عناصر الخطبة
1/ معنى تكبيرة الانتقال 2/ حكمها 3/ الحكمة من مشروعيتها 4/ دروس تربوية مستفادة منهااقتباس
درس آخر: الاقتران بين الحركة والكلام؛ فينبغي أن تكون تكبيرة الانتقال مقارِنةً للحركة، فيبدأ في التكبير حال انحنائه للركوع مثلاً ويختمه قبل أن يصل إلى حد الركوع، ومن ثم يقعُ تكبيرُهُ بين ركني القيام والركوع، فتأمل في أن القول حين الانتقال من ركن إلى آخر جاء مقترنًا بالعمل، هذا الاقتران جاء ليؤكد أن شريعتنا ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إذا كان بعض المصلين يتدبرون المعاني العظيمة لأركان الصلاة وأذكارها أثناء صلاتهم، وهو أمر محمود ومطلوب، فالخشوع هو روح الصلاة، إلا أنهم لا يتدبرون ما تحتويه تكبيرة الانتقال بين الأركان من معانٍ ودلالات، فلعلنا نعرّج على ذلك إن شاء الله.
لقد أطلق الفقهاء تكبيرة الانتقال على اسم التكبيرة التي يكون فيها التحول بين الأركان في الصلاة، أي عند الانتقال من ركن إلى آخر.
وعند الانتقال من الركوع للقيام فقد شُرع لنا أن نقول: "سمع الله لمن حمده".
والمسلم يردد تكبيرة الانتقال في صلواته الخمس المكتوبة كل يوم تسعًا وثمانين مرة، وقد سميت بذلك للتفريق بينها وبين تكبيرة الإحرام التي تكون في ابتداء الصلاة.
فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، ولو تركها المصلي بطلت صلاته، حتى لو تركها ناسيًا؛ أما تكبيرة الانتقال فهي واجبة عند الحنابلة، لقوله -عليه الصلاة والسلام- آمرًا بها: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر فكبروا".
ولربما تساءل الإنسان: ما الحكمة من مشروعية التكبير في الانتقال بدلاً من التسبيح أو الحمد أو التهليل؟! ولماذا نحتاج في الانتقال بين أركان الصلاة إليها أصلاً؟!
نقف على عشرة دروس تربوية في ذلك:
الدرس الأول: حياة المسلم العامة في شكلها الصحيح ليس فيها فراغ عبثي؛ فكيف بعبادته؟! يقول -سبحانه-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح:7-8]، فحتى وقت الانتقال بين أركان الصلاة الذي يعد بالثواني أو أقل فلا بد أن يملأ بذكر الله -تعالى-، وفي هذا درس رباني بليغ يربينا على أهمية الحفاظ على أوقاتنا المهدرة، وأزمنتنا الضائعة خارج الصلاة.
فليراجع كل منا زمانًا طويلاً من عمره ضيّعه سدى، لا في ذكر ولا في نفع أخروي، ولا حتى في نفع دنيوي؛ فالصحة والفراغ من أعظم النعم الربانية التي يخسرها كثير من الناس كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-.
ولذلك صحّ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أوصى قائلاً: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
صحّ في السنن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إنا كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم".
درس آخر: الاقتران بين الحركة والكلام؛ فينبغي أن تكون تكبيرة الانتقال مقارِنةً للحركة، فيبدأ في التكبير حال انحنائه للركوع مثلاً ويختمه قبل أن يصل إلى حد الركوع، ومن ثم يقعُ تكبيرُهُ بين ركني القيام والركوع، فتأمل في أن القول حين الانتقال من ركن إلى آخر جاء مقترنًا بالعمل، هذا الاقتران جاء ليؤكد أن شريعتنا قائمة على القول والعمل معًا.
إن ديننا يمقت كثرة الكلام بلا عمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف:2-3]، فكثير من الناس -مثلاً- بارعون في الانتقاد، كلام كثير، إلا أنهم لا يتبعون كلامهم بالعمل، فلا يبذلون، ولا يساهمون في إصلاح ما ينتقدون حتى ولو قدروا على ذلك، فحسبهم كلامهم! أما العمل فلا أمل.
ولذلك نرى من عجيب تكبيرة الانتقال التي نقولها باللسان أنها تكون مصاحبة وموافقة للحركة، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، فالتكبيرة تكون وقت حركة الانتقال، فهي قول وعمل.
ومن الدروس كذلك: الاستعانة والاستقواء؛ والمقصود: الاستعانة بذكر الله على حركة الانتقال، وذلك بالتكبير؛ لأن السكوت وقت الانتقال قد يضعف حركة الإنسان، بينما صوت التكبير يبعث حيوية وقوة في الحركة، وهكذا يفعل كبار السن كما ترون إذا أرادوا القيام من قعود طويل، فتراهم -مثلاً- يقولون بصوت مسموع: "بسم الله"، أو "يا الله"؛ استعانة بهذا اللفظ على الحركة.
بل إن لاعبي الرياضات الفردية والقتالية إذا أرادوا استجماع قوتهم صاحوا بصوت يثير اندفاعًا لحركتهم، وكذا المجاهدون في سبيل الله إذا هجموا على العدو رفعوا أصواتهم بالتكبير.
فلا شك في أثر التكبير في الاستعانة على الحركة، وهو أيضًا نوع من الاستقواء بالذكر بالاستعانة بالكبير -عز وجل-، بكبريائه وعظمته، فلا يركن إلى أحد سواه، ولا يستعان إلا به، وما الدين -لو تأملنا- إلا عبادة واستعانة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
درس آخر: الاستحضار والاستحياء: إن في النفس حين الصمت حديثًا تحدّث نفسها به من أخبار الدنيا الصارفة، إذا صمت أو سكت الإنسان فهو يحدّث نفسه، وتكبيرة الانتقال تعيد للنفس وعيها الإيماني، وتحيي فيها استحضار الوقوف بين يدي الكبير الجبار حين تأخذ المصلي الوساوس وتهيم به الأفكار، فإذا أسمع نفسه التكبير قام من غفلته عن ذكر الكبير.
ولذلك ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي للمصلي استحضار قصد الذكر حين تكبيرة الانتقال، أي استحضار كون التكبيرة من ذكر الله -تعالى-، فمن نوى تكبيرة الانتقال فقط لإعلام المأمومين من خلفه فقط دون قصد الذكر لم تجزئه عند جمهور العلماء.
فإن تكبيرة الانتقال تمامًا كالتشهد والتسبيح والاستغفار، من ذكر الله -تعالى-، ومَن تدبر مدلولات لفظ التكبير أقفل جواله بلا شك قبل الصلاة، وتفرّغ لأعظم ركن بعد الشهادتين، وعلم بشاعة الغفلة في توافه النسيان وهو يهتف باسم الله الأكبر.
وقد قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إن العبد إذا وقف بين يدي الله -عز وجل- وقد علم أن لا شيء أكبر منه، وتحقق قلبه ذلك، استحيا من الله، ومنعه وقاره وكبرياؤه أن ينشغل قلبه بغيره؛ وما لم يستحضر هذا المعنى وهو واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطرات".
ولذا فإن استحضار عظمة الله درس من دروس تكبيرة الانتقال، وأي شيء أعظم من لفظة "الله أكبر" التي كان يرددها المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا صعد مرتفعًا أو جبلاً، في إشارة منه إلى استشعار عظمة الله -عز وجل- عند رؤية عظيم في الدنيا.
بل إن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة كما يذكر الإمام ابن تيمية، كلما عظم المكان أو عظم المجلس أو عظم الموقف قلت: "الله أكبر!".
"الله أكبر"، أكبر من ماذا؟! ماذا بعد أفعل التفضيل؟! لماذا حذف؟! ويأتي الجواب ببساطة: لأن الله له الكبرياء المطلق الذي لا ينازعه فيه شيء، وما هو الشيء الذي يستحق أن يوضع بعد الله أكبر؟! لا شيء يستحق ذلك بتاتًا. وهذا ما يفسر خوف أعداء الله في المعارك من سماع هذه العبارة، حتى ولو لم يفهموا معناها.
إن في تكبيرة الانتقال -لو تأملنا- تربية للنفس على معرفة قدر الله، فإذا استشعر المصلي معاني التكبير وهو يذكره -جل وعلا- في الصلاة تصاغر في قلبه كل شيء.
وفي التكبير تعظيم لقدر الصلاة أيضًا، الله أكبر وأعلى وأجل من تضييع الصلاة بمغريات الدنيا، أليس في التكبير طرد للشيطان؟! بلى! كم يحرص الشيطان على إفساد الصلاة كلها! فإن لم يستطع يسعى لإفساد جزء منها، فإن لم يستطع ذلك صرف المصلي عن خشوعها، حتى لا يكتب للمرء منها إلا قدر ما عقله منها فقط.
وهنا يأتي التكبير أثناء الصلاة حتى يكون أحد أقوى الأسلحة الدفاعية لدحر الشيطان ووسوسته، ألم يعلمنا -صلى الله عليه وسلم- أن الشيطان ينفر حين سماع الأذان؟! فالتكبير هو مقدمة الأذان، وأصل النداء: "الله أكبر"؛ فإذا سمع الشيطان: الله أكبر، هرب بعيدًا عن المصلي بإذن الله، بل يتصاغر ويتحاقر حتى تنطفئ وسوسته، فإن كبرياء الرب -عز وجل- تقمع الشيطان وفعله؛ لكن كل هذا لا يحصل إلا إذا نطق المصلي بالتكبير وهو يفقه معناه، وهو قاصد لمبتغاه، أما القلب اللاهي عن المعاني فلن يحسن استخدام هذا السلاح.
أيها الإخوة: التجدد والتغيير من الدروس، تكبيرة الانتقال تنقلنا من حال إلى حال، من عبادة الله بالقيام إلى عبادة الله بالركوع ثم بالسجود ثم بالجلوس، بخلاف صلاة أصحاب الأديان الفاسدة التي تقتصر على حركة أو حركتين، فبعضهم يصلي وهو قائم فقط، وبعضهم وهو جالس، وبعضهم وهو ساجد، وبعض الديانات صلاتهم بالكلام فقط.
أما صلاتنا فصلاة الحركة والنشاط، ولا يوجد هذا إلا في شرع محمد -صلى الله عليه وسلم-، تكبيرة الانتقال تدفع المسلم في صلاته إلى تغيير الحركة، حركة عبادته، ليعيش في حيوية من الحركة الدائمة، وفي جوّ من التجدد الدائم؛ حتى لا يصاب العابد بالملل، فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا".
ومن العبر -كذلك- أن تكبيرة الانتقال تعد فاصلاً ذهنيًّا ومساحة زمنية للتفرغ لذكر آخر في هيئة أخرى، فلو فرضنا أن هذه الانتقالات بين أركان الصلاة كانت بدون فاصل التكبير فقد يؤدي ذلك إلى تداخل الأذكار بعضها في بعض، فيختلط على المصلي، فيقولُ الذكرَ الخاص بالسجود في جلوسه مثلاً، وهكذا، وهذا التكبير الفاصل بينهما يضع حدًّا لانتهاء الذكر القبلي وابتداء ما بعده.
ومن العبر: الاستعداد، لأن تكبيرة الانتقال تكون كأداة التنبيه بما يليه، وتشعر المصلي بأهمية الاستعداد لما هو آتٍ، فإذا انتهى من ركن وقال: "الله أكبر"، أحيا في نفسه من جديد عظمة الكبير الجليل -جل وعلا-... فـ"الله أكبر" تدفعه للمواصلة والتهيؤ، تمامًا كما يستخدمها المجاهد في سبيل الله فيستشعر النشوة وتعتريه تلك القوة التي تبعثها تلك الكلمة العظيمة.
أقول هذا القول -أيها الإخوة- وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وبعد:
فدرس أخير نتعلمه من تكبيرة الانتقال: التفاؤل؛ فمن عجيب التكبير أن فيه تفاؤلاً بتحقق الهداية التي طلبها المصلي في الفاتحة بقوله: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) [الفاتحة:6]؛ فإن الله -تعالى- قال في آيتين في القرآن: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [الحج: 37]، (وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة:185]؛ وهما وإن كانتا في الصيام والحج إلا أن في ذلك سرًّا عظيمًا يدل على أن التكبير مقترن بالهداية، ففي التكبير إذًا تفاؤل بتحقق الهداية.
معاشر الإخوة: يتكرر التكبير في الصلاة، والتكبير فيه معنى الرفعة والنصر والعلو والتمكين، والمصلي حين يردد تكبيرة الانتقال يشعر بمعية الله الكبير سبحانه، فمم يخاف والله سبحانه أكبر من كل شيء ذاتًا وقَدرًا وعزة وجلالاً؟!
ومن ثم يُحسن المسلم الظن بالله، ويتوكل على الأكبر الذي يصغر أمامه كل شيء، فليتأمل معاني العبادة عمومًا، ومعاني تكبيرة الانتقال خصوصًا.
شرح الله صدورنا للإيمان، ورزقنا الخشوع ولذة العبادة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم