدا -بعد الله- على أنفسهم، ولا ينبغي أن يتوقف الأمر عند حدود المبادرات الشخصية والتوجهات الخيرة لدى بعض الفضلاء والمحسنين بل يجب أن تتحول الجهود من الجميع دولا ومؤسسات وأفرادا إلى برامج وخطط وجهود منظَّمة لسد الاحتياجات بل لإشباعها وحُسْن توظيفها، وتحقيق الرعاية الاجتماعية الحقة لتصبح إحدى المهمات الرئيسية للدول والمجتمعات للوصول إلى أفضل مستوى معيشي وخدمي.
ومن العناية بهم -أيها الإخوة- وحقوقهم على مجتمعهم ودولهم: إعداد الدراسات والأبحاث وإنشاء المراكز المتخصصة علميا وفنيا وإعداد أهل الاختصاص من المعلمين والمدربين والفنيين.
وبقي خطاب للأسرة التي تحتضن هؤلاء الإخوة والأخوات: أن يعينوهم ويربوهم على تحمل المسئولية والاعتماد بعد الله على أنفسهم ما أمكن ذلك، فليس من الرحمة واللطف عدم تكليفهم بل إن لهذه النظرة آثارا نفسية سلبية لا تخفى.
وبعدُ: فما من شك أن بذل مزيد من العناية بهم وحُسْن رعايتهم والحرص على إعطائهم حقوقهم وتوفير الفرص لهم سيفضي إلى زيادة شعورهم بالإخوة والانتماء والمشاركة فهم قادرون على الإسهام إسهاما حقيقيا في بناء مجتمعهم والتنمية والعيش الكريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التَّوْبَةِ: 91].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الصادق في قيله، الهادي إلى سبيله، أحمده -سبحانه- وأشكره على وافر النعم وجزيله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توحيد خالص إثباتا وتنزيها من غير تحريف المعنى ولا تأويله أو تعطيله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله جاء بالحق ودليله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه اتبعوا نهج نبيهم في دقيق الأمر وجليله والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ما داوم عبد على ذكر ربه وتحميده وتسبيحه وتهليله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعدُ أيها المسلمون: مقياس الصلاح والرقي والفساد والتردي لا يرجع إلى مظاهر الغنى، واكتمال القوى، واكتناز الجسد، ولكنه راجع إلى صلاح النية والقلب وصلاح العمل، "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
الإنسان لا يستمد مقامه ولا مكانته من ضخامة بدنه وقوة عضلاته، ليس العجز بفقد السمع والبصر أو النطق ولكن العجز الحقيقي في عدم توظيف هذه الحواس والقوى التوظيفَ الحقيقيَّ، المعوَّق -على الحقيقة- مَنْ أكمل اللهُ له قدراتِه فعطَّلَها ولم يصرفها في مرضاة الله ونفع نفسه وأمته، ولقد قال الله في أقوام: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 179]، وقال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الْأَنْفَالِ: 22].
ومن هنا: فإن نظرة الإسلام لهذه الفئة الكريمة من ذوي الاحتياجات الخاصة لم تكن نظرة شفقة أو استضعاف، ومن نظر إليهم هذه النظرة فهو لم يحسن إليهم ولم يوفر حقوقهم، إن حقوقهم محفوظة بمقتضى حفظ حقوق الإنسان الأساسية، إنهم جزء مما اقتضه حكمة الله وسنته من التنوع البشري والطبيعة البشرية، ومن أجل هذا فإن ما كانوا معذورين فيه لم يكن انتقاصا من حقهم أو تقليلا من منزلتهم؛ ذلكم أن الحرج والعذر والرخصة هي لجميع أفراد الأمة فيما يعجزون عنه فالتكليف مرتبط بالاستطاعة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [الْبَقَرَةِ: 286]، والتقوى مع الاستطاعة (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التَّغَابُنِ: 16].
وهذه خطابات لجميع الأمة فمن حصل له عذر أو حل به مانع فالحرج عنه مرفوع وله الأجر كاملا والجزاء موفورا، وسواء في ذلك من فعل العزيمة أو من فعل الرخصة، فالعجز يحمل على الأنقص، ولكن نيتهم وقصدهم الإتيان بالأكمل فلهم الأجر غير منقوص إذا نصحوا لله ورسوله.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واعرفوا فضل الله عليكم واحفظوا حقوق إخوانكم، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان، والمؤمنون إخوة والكل مكلفون، وكل ميسَّر لِمَا خُلِقَ له.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلكم ربكم في محكم تنزيله فقال وهو الصادق في قيله قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المصطفى والنبي المجتبى وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك وإكرامك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عباد المؤمنين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأعزه بطاعتك، وَأَعْلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويهدى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم كن لإخواننا في فلسطين، اللهم كن لإخواننا في غزة، اللهم ارحم ضعفهم وقو عزائمهم، اللهم إنهم ضعاف فقوهم وحفاة فاحملهم وجياع فأطعمهم وعراة فاكسهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم وارفع الحصار عنهم واكشف كربهم، يا قوي يا عزيز.
اللهم اكتبنا في ديوان السعداء، وأعزنا من حال أهل الشقاء، واغفر اللهم لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
اللهم اجعل جزاءنا موفورا وسعينا مشكورا وذنبنا مغفورا، اللهم أذقنا بَرْد عفوك وحلاوة مغفرتك ولذة مناجاتك، اللهم وَفِّقْنَا للتوبةِ والإنابةِ وَافْتَحْ لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبل صلاتنا ودعاءنا وكفر عنا سيئاتنا وتب علينا واغفر لنا يا أرحم الراحمين.
(عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يُونُسَ: 85]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 180-182].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 90]. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم