عناصر الخطبة
1/خلق الله الإنس والجن لعبادته وحده لا شريك له 2/أسباب بغض الله للكافر وعدم معاجلته بالعقوبة 3/حال الكافر عند الموت 4/حال الكافر في المحشر وأصناف العذاب الواقع عليهاقتباس
إنّ موعد عذاب الكافر يبدأ من حين موته، فإذا فارقت روحُه جسدَه انتقلت إلى عالمٍ آخر؛ عالمٍ فيه الأهوال والآلام والأتعاب. لقد متعهم الله قليلًا وضحكوا قليلًا، وسيبكون كثيرًا: (وَلَوْ تَرَى) أي: لو رأيت هؤلاء على حقيقتهم لرأيت...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْد للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الله -جلّ جلالـه وعظُم شأنه ولا إله غيره- خلق الإنس والجن لغايةٍ واحدة ومقصدٍ واحد؛ وهو أن يعبدوه ويوحدوه ويملؤوا أوقاتهم بالعبادة والطاعة؛ كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون)[الذاريات: 56]؛ أي: ليوحدون، فمن أطاع الله -جَلّ وَعَلَا- أحبه، ومن عصاه وكفر به أبغضه.
والله -سبحانه- يبغض الكافر بغضًا شديدًا، يقول جل وعلا: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم)[البقرة: 276]، لماذا؟
لعدة أسباب: السبب الأول: لأنه جحد نعم الله -جَلّ وَعَلَا-.
السبب الثاني: لأنه ملأ الدنيا برغباته وشهواته، وبالمعاصي والجحود والكفر.
والله -جَلّ وَعَلَا- إنما خلقه وأعطاه السمع والبصر والعقل والمنطق واللسان: ليعمر أوقاته بالطاعة والعبادة، ولكنه فعل عكس ذلك؛ ولذلك يكرهه الله -جَلّ وَعَلَا- كرهًا شديدًا.
ومن حكمة الله -تعالى- أنّ لم يعجل عقوبة الكافر، بل جعله يتمتع في هذه الحياة؛ يقول جل وعلا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ)[محمد: 12]، وبعد ذلك: (وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم)[محمد: 12]، وانظر إلى حقارة هؤلاء الكفار؛ حيث جعلوا غاية قصدهم التمتع والأكل، ولذلك شبَّههم بالأنعام فقال: (كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ) فالأنعام همها شهواتها وبطنها وراحتها، والكافر كذلك؛ همه شهوته وطعامه وشرابه ونومه وكسب المال.
أين عقله؟ لقد استخدمه أو عطله. أين سمعه؟ لم يسمع به الحق. أين بصره؟ لم يبصر به الحق. أين لسانه؟ لم يتكلم بالحق؛ فلذلك كان كالأنعام بل هو أضل؛ (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)[الفرقان: 44].
ومع ذلك فربنا -جَلّ وَعَلَا- قد حَرَم هؤلاء الأنس، وراحة البال، وانشراح الصدر، والسعادة، كمال قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[طه: 124].
إنك تراهم يذهبون ويمرحون، وربما كانوا أغنياء وتجارًا، ولكن الوحشة والضيق والضنك في قلوبهم؛ كمال قال الله -تعالى-: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد)[آل عمران: 196]؛ فلا تغتر بهؤلاء الذين أُعطوا زينة الحياة الدنيا، لقد متعهم الله في الظاهر، وأما في الباطن فقد ملأ قلوبهم آلامًا ونكدًا.
إنّ موعد عذاب الكافر يبدأ من حين موته، فإذا فارقت روحُه جسدَه انتقلت إلى عالمٍ آخر؛ عالمٍ فيه الأهوال والآلام والأتعاب، لقد متعهم الله قليلًا وضحكوا قليلًا، وسيبكون كثيرًا.
تأمل قول الله -جَلّ وَعَلَا- في بيان حال هؤلاء –نعوذ بالله من حالهم- عند وفاتهم: (وَلَوْ تَرَى) أي: لو رأيت هؤلاء على حقيقتهم لرأيت أمرًا فظيعًا: (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)[الأنفال: 50].
يا الله! هذا أول الطريق، ضربٌ بالوجه وضربٌ بالدبر، هذه هي الآلامُ الحسية، أما الآلام المعنوية: (وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق)[الأنفال: 50] يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: ذوقوا عذاب الحريق؛ الذي سيحرقكم ويجعلكم تشعرون بالآلام إلى ما لا نهاية.
هذه الآلام لا تنقضي في يوم ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ولا مليار سنة، بل هي آلامٌ لا تنقضي أبد الآبدين.
فإياك -أخي المسلم- أن تتمتع في الدنيا بالحرام، إياك أن تقضي وقتك في تلبية رغباتك وشهواتك، وتعصي الإله العظيم الجبار الخالق.
إنّ حياتك هذه حياةٌ قصيرة، ثم تفارقها وستلقى جزاء ما عملت؛ ستلقى عقوبة الغيبة والنميمة وترك الصلاة يوم القيامة.
فكر يا عاقل، فكر أخي المسلم، فكر في مصيرك بعد موتك، لا تفكر في هذه الحياة الدنيا فقط، فأنت ميّت لا محالة.
إنّ كل يومٍ نودع فلانًا وفلانة، وسيأتي اليوم الذي نودعك، فاستعد لما بعد الموت.
ثم يُعذب هذا الكافر المجرم الذي همه شهواته في الدنيا في قبره عذابًا شديدًا؛ فيُفرش له في قبره من النار، ويُضرب بمطرقةٍ من حديد ضربةً بين أذنيه، فيصرح صرخةً شديدة يسمعها من حوله إلا الإنس والجن، نعوذ بالله من ذلك.
وأما حاله يوم الحشر فحالٌ عجيبة، حيث يُحشر هذا المجرم الكافر إلى النار عطشان ذليلًا مهينًا، يقول جل جلاله وعظُم شأنه: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[مريم: 85]، نسأل الله -تعالى- أن نكون منهم، وفودًا مكرمين منعمين؛ لأنهم كرموا دين الله فكرمهم الله -جَلّ وَعَلَا-، ورفعوا هذا الدين فرفعهم الله رب العالمين: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم: 85] عطاشًا.
ويُحشر أعمى لا يبصر، حيث يسمع من حوله؛ ويسمع التقريع، ويسمع صوت النار، لكنه لا يرى، كما قال تعالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]، فيقول لله عز وجل: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا)[طه: 125]؛ في الدنيا كنت أبصر وأشاهد، وأما الآن فلا أرى شيئا، (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طه: 126]، من نسي آيات الله، ونسي القرآن نسيه الله -جَلّ وَعَلَا- يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك.
ويُحشر كذلك على وجهه، قيل: يا رسُولَ الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم".
ويُحشر كذلك سحبًا، ويُدفع دفعًا، لأنه يسمع صوت النار عن قريب، وماهي إلا خطواتٍ يسيرة ويقع في نارٍ عميقةٍ طويلة؟ (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) يُدفعون إليها دفعًا، ويُسحبون سحبًا، فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُون * أَفَسِحْرٌ هَذَا) أهذا تخييل؟ أهذا كذب؟ أهذه خرافات؟ (أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُون * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا) لا ينفعكم صبركم لو صبرتهم وتجلّدتم، (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون)[الطور: 13-18]، فالله لم يظلمكم، ولكن هذا جزاء عقوقكم، جزاء ترككم للصلاة، جزاء الغيبة والنميمة، جزاء الظلم، جزاء القطيعة، جزاء عبادة غير الله -جَلّ وَعَلَا-، جزاء من توسل بالقبور، ودعا أصحاب القبور، وطاف عليها.
فيا أخي المسلم: وحّد الله -جَلّ وَعَلَا-، اترك المعاصي والظلم.
اللهم إنا نسألك النجاة من النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
أما بعد: إخوة الإيمان: إذا أُخذ هذا الكافر إلى النار - نعوذ بالله من حاله -، وسُحب إليها وعاين ما يهوله لجأ إلى آخر الحلول لعله ينجو منها، لقد فعل كل شيء وما أنجاه من النار، وبقي حلٌ واحد في اعتقاده الخائب، وهو الجحود، يقول جل وعلا في بيان حال هؤلاء، (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا) أي: إلى النار، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بما كانوا يعملون * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[فصلت: 20-21] كيف ذلك؟ إذا جاء هذا الكافر عند النار، ويكاد يسقط فيها، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل".
تخيلوا حال هذا الكافر إذا نطقت يده وقالت له: يا فلان، ألا تذكر ذاك اليوم في ذاك التاريخ لما كنتَ مع فلان وفعلت وفعلت؟ ثم تنطق الرجل وتقول: يا فلان، أما تذكر لما كنتَ في ذاك المكان ومشيت للحرام؟ ثم يأمر الله -جَلّ وَعَلَا- لسانه أن ينطق. إن أعضاءه تذكره فجرائمه. فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنتُ أناضل وأدافع.
يا الله! يسبُّ ويلعن بدنه، وكذلك حال الكفار يوم القيامة، أنها حالٌ بئيسة، حيث يلعن جسده، ويلعن أصدقاءه وأحبابه، وأسياده.
فيا عباد الله: الله الله بطاعة الرحمن، الله الله بفعل الطاعات، والحذر من المحرمات.
نسأل الله -جَلّ وَعَلَا- أن يجيرنا من النار.
وفي نهاية ما ذكرت من حال الكافر يوم القيامة: تأمل! ما ألطف الله وما أكرمه، حيث بيّن حال المؤمن والكافر بالتفصيل؛ ليزداد المؤمن إيمانًا، وليتعظ ويدكر المجرم والغافل؛ فقد أقام الله -جَلّ وَعَلَا- كلّ الحجج، فاللهم لك الحمد أن بينتَ لنا في كتابك كل شيء.
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم أجرنا من النار، اللهم آمّنا بجنتك فنسألك أن ندخلها، وآمنا بنارك فأعذنا منها، اللهم أحسن ختامنا، واغفر ذنوبنا، وارزقنا توبةً تمحو بها جميع ذنوبنا.
اللهم ما عصيناك جرأةً عليك، ولكن عصيناك تقصيرًا وغفلة، وأنت أرحم الراحمين، فارحمنا يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا ونائبه لما تحب وترضى، اللهم اجمع بهما كلمة الإسلام والمسلمين، يا رب العالمين، اللهم من أراد بلادنا، وأراد عقيدتنا وديننا بسوء فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، اللهم اجعل تدبيره تدميره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا قهار يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جنودنا المرابطين عند حدودنا، انصرهم على من بغى عليهم، يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم