عناصر الخطبة
1/ أركان الإيمان وأصوله العِظام 2/ أهمية الإيمان بالقضاء والقدر 3/ آثار الإيمان بالقضاء والقدر على العبد المسلم 4/ أدلة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب والسنة 5/ من صور الانحراف في فهم القضاء والقدر.اقتباس
إن الإيمان بالقضاء والقدَر على التحقيقِ يُربِّي في المُؤمنِ اليقينَ الراسِخَ أن كل شيءٍ في هذا الكَون إنما هو بيدِ الله وحدَه، وأن الخلقَ كلّهم ضُعفاءُ عاجِزون فُقراء، لا يملِكُون لأنفسِهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملِكُون موتًا ولا حياةً ولا نشُورًا، فيعيشُ المُؤمنُ في هذه الحياة مُطمئنَّ البالِ، ساكِنَ النَّفس، عظيمَ الثِّقة بالله، قوِيَّ التوكُّل عليه، مِقدامًا غيرَ هيَّابٍ ولا وجِل، مما يكونُ دافِعًا له للعملِ والجِدِّ والمُثابَرة.. وهكذا يكونُ الإيمانُ بالقدَر حين تُخالِطُ بشاشَتُه القُلُوب، وتتسلَّلُ نسائِمُه مسالِكَ العقل والرُّوح، وتعلَمُ النُّفُوسُ أن كل شيءٍ بقدَر..
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله العليِّ الأعلى، الذي خلقَ فسوَّى، والذي قدَّر فهدَى، أنارَ قُلوبَ أوليائِه بنُعُوتِ جلالِه ومشاهِدِ صِفاتِ كمالِه، وأدهشَهم بآياتِ عظمَتِه في قضائِه وقدَرِه وسُلطانِه، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه لا رادَّ لقضائِه ولا مُعقِّبَ لحُكمه.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له إلهًا واحدًا أحدًا صمَدًا، جلَّ عن الأشباهِ والأمثال، وتقدَّسَ عن الأضدادِ والنُّظراء والأشكال، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه مِن خلقِه، وسيِّدُ أنبيائِه ورُسُلِه، بعثَه الله على حينِ فترةٍ مِن الرُّسُل، ففتحَ به قُلوبًا غُلفًا، وأعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، حتى دخلَ الناسُ فِي دِينِ الله أفوَاجًا بعد أفوَاجٍ، وأسرابًا بعد أسرابٍ، فصلَّى الله على هذا السيِّد العظيم، وعلى آلهِ وأصحابِه والتابِعِين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تلألأَت بعد الظُّلُمات الأنوار، وتعاقَبَ على كرِّ الدُّهور الليلُ والنَّهارُ.
أما بعد: فاتَّقُوا اللهَ -عباد الله-، اتَّقُوا اللهَ حقَّ التقوَى، واستَحيُوا مِن الله حقَّ الحياء، واحفَظُوا الرأسَ وما حوَى، والبطنَ وما وعَى، واذكُرُوا الموتَ والبِلَى، ومَن أرادَ الآخرة تركَ زِينةَ الدُّنيا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أمةَ الإسلام: ما أجملَ حياة العبدِ، وما أسعدَ عيشَه، وما أقرَّ عينَه حين يعلَمُ علمَ اليقين أن ما أصابَه لم يكُن ليُخطِئَه، وما أخطأَه لم يكُن ليُصِيبَه، وأن كل شيءٍ في هذا الكَون يجرِي بعلمِ الله وتقديرِه، فحينها ينشرِحُ صدرُه، وتسكُنُ نفسُه، ويهدأُ بالُه، وتعظُمُ ثقتُه بربِّه، ويقوَى توكُّلُه عليه.
وذلك كلُّه قبَسٌ مِن نور الإيمان بالقضاء والقدَر، الذي هو مِن أجلِّ أركان الإيمان، وأعظمِ أصُول المِلَّة والدِّين، لا يقبَلُ الله مِن عبدٍ صَرفًا ولا عَدلًا إذا لم يُؤمِن به إيمانًا صادِقًا، حيًّا نابِضًا، فاعِلًا في حياتِه، مُتدفِّقًا بالمعانِي الإيمانية، والحقائِق القلبيَّة التي تُنشِئُ في العبدِ نفسًا راضِيةً مرضِيَّةً عامِلةً بنَّاءةً، ساعِيةً في كل ما يُفيدُها في دُنياها وآخرتِها.
ومِن هنا كان الإيمانُ بالقضاء والقدَر هو المحَكَّ الحقيقيَّ لصِدقِ العبدِ وإخلاصِه، ومعرفتِه بربِّه، والرِّضا بأفعالِه، وكَم مِن الناسِ سقَطُوا فِي فتنةِ الجزَع، والتسخُّط والاعتِراضِ، وفشِلَ البعضُ عند أولِ عارِضٍ، وخُذِلَ آخرُون فزعَمُوا أنه لا قدَر وأن الأمرَ أُنُف، وصدَّقُوا ما بذَرَه الشيطانُ في عُقُولهم مِن الشُّبَه والتساؤُلات الحائِرة التي تتَّهِمُ اللهَ في أقدارِه، وتعِيبُه في قضائِه، ولا تُدرِكُ الحِكَم البالِغةَ في أفعالِه، فهُم في الحقيقةِ ما قدَرُوا اللهَ حقَّ قَدرِه حين سوَّلَ لهم الشيطانُ وأملَى لهم.
إن الإيمانَ بالقضاءِ والقدَر هو النَّجاةُ والفلاحُ والسعادةُ التي افتقَدَها كثيرٌ مِن البائِسِين اليائِسِين الحائِرِين، بينما المُؤمنُ يعلَمُ يقينًا لا يُخالِجُه شكٌّ أن الله -سبحانه وتعالى- قد قدَّر الأحداثَ كلَّها في هذا الكَون خيرَها وشرَّها، صغيرَها وكبيرَها، وعلِمَها -سبحانه وتعالى- بعلمِه المُحيطِ الواسِع، على الإجمالِ والتفصيلِ قبل وُجودِها، ثم أمرَ القلمَ أن يكتُبَ في اللَّوح المحفُوظ كلَّ شيءٍ كائِنٍ، وكلَّ حدَثٍ صائِر صغُر أم كبُر.
ثم صارَت الأحداثُ والأقدارُ تتوالَى وتحصُلُ بعد ذلك بمشيئةِ الله وإذنِه، إيجادًا مِنه وخَلقًا على وفقِ القدَرِ المكتُوب، حَذوَ القُذَّة بالقُذَّة لا ينخَرِمُ مِنه شيءٌ البَتَّة، كما قال -سبحانه-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38] يعني: في اللَّوح المحفُوظ.
وقال -سبحانه-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، وقال -سبحانه-: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38].
وقد عدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث المشهُور حديثِ جبريل، عدَّ مِن أركان الإيمان العُظمى: الإيمانَ بالقدَر حُلوِه ومُرِّه، خيرِه وشرِّه.
وثبَتَ عند الترمذي في "جامعه": أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "لا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يُؤمِنَ بالقدَر خيرِه وشرِّه مِن الله، وحتى يعلَم أن ما أصابَه لم يكُن ليُخطِئَه، وما أخطأَه لم يكُن ليُصيبِه".
وكان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يغرِسُ عقيدةَ الإيمان بالقدَر في نُفُوس الأطفال والشبابِ قبل الكِبار مِن الصحابةِ -رضي الله عنهم-.
كما في الحديث المُدهِش العجِيب، الذي ألقَى فيها النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- جُملةً مِن الوصايا الكُبرَى على ابن عباسٍ -رضي الله عنهما، وهو بعدُ غُلامٌ صَغيرٌ-، ومِن هذه الوصايا العُظمى: "واعلَم أن الأمةَ لو اجتَمَعُوا على أن ينفعُوك بشيءٍ لم ينفَعُوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك، وعلى اجتَمَعُوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجفَّت الصُّحُف" (أخرجه أحمد والترمذي).
وقال -صلى الله عليه وآله وسلم- لزيدِ بن ثابتٍ -رضي الله عنه، وهو شابٌّ لقِنٌ فهِمٌ-، قال له: "لو أنفَقتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهبًا في سبيلِ الله، ما قَبِلَه الله مِنك حتى تُؤمِنَ بالقدَر، فتعلَمَ أن ما أصابَك لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأَك لم يكُن ليُصِيبَك، ولو مُتَّ على غيرِ هذا لدخَلتَ النَّار" (أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ).
وفي حديثِ أبي الدَّرداء -رضي الله عنه- عند الإمام أحمد: قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يدخُلُ الجنةَ عاقٌّ، ولا مُدمِنُ خَمرٍ، ولا مُكذِّبٌ بالقدَر".
أيها المُؤمِنون: مِن أعاجيبِ عقيدةِ ومسائلِ الإيمان بالقدَر الباهِرة التي تُعظِّمُ الربَّ -سبحانه وتعالى-، وتستحِقُّ التأمُّلَ والتفكُّر: أن الله -سبحانه وتعالى- قد كتبَ مقادِيرَ الخلائِق قبل أن يخلُقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء، كما ثبتَ في "صحيح مُسلم".
وأن أولَ ما خلقَ الله القلمَ، "قال له: اكتُب، قال: ربِّ! وما أكتُبُ؟ قال: اكتُب مقادِيرَ كلِّ شيءٍ حتى تقُومَ الساعةُ"، كما ثبتَ عند أبي داود.
والله -سبحانه وتعالى- يعلَمُ ما في البرِّ والبحر، (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]، فهو -سبحانه وتعالى- قد علِمَ الأشياءَ كلَّها ومقادِيرَها، صغيرَها وكبيرَها، وعلِمَ ما كان، وما سيكُون، وما لم يكُن لو كان كيف يكُون.
وكلُّ هذه الأحداثُ والمقادِيرُ مكتُوبةٌ على التفصِيلِ في اللَّوح المحفُوظ مِن قبلِ أن تُوجَد وتظهَر، كما قال الله - عزَّ وجل-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) [الحديد: 22]، يعني: مِن قبلِ أن نُوجِدَها في الواقِع، (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
ثم أوجدَ -سبحانه وتعالى- الوقائِعَ والأحداثَ، وأظهرَها على سَمتِ رسمِ ما هو مكتُوبٌ عنده -سبحانه-، لا يتبدَّلُ منها شيءٌ ولا يتغيَّر. وهذا مِن أعظم الأدلَّة عل ألوهيَّته -سبحانه-، وربوبيَّته، وقُدرتِه الشامِلة، وعلمِه التامّ، وأنه الإلهُ الحقُّ المُستحِقُّ أن يُعبَد وحدَه، ويُسألَ وحدَه، ويُعتمَد عليه وحدَه، ويُتوكَّل عليه وحدَه، ويُستغاثَ به وحدَه، قد وسِعَ علمُه كلَّ شيءٍ، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ قُدرةً وسُلطانًا وقَهرًا، فلا يخرُجُ شيءٌ في هذا الكَون عن سُلطانِه وقُدرتِه، ولا يحصُلُ شيءٌ مِن الأحداثِ العِظام إلا بعلمِه وإذنِه.
فسُبحان مَن بهَرَت حِكمتُه العُقُول، وسُبحان مَن أدهَشَت أقدارُه ذَوِي الألباب والفُهُوم، وعجَزَت أفصَحُ الألسُنِ عن التعبير عن ألطافِه في أُقضِياتِه، وتقاصَرَت أفهامُ الخلائِقِ عن إدراكِ أسرارِ أقدارِه وأفعالِه، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12].
قال الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله، وقدَّسَ رُوحَه -:
ما شِئتَ كان وإن لم أشَأْ *** وما شِئتُ إن لم تشَأْ لم يكُنْ
خلَقتَ العِبادَ على ما علِمتَ *** ففِي العِلمِ يجرِي الفتَى والمُسِنْ
على ذا منَنتَ، وهذا خذَلتَ *** وهذا أعَنتَ، وذا لم تُعِنْ
فمِنهم شقِيٌّ، ومِنهم سعِيدٌ *** ومِنهم قَبِيحٌ، ومِنهم حسَنْ
أيها المُسلمون: هذا التقديرُ الذي قدَّرَه الله وكتبَه في اللَّوح المحفُوظ هو التقديرُ العامُّ الأزَليُّ، الذي لا يتغيَّرُ ولا يتبدَّلُ، ولا يُمحَى مِنه شيءٌ أبدًا.
وهناك التقديرُ العُمريُّ، الذي يكون لكلِّ إنسانٍ في هذه الحياة وهو في بطنِ أمِّه، وقبل أن تُنفَخَ فيه الرُّوح، يبعَثُ الله ملَكًا فيُؤمَرُ بكَتبِ رِزقِه، وأجَله، وعملِه، وشقيٍّ أو سعيدٍ.
وهناك التقديرُ السنويُّ الحَوليُّ، وذلك في ليلةِ القَدر مِن كل سنةٍ، يُفصَلُ فيها مِن اللّوح المحفُوظ كلُّ أمرٍ حكيمٍ؛ أي: يُقضَى فيها أمرُ السنةِ كلِّها مِن معايِشِ الناسِ ومصائِبِهم، وموتِهم وحياتِهم إلى مثلِها مِن السنة القادِمة.
وهناك التقديرُ اليوميُّ لأحداثِ الكَون، كما قال الله -عزَّ وجل-: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مِن شأنِه أن يغفِرَ ذنبًا، ويُفرِّج كَربًا، ويرفعَ قَومًا، ويخفِضَ آخرِين" (أخرجه ابن ماجَه بسندٍ صحيحٍ).
وثبَتَ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "أن الله -سبحانه- ينظُرُ كلَّ يومٍ في اللَّوح المحفُوظ ثلاثمائةٍ وستين نظرة، يخلُقُ بكلِّ نظرةٍ، ويُحيِي ويُميت، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعلُ ما يشاءُ" (أخرجه الطبرانيُّ بسندٍ حسنٍ).
فمَن آمنَ بكل أقدارِ الله، ورضِيَ بما قسَمَه الله وقضاه؛ ملأَ الله صدرَه غِنًى وأمنًا، وفرَّغَ قلبَه لمحبَّته والإنابةِ إليه، وجمعَ عليه شَملَه، وأتَتْه الدنيا وهي راغِمة.
ومَن فاتَه حظُّه مِن الإيمانِ بالقدَر فرَّقَ الله عليه ضَيعَتَه، وجعلَ فَقرَه بين عينَيه، وسيبقَى أسِيرَ الشكِّ والهُمُوم والأحزان وكسفِ البالِ، ولم يتهَنَّ بعيشِه، ولم يُدرِكه لُطفُ الله وحنانُه في المصائِبِ والمِحَن، كما اعترضَ إبليسُ على ربِّه -سبحانه-، وسخِطَ عليه أن فضَّلَ آدمَ - عليه السلام -، ثم رفضَ السُّجُودَ له، فكان جزاؤُه أن طرَدَه الله مِن الملَكُوت الأعلَى، ولعنَه إلى يوم الدين، وقال له: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) [الأعراف: 18].
إن الإيمانَ بالقضاء والقدَر على التحقيقِ يُربِّي في المُؤمنِ اليقينَ الراسِخَ أن كل شيءٍ في هذا الكَون إنما هو بيدِ الله وحدَه، الذي له مقالِيدُ السماوات والأرض، وعنده خزائِنُ كل شيء، ومفاتِيحُ كل شيء، وأن الخلقَ كلّهم ضُعفاءُ عاجِزون فُقراء، لا يملِكُون لأنفسِهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملِكُون موتًا ولا حياةً ولا نشُورًا.
فيعيشُ المُؤمنُ في هذه الحياة مُطمئنَّ البالِ، ساكِنَ النَّفس، عظيمَ الثِّقة بالله، قوِيَّ التوكُّل عليه، مِقدامًا غيرَ هيَّابٍ ولا وجِل، مما يكونُ دافِعًا له للعملِ والجِدِّ والمُثابَرة، والإنتاجِ المُثمِر؛ ليتفيَّأَ ظِلالَ العِزَّة والنصر والتمكين، والحياة الكريمة البنَّاءة.
وهكذا يكونُ الإيمانُ بالقدَر حين تُخالِطُ بشاشَتُه القُلُوب، وتتسلَّلُ نسائِمُه مسالِكَ العقل والرُّوح، وتعلَمُ النُّفُوسُ أن كل شيءٍ بقدَر، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-: "حتى العَجزُ والكَيْسُ، والغِنَى والفقرُ، والصحةُ والمرضُ، والنصرُ والهزيمةُ".
قال الله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي قدَّر وقضَى، وأعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه ثم هدَى، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المُجتبَى، والخليلِ المُصطفى، وعلى آلهِ السادَة النُّبَلا، والصحابةِ أُولِي الألبابِ والنُّهَى، والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم القِيامة الكُبرى.
وبعد.. أيها المُسلمون: إن رُسُوخ عقيدة الإيمان بالقدَر، والرِّضا بالقضاء في القُلُوب يُزيلُ ما فيها مِن آفاتِ الهمِّ والحُزن والقلَق والخَوف مِن المُستقبَل، ويُهذِّب النُّفُوس المُخلِصَة فلا تحسُدُ أحدًا على ما آتاه الله مِن فضلِه، ولا تحمِلُ الحِقدَ والغِلَّ، ولا تتكبَّرُ على أحدٍ، ولا تتطلَّعُ إلى ما لم يُؤتِها الله، ولا تُنافِسُ في متاعٍ زائِلٍ، وسرابٍ بائِد.
ويوم أن كانت هذه العقيدةُ الربَّانيَّةُ راسِخةً في قُلُوب الصحابةِ والسلف الصالِح، سادُوا الدُّنيا، وفتَحُوا مشارِقَ الأرض ومغارِبَها.
ويوم أن ضعُفَ أثرُ هذه العقيدة في نُفُوس كثيرٍ مِن المُسلمين، ودخلَها ما دخلَها مِن جدلٍ عقِيمٍ، وتصوُّراتٍ خاطِئةٍ وانحِرافاتٍ، ما زالَت الأمةُ في انحِدارٍ وتراجُعٍ وضعفٍ.
إن القدَرَ نظامُ التوحيد، وسِرُّ الله في خلقِه، والدخُولُ في مسائل مِن القدَر مما اختصَّ الله به، وحجَبَ علمَها عن خلقِه، يُؤدِّي بالعبدِ إلى هاوِيةٍ كُبرَى في مسالِك الحَيرةِ والشكِّ والإلحادِ.
ولذلك قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إذا ذُكِرَ أصحابِي فأمسِكُوا، وإذا ذُكِرَت النُّجُوم فأمسِكُوا، وإذا ذُكِرَت النُّجُوم فأمسِكُوا" (أخرجه الطبرانيُّ بسندٍ صحيحٍ).
يعني: لا تخُوضُوا في مسائل لا تَعنِيكُم، ودقائِقَ لا تُدرِكُونها، وعليكُم بالتسليمِ والرِّضا المُطلَق لله ولحِكمتِه الباهِرة في أقدارِه؛ لأن العبدَ ضعِيفٌ يعجَزُ عن إدراكِ أسرارِ أقدارِ الله وأفعالِه، لمحدُوديَّة عقلِه.
وبعضُ الناسِ -يا عباد الله- وقعَ في انحِرافٍ مِن نوعٍ آخر؛ حيث إنه أباحَ لنفسِه أن يترُكَ بعضَ ما أوجَبَ الله عليه، أو يقَعَ فيما حرَّم الله مِن الذُّنُوب والمُخالفات، ثم يحتَجُّ في ذلك بالقدَر، وأن الله قد قدَّر عليه ذلك، فتساهَلُ فيما حرَّم الله، ويُبتلَى برِقَّةٍ في دينِه، وضعفٍ في عبادتِه.
وهذا في الحقيقةِ -يا مُسلِمون- مِن أشنَعِ أبوابِ الضلالِ والزَّيغ؛ لأن الاحتِجاجَ بالقدَر على تركِ الواجِبات، وفعلِ المُحرَّمات هو حُجَّةُ إبليس، وحُجَّةُ المُشرِكين؛ حيث قال إبليسُ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) [الحجر: 39]، وقال المُشرِكون: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 148].
وقد ردَّ الله -سبحانه وتعالى- على هذه الحُجَّة الإبليسيَّة الشِّركيَّة أبلغَ الردِّ، فقال -سبحانه-: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ). فلا يجوزُ الاحتِجاجُ بالقدَر لتبريرِ الوقوعِ في المعاصِي والمعائِب، وتركِ الواجِبات.
أما المصائِبُ والابتِلاءاتُ التي لا يدَ للإنسانِ فيها، فالمشرُوعُ للعبدِ أن يرضَى ويُسلِّم، وأن يقول: هذا بقدَرٍ مِن الله وقضائِه، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11].
قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "احرِص على ما ينفَعُك، واستَعِن بالله ولا تعجَز، وإن أصابَك شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعَلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُل: قدَّر الله وما شاءَ فعَل؛ فإن "لو" تفتَحُ عملَ الشيطان" (أخرجه أحمد ومُسلم).
أمةَ الإسلام: وثمَّة انحِرافٌ سرَى في نُفُوس كثيرٍ مِن الناسِ منذ القِدَم، وكان له الأثرُ السيِّئُ في واقعِ الأمة، وهو: تركُ الأخذ بالأسباب الشرعيَّة الماديَّة والمعنويَّة، التي خلقَها الله، وربطَ بها حُصُولَ المُسبَّبات، ورتَّبَ عليها إدراكَ النتائِج، والتساهُلُ في ذلك - أعني: التساهُلَ في تركِ الأسباب الشرعيَّة - توانِيًا وتكاسُلًا وخُذلانًا، أو بحُجَّة أنها تُعارِضُ القدَر، أو تُعارِضُ الرِّضا بالقضاء، وأن الله لو شاءَ لغيَّر الحال!
ذا انحِرافٌ خطيرٌ، وسُوءُ فهمٍ لعقيدةِ الإيمان بالقدَر، أدَّى إلى مزيدٍ مِن الضَّعفِ والتأخُّر، وتركِ الأخذِ بأسبابِ القوَّة الماديَّة، والتواكُل، وترك السعيِ في طلبِ الرِّزقِ والعملِ، وطلبِ الشِّفاء والتداوِي، وقُصورٍ في فهمِ أحوال المُسلمين، وارتِباطِ ذلك بالسُّنن الإلهيَّة، وأقدارِ الله المُضطردة التي لا تُحابِي أحدًا.
إن الله -سبحانه وتعالى- بحِكمته جعلَ لكل شيءٍ سببًا يتوصَّلُ به العبدُ إلى قدَر الله الذي قدَّرَه له، فيُوافِقُ أقدارَ الله بأقدار الله.
وقد تقرَّرَ أن تركَ الأسباب قَدحٌ في الشرع، ونقصٌ في العقل، ولذلك أمرَ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- بالعمل، واتِّخاذ الأسباب الماديَّة والمعنويَّة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "اعمَلُوا ولا تتَّكِلُوا؛ فكُلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِق له" (أخرجه الشيخان).
وجاء رجُلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال له: أأُرسِلُ ناقَتِي وأتوكَّلُ، أم أعقِلُها وأتوكَّل؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: "بل اعقِلْها وتوكَّل" (أخرجه الترمذي بسندٍ حسنٍ).
وقال - عليه الصلاة والسلام -: "يا عبادَ الله! تداوَوا؛ فإن الله لم يضَع داءً إلا وضعَ له شِفاءً" (أخرجه الترمذي بسندٍ صحيحٍ).
ويوم أن أرادَ عُمرُ الفارُوقُ - رضي الله عنه - أن يدخُل الشام، بلَغَه أن الطاعُون قد تفشَّى فيها، فرجَع ولم يدخُل، فلامَه بعضُ الصحابة وقالوا له: أتفِرُّ مِن قدَر الله يا عُمر؟ فقال عُمر: "نعَم، نفِرُّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله"، فقال عبدُ الرَّحمن بن عَوفٍ - رضي الله عنه -: سمِعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "إذا فشَا الطاعُونُ في بلدٍ وأنتُم فيها لا تخرُجُوا مِنها، وإذا لم تكُونُوا فيها فلا تدخُلُوها" (أخرجه الشيخان).
هذا هو الفهمُ الصحيحُ السديدُ لعقيدة الإيمانِ بالقدَر، وهذا هو المنهَجُ النبويُّ الذي يرَاهُ الله ويُثيبُ عليه.
ألَم ترَ أنَّ اللهَ قال لمَريَمٍ *** وهُزِّي إليكِ الجِذعَ يسَّاقَطِ الرُّطَبْ
ولو شاءَ أن تَجنِيهِ مِن غيرِ عِلَّةٍ *** جنَتْه، ولكن كلُّ شيءٍ له سبَبْ
صلُّوا على رسولِ الله؛ فقد أمَرَكُم بذلك الله؛ حيث قال في مُحكَم تنزيلِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وثبَتَ عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرًا".
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على حبيبِك ونبيِّنا وسيِّدنا وقُدوتِنا وإمامِنا محمدٍ، وعلى آلِه وأزواجه وذريَّاته الطيبين الطاهِرين، وسائر صحابَتِه الكرامِ الأبرار الأطهار، وخُصَّ مِنهم: أبا بكرٍ الصدِّيق، وعُمرَ الفارُوق، وعُثمانَ ذَا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسَنَين، والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، اللهم انصُر مَن نصَرَ الدين، اللهم انصُر مَن نصَرَ الدين، واخذُل مَن خذَلَ الدين بقوَّتِك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم انصُر إخوانَنا المُسلِمين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخوانَنا المُسلِمين المُستضعَفين المظلُومين في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، وفي الشام، وفي العراق، وفي اليمَن، وفي أراكان بقوَّتِك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهِدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهِدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا بقُوَّتِك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمُورِنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ونائِبَه لِمَا فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغالِيقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين والمُسلمات، الأحياء منهم والأموات برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم يعلمِك الغيب، وقُدرتِك على الخلقِ، أحيِنا ما كانت الحياةُ خيرًا لنا، وتوفَّنا إذا كانت الوفاةُ خيرًا لنا.
اللهم إنا نسألُك خشيتَك في السرِّ والعلانية، والقصدَ في الغِنَى والفقر، وكلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَب.
اللهم إنا نسألُك نعيمًا لا ينفَد، وقُرَّةَ عينٍ لا تنقطِع، ونسألُك الرِّضا بعد القضاء، وبردَ العيش بعد الموت، ونسألُك لذَّة النظر إلى وجهِك، والشَّوقَ إلى لقائِك في غير ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة.
اللهم زيِّنَّا بزينةِ الإيمان، واجعَلنا هُداةً مُهتَدين. وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبدِه ورسولِه محمدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم