عناصر الخطبة
1/ طبيعة الدعوة الإسلامية تستلزم عدم المداهنة 2/ الكراهية في الإسلام لها ضوابط مرعية 3/ الكراهية في الغرب منفلتة ظالمةاقتباس
وقالوا عن الإسلام: إن فكرَه يحمل ثقافة الكراهية، ويحمل أتباعه على كراهية غيرهم. والحقيقة التي نصدع بها بلا مواربة ولا استحياء: نعم! فِكْرُ الإسلام يحمل ثقافة الكراهية، كما يحمل ثقافة الحب، ورسولنا يقول: "أوثق عُرَى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"!.
أيها الأحبة في الله: ما زالت مِلَل الكفر منذ أن بزغ فجر الإسلام وصدع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة تبارز الإسلام بالمحاربة، وتنابذه بالعداوة والكراهية؛ وسيظل الإسلام في صراع وصدامٍ مع ملل الكفر والضلال ما بقِيَت لها قوة تناوئه بها.
سيظل الإسلام في صراع مع أعدائه؛ لأنه لا بد في بيان الحق من كشف الباطل وتعريته والتنديد به، ومواجهته بالإنكار والمفاصلة. وفي بيان الحق لا يجوز السكوت عن الباطل، ولا مداهنته أو مجاملتُه.
إن حقيقة عقيدةِ الإسلام تستعصي على المجاملة والمداهنة؛ لأن تحقيق التوحيد لا يتأتى إلا بنبذ الشرك ومحاربته والحكم عليه بالضلالة. لابد عند دعوة الناس إلى الهدى أن يقال لهم دون مجاملة: إنكم في ضلال مبين.
ولذا؛ لمـَّا سأله -صلى الله عليه وسلم- كفارُ قريش أن يسكتَ عن الحكمِ على دينهم بالضلالة، وله عليهم إنْ فعَل ذلك أن يتركوه وما اختار من دين يتعبَّد به ربَّه، قال مقولته الشهيرة التي قطعت كل أمل لمن يريده على المداهنة والمساومة في دين الله، قال: (والله يا عمِّ! لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمرَ في شِمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يُظهره الله، أو أهلِكَ فيه).
وبدأتْ آيات القرآن منذ أولِ تنزلها في مواجهة صريحة مع مشركي العرب، تسفِّه أحلامهم، وتعيبُ عليهم دينهم وعبادتهم.
ثم بدأ الإسلام في مواجهةٍ أخرى مع اليهود والنصارى، والذين كانوا يفاخرون العربَ الأمِّيين بأنهم أهلُ كتابٍ يتوارثونه ويدرسونه، فتنـزلت آيات القرآن تفضح باطلهم، وتكشفُ تحريفهم وتبديلهم، وتصِمُهم بالشرك والكذب والخيانة، والإجرام؛ وتجعل رسُلَهم وأنبياءَهم في براءة منهم ومما يعبدون من دون الله.
كان هذا شأن الإسلام معهم منذ أول أمرِه فكانت المواجهة التي يواجهها صاحبُ الحق من أهل الباطل الذين لا يقارعون الحق حجةً بحجة، ولا منطِقاً بمنطِق، وإنما بالإيذاء والقتل والصدِّ والتضييق.
فهل كان الإسلام في مندوحة عن هذا الصدام وتلك المواجهة؟ وهل كان سيجد طريقاً آمناً يضمن فيه نشر دعوته، ويأمن فيه ويلاتِ المواجهة والصدام؟.
إن مَن يدرك طبيعة الدين بأصوله وعقائده يدرك مع ذلك أن الطريق واحد لا بد فيه من مواجهة أهل الباطل بإبطال باطلهم وتعريةِ دياناتهم، وهو في ذلك مرتقب لمواجهتهم له؛ كما هي عادةُ أهل الباطل مع الرسل والأنبياء، وما بعث الله من رسول ولا نبي إلا وأوذي في قومه؛ كما أخبر بذلك ورقةُ بنُ نوفل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ قال له حين اخبره النبي خبر الوحي: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك. فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! فقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك حَيًّا أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
وهنا يجب أن نعي أن مواجهة الإسلام للمشركين وأهل الكتاب حين بَدْئها أولَ مرة كانت مواجهة فكرٍ وبيان، فكانت مواجهتهم له مواجهة سيفٍ وبَنان.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أولِ بعثته يواجه المشركين وأهل الكتابِ بالحقائق، ويقرِّعُهم بالحجة والمنطق، ولأنهم عاجزون أن يواجهوه حجةً بحجة فقد اتخذوا معه سبلاً أخرى في المواجهة، لا يتخذها إلا من أفلس من حجج المنطق، وهي المواجهة بالإيذاء والاضطهاد والصدِّ والتضييق.
وفي مقاومة هذه المواجهة التي تصد عن سبيل الله شُرع الجهاد في سبيل الله؛ ضمانةً لنشر الدعوة وتبليغها للناس. فالإسلام لم ينتشر بحَدِّ السيف كما يزعم المبطلون، ولكن كان حد السيف ضمانةً وحمايةً لنشر الدعوة وتبليغها للناس، وكان سيف الإسلام سيفاً مسلَّطاً على رقاب من يقاوم دعوته ويصد الناس عن سبيله؛ بدليل أن طوائف من أهل الكتاب اختارت البقاء على دينها، واستحبت الكفر على الإيمان، فلم يمنعها ذلك أن تعيش في كنف دولةِ الإسلام آمنة مطمئنة محفوظةَ الحقوق، وسُمّوا لأجل ذلك بأهل الذمة، وكان الشرط الذي ضمن لهم هذه السلامة هو ألا يقفوا في وجه دعوة الإسلام، وألا يصدوا الناس عن سبيله. فأين حد السيف عن هؤلاء؟ ولماذا لم يُكرَهوا على الدخول في الإسلام، كما يزعم الأفَّاكون؟!.
وقالوا عن الإسلام: إن فكرَه يحمل ثقافة الكراهية، ويحمل أتباعه على كراهية غيرهم. والحقيقة التي نصدع بها بلا مواربة ولا استحياء: نعم! فِكْرُ الإسلام يحمل ثقافة الكراهية، كما يحمل ثقافة الحب، ورسولنا يقول: "أوثق عُرَى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وقال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغضُهم".
ومن المعلوم أن الذي لا يعرف الكراهية، فأولى به ألا يعرف الحب، ومن المتقرر بداهةً أن كل حب يتضمن بغضاً، فإذا أحببت صفةً فذلك يتضمن بغضَك لنقيضها، وإذا كنا ندعو المسلمين إلى محبة إخوانهم في العقيدة فهي دعوةٌ تتضمن لزاماً الكراهيةَ لمن خالفهم في عقيدتهم. وتشتد الكراهية إذا امتزجت المخالفة في الملة بالمحاربة والعدوان.
ومن الهزيمة والذلة والمغالطة أن نسترضي الغرب أو الشرق بتكلف البراءة من ثقافة الكراهية، وليعلم من أخذ بهذا الطريق لاسترضائهم أنه ستعترضه نصوصٌ صريحة من الكتاب والسنة تثبت ما تكلّف نفيَه، وسيفضي به نهاية الطريق إلى التنازل عن بعض دينه دون أن يُرضي أولئك القوم، ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
إن من أكمل الغيرةِ وأفضلها أن نغارَ على ديننا أن يوصم بما ليس فيه، ولكن علينا أن نعيَ أن هذه الغيرة لا تضطرنا إلى أن ننفي عنه ثقافة الكراهية؛ لأن ذلك سيضطرّنا إلى أحد أمرين أحلاهما مُر: فإما أن نكذِّب نصوصاً صحيحة، وإما أن نتكلف تأويلَ نصوصٍ صريحةٍ في الكراهية تكلفاً مضحكاً لا يقبله عاقل.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إن إقرارنا بأن ديننا يحمل ثقافة الكراهية لمن يستحقها من الآخرين لَيُوجب علينا أن نحرِّر معنى ثقافةِ الكراهية في الإسلام، وأن نضبط حدودها، وأن نحقق مفارقتها لثقافة الكراهية المتجذِّرة في الغرب.
إن الإسلام يأمر اتباعه ببغض الكفار لكفرهم، لا لغير ذلك، وهو مع ذلك ينهانا عن ظلمهم والاعتداء عليهم وبخسِهم حقوقهم، فهو بغض لا تطيش به يدٌ بالظلم، ولا ينفلتُ به زمام لسان بباطل من القول وزور. وهو بغضٌ لا يعارض محبةً طبيعية تفرضها الفطرة كمحبة الولد لوالده، والزوجِ لزوجته، فيحب من والده أبوتَه ومعروفَه، ويكره منه كفرَه وضلالَه، ويحب من زوجته الكتابية ما تقتضيه العشرة الزوجية، ويكره منها عقيدتَها الكفرية.
فأين هذه الثقافة العادلة في الكراهية من ثقافة الكراهية في الغرب؟ وهي التي لا تنفك عن الظلم والعدوان والتكبر والاحتقار؛ تلك الثقافة الموتورة المنفعلة التي تتعامى عن الحقيقة وتشوِّه الحقائق، التي اجتمع فيها تحريف العقيدة وانحراف الفلسفة.
والحقيقة التي يجب أن ندركها أن ثقافة الكراهية لديهم مؤصلة عقَدياً وفلسفياً، فهي ثقافة مشتركة بين أهل الكتاب منهم والملحدين.
وان شئتم أن تعرفوا ثقافةَ الكراهية لديهم على حقيقتها فأقرؤوا ما نظّره فلاسفتُهم من نظريات تستحقر كل عرق غير عرقِهم، وكل شعب غير شعبهم، يضاهئون في ذلك قول اليهود عن أنفسهم بأنهم شعب الله المختار، فأخذوا بمعناها، وجعلوا مكانها نظرية السوبرمان، التي افرزت النازية والفاشية، والغطرسة الامريكية المتعجرفة.
واقرؤوا إن شئتم ما نظّره مفكروهم في هذا الباب مما يغذِّي ثقافة الكراهية والاستعلاءِ لدى شعوبهم كـ(نهاية التاريخ)، ونظرية: (صراع الحضارات).
وتتبَّعوا -إن شئتم- سياسةَ ساستِهم التي ترسمها قناعاتهم الفكرية، ومعتقداتُهم المحرفة المبنيةُ على نبوءآت كاذبة، ولذا تجدونهم يحاولون استجرار الشعوب للمواجهة، ويستعجلون الصدام، وبخاصة مع المسلمين، ولم يأت هذا من فراغ، ولا من مطامعَ دنيويةٍ صِرفة، بل هي امتداد واضح للحملات الصليبية، والتي أكبر ما يغذيها ويحملها ثقافة الكراهية التي يعيروننا بها.
وإذا اردتم أن تعرفوا مَن أحق الناس بتهمة ثقافة الكراهية التي يعيِّروننا بها فاسألوا عما فعله الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين، اسألوا عن جرائم الانجليز في مصر، واسألوا عن جرائم الفرنسيين في الجزائر، واسألوا أهل فلسطين والعراق عما فعل بهم اليهود وصهاينة الأمريكان، ولا ينبئك مثلُ خبير.
فإن سأل سائل عن ثقافة الكراهية: من أحق الناس بتهمتها بهذه الصورة التي تقتضي الظلم والاستبداد والتكبر والاستحقار؟ فهو الغرب، الغرب هو أهلها، وأحقُّ الناس بتهمتها.
اللهم أعزَّنا بدينك ، وأعز بنا دينك، اللهم الهمنا رشدنا، ويسر لنا أمرنا، واحفظنا بالإسلام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم