حال المسلم بين كمال العبودية وكمال المحبة

الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي

2024-05-03 - 1445/10/24 2024-05-04 - 1445/10/25
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/توالي مواسم العبادات رحمات وبركات 2/حياة المسلم التقي كلها لله تعالى 3/على العبد أن يحقق كمال العبودية مع كمال المحبة 4/بعض الحِكَم من تشريع أشهر الحج

اقتباس

إنَّ مُراد العبد المؤمن من أعماله تحقيق عبودية خالقه، وامتثال أمره، وبلوغ رضوانه وتحقيق رضوانه، إنها منزلة من الإيمان عَلِيَّة، ودرجة من العبودية سَنِيَّة؛ حين يكون الله -تعالى- هو قُرَّة عين العبد، وسُلوان قلبه، ثم يكون هو مطمح نظره، ومنتهى آماله، ومقصود أعماله...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي شرَع فأحكَم ما شرَع، وصنَع فأبدَع صُنْعَ ما صنَع، شرَع شرائعَ الإسلام فأحكَمَها، وابتدأ صنائعَ الإنعام فأتهمَّا، وأفاض سحائب الآلاء فخصَّها وعمَّها، أعزَّ مَنْ شاء بفضله ورَفَع، وخفَض مَنْ شاء بعدلِه ووضَع، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وخيرتُه مِنْ خَلقِه، وصفوتُه مِنْ بَرِيَّتِه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ سارَ على نهجِهم واتَّبَع.

 

أمَّا بعدُ، معشرَ المؤمنين والمؤمنات: فإنَّ حِكمةَ اللهِ البالغةَ وتشريعَه البديعَ اقتضى أن يُعقِب شهرَ رمضانَ بأشهُر الحجِّ؛ لينتقل المسلم من موسم إيمانيّ إلى مِثلِه، ومن مرتع روحانيّ إلى آخَرَ، يتنقل بين أفياء إيمانيَّة وظلال ربانية، فتبقى جذوة الإيمان في قلبه مشتعلة، ومشاعرها في نفسه ثائرة، فلا يكون اتصالُه بربِّه وعَلاقته بخالقه مرتبطة بمناسبات الزمان والمكان، بل ببقاء جذوة الإيمان في قلبه، على تغاير الأحوال وتقلبات الزمان.

 

إنها الحكمة الربانية في التشريع، والإحكام الإلهي من الخالق البديع، فسبحان مَنْ شرَع فأحكَم ما شرَع، وخلَق فأبدَع ما صَنَعَ، إنَّ ذلك يلفتنا إلى أن حياة المسلم كلها لله، كما قال جلَّ شأنُه: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162-163].

 

وقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهتُ وجهي للذي فطَر السماوات والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمرتُ وأنا مِنَ المسلمينَ، اللهُمَّ أنتَ الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لَبَّيْكَ وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".

 

إنه يلفتنا إلى المفهوم الأرحب للعبادة والعبودية لله، وأنها ليست منحصرة في رسوم العبادات، ولا مقتصرة على شعائر الطاعات، ولا محدودة بحدود الزمان والمكان؛ فالمسلم يسير في حدود دائرة العبودية، يرتع في مراتعها ويقيم بين مرابعها، فلا يأنس إلا بها، ولا يأوي إلا إليها، ولا يحوم طائره إلا عليها.

 

إن العبد المؤمن يحيا حياته كلها لله، فإذا أحبَّ أحب لله، وإذا أبغَض أبغَض لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا منَع منَع لله، فكانت له نية صالحة في كل فعل أو ترك، فحينئذ يستكمل الإيمان، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "مَنْ ‌أَحَبَّ ‌لِلَّهِ، ‌وَأَبْغَضَ ‌لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ".

 

إن مراد العبد المؤمن من أعماله تحقيق عبودية خالقه، وامتثال أمره، وبلوغ رضوانه وتحقيق رضوانه، إنها منزلة من الإيمان عَلِيَّة، ودرجة من العبودية سَنِيَّة؛ حين يكون الله -تعالى- هو قُرَّة عين العبد، وسُلوان قلبه، ثم يكون هو مطمح نظره، ومنتهى آماله، ومقصود أعماله؛ وذلك حين تعظم في القلب محبته، وتستحكم عروتها.

جَرَى حُبُّهُ مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي *** فَأصْبَحَ لي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهِ شُغْلُ

 

ولا غروَ فإنَّ المحبة حين تنقدح جذوتها في القلب وتشتعل نارها، يتطاير إلى الجوارح أُوارُها، وتظهر على الْمُحِبِّ آثارُها، وإنكَ لَتجِدُ في أخبار مَنْ غلب عليه الهوى، وأسرف في سبيله من ذلك ما لا ينقضي منه العجب؛ ذلك وهو حب هوى من مخلوق لمخلوق، فكيف يكون حب العبودية الصادق من المخلوق للخالق، فالله -تعالى- يقول عن أهل الإيمان: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 165]، إنه -سبحانه- أحقُّ من خفقت القلوب بمحبته، وأَوْلَى مَنْ تحرَّكَتِ الجوارحُ في طاعته، وكفى بمحبة الله حاديًا لنفس المؤمن إلى مرضاة محبوبه -تعالى-؛ كأن لديها سائقًا يستحثها كفى سائقًا بالشوق بين الأضالع.

 

وحين نتأمل دعاءه -صلوات الله وسلامه عليه- المذكور آنِفًا في استفتاح الصلاة: "‌اللَّهُمَّ ‌أَنْتَ ‌الْمَلِكُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ"، نجد أنَّه أعقَب تلك المناجاةَ والثناءَ على الله والدعاء بالمغفرة الدعاء بالهداية لأحسن الأخلاق؛ وفيه إشارة إلى ما تقدَّم، من أن عبودية الله يتَّسع مداها ويمتدّ إلى ما يتجاوز رسومَ العبادات وشعائرَ الطاعات؛ حتى يشمل عَلاقة العبد بالخَلْق؛ فإن حُسْن الخُلُق مع الخَلْق، وأداء حقوقهم والإحسان إليهم من أجَلِّ صور العبادات وأعظم شعب الطاعات.

 

اللهُمَّ ارزقنا حُبَّكَ، وصِدقَ عبوديتك، ووفِّقْنا لطاعتك ومُنَّ علينا بعفوك ومغفرتك، واهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عَنَّا سيئها لا يصرف عَنَّا سيئها إلا أنت.

 

أقول ما سمعتُم، واستغفر الله لي ولكم فاستغفِروه إنه كان عفوًّا غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حقَّ حمدِه، المتفرِّد بعظمتِه وكبريائِه ومَجدِه، نحمده على صنوف آلائه ورفده، والصلاة والسلام على ورسوله وعبده، سيدنا ونبينا محمدِ خيرِ داعٍ إلى هداه ورشده، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وجنده.

 

أما بعدُ: فإنَّ اللهَ -سبحانه وتعالى- حين ندَبَنا إلى التزوُّد لمنسكِ الحجِّ في مَعرض بيان زمانه وأشهره التي تَعقُب شهرَ الصيام لَفَتَنا إلى أعظمِ زادٍ، فقال -جلَّ شأنُه- في مُحكَم الكتابِ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197]، وحين شرع الصيام قبل ذلك قال -سبحانه-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، إشارة إلى أن التقوى مبتدأ المسير وخاتمته، ومطية المؤمن وراحلته، زودني الله وإيَّاكم التقوى ووفقنا لما يحب ويرضى.

 

معشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: وإنَّ مِنَ الحِكَم التي تلوح للمتأمِّل مِنْ تشريعِ أشهُرِ الحجِّ ما يُوقِع ذلك في النفوس من تعظيم شعائره وتهيُّب مناسكِه، فكما جعَل الشارعُ -سبحانه- للمناسك حَرَمًا مكانيًّا، جعَل لها حَرَمًا زمانيًّا، تعظيمًا لشعيرة الحج في القلوب، وترسيخًا لحرمتها في النفوس؛ ولذلك كانت بعض أشهر الحج من الأشهر الحرم؛ وذلك شهر ذي القعدة كله، وشهر ذي الحجة كله، أو عشر منه أو ثلاثة عشر على اختلاف أهل العلم، فهي من أشهُر الحَج ومن الأشهُر الحُرُم معًا، وما ذلك إلا لمزيد تعظيم هذه الشعيرة الجليلة، وزرع هيبتها في القلوب، فلا تتجاسَرْ على إحداث ما يمسّ حرمتَها أو ينال من قدسيتها.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إنَّكم في أيام عظيمة، وموسم جليل من مواسم الطاعات تَنهلُون من مَعِين فُراته، وفي بلد مبارَك تتفيؤون ظلالَه وتنعمون بخيراته، فأجِملوا في حمد الله وشكره، وتعظيم شعائره واتِّباع أمرِه، وعظِّمُوا لهذه الأيامِ حُرمتَها، واعرفوا لهذه البلاد المبارَكة قدسيتها.

 

واعلموا أنَّ هذا اليومَ من الأيام تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام، على سيد الخلق وخير الأنام، -صلوات الله وسلامه عليه-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِنْ أفضلِ أيَّامِكم يوم الجمعة، فأكثِرُوا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي".

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، ورحمتك للعالمين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، صلاة تترى دائمة إلى يوم الدين، اللهمَّ وارضَ عن الخلفاء الراشدين والسادة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض اللهمَّ عَنَّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا محفوظًا يا ربَّ العالمينَ، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهمَّ وفِّق ولي أمرنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، يا سميع الدعاء، اللهمَّ اجعل في أعمالهما الخير والبركة والسداد، ووفقهما لما فيه صلاح العباد والبلاد، في الدين والدنيا والعاجل والآجل يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احفظ ووفق ولاة أمور المسلمين لما فيه الخير للإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ، واجعلهم رحمة على شعوبهم يا أكرم الأكرمين.

 

اللهُمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب،

 

عبادَ اللهِ: استديموا فضل ربكم بشكره، واحفظوا نعمتَه باتباع أمره، والهَجُوا بدعائه وذِكْره؛ سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

حال المسلم بين كمال العبودية وكمال المحبة.doc

حال المسلم بين كمال العبودية وكمال المحبة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات