عناصر الخطبة
1/كثرة مظاهر رحمة الله -تعالى- بعباده ولطفه بهم 2/سورة الفاتحة بين الرب والعبد 3/سورة الفاتحة وتعليم المسألة 4/نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم 5/من أجمع الأدعية وأنفعِها للعبد 6/وعيد الناكصين عن الصراط المستقيم والمنحرفين عنه.اقتباس
فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعِها للعبد، فهو أفضل دعاء دعا به العبد ربه؛ فقد جمع مصالح الدين والدنيا والآخرة، والعبد دائماً محتاج إليه لا يقوم غيره مقامه حتى يُفْضِي به ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ذي الطول والإنعام، والمجد والإكرام، أحمده سبحانه حمداً يُوافي جوده وإحسانه، وأشكره شكر مُقِر بفضله وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بجوامع الكلم وكامل القيم؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المقتفين الأثر البالغين معالي الدرر.
أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله -تعالى-.
عباد الله: مظاهر رحمة الله -تعالى- بعباده ولطفه بهم، تجلَّت في كل أحكام الشريعة الغراء، فكل الأوامر والنواهي عائدة على العبد تزكية وتقويماً وسداداً، حتى إن ركن الصلاة الأعظم والتي لا تصح بدونها وهو قراءة سورة الفاتحة، نصفها للعبد خالصة، ومجموعها دعوات للتالي والمستمع.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "قالَ اللَّهُ -تعالى-: قَسَمْتُ الصَّلاةَ -والمراد سورة الفاتحة- بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ)، قالَ اللَّهُ -تعالى-: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قالَ اللَّهُ -تعالى-: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: (مالِكِ يَومِ الدِّينِ)، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: (اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ) قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ. (رواه مسلم: 395).
عباد الله: لمَّا تقدم الثناء على المسؤول -تبارك وتعالى- في: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة: 2-4]؛ ناسب أن يُعقِّب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل، أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله (اهْدِنَا) ؛لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة، ولذا أرشد الله -تعالى- إليه لأنه الأكمل.
وقد سميت سورة الفاتحة بتعليم المسألة؛ قال -تعالى-: (اهْدِنَا) صورته صورة الأمر، ومعناه: الدعاء والرغبة لا حقيقة الأمر، أي وَفِّقنا وأرْشِدْنا وثبِّتنا على الصراط المستقيم، و(الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6]؛ هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، المُوصِّلُ إلى الله -تعالى- وإلى جنّته، وهو معرفة الحق والعمل به.
فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط: تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً، فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعِها للعبد، فهو أفضل دعاء دعا به العبد ربه؛ فقد جمع مصالح الدين والدنيا والآخرة، والعبد دائماً محتاج إليه لا يقوم غيره مقامه حتى يُفْضِي به ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
قال ابن القيم: "الصراط ما جمع خمسة أوصاف: أن يكون طريقاً مستقيماً، سهلاً، مسلوكاً، واسعاً، موصلاً إلى المقصود، فلا تُسمِّي العرب الطريق المعوج صراطاً، ولا الصعب المشق، ولا المسدود غير الموصول"(بدائع الفوائد: 2/16).
ثم بيَّن الله -تعالى- بأنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة: 7]، وأصل النعمة: المبالغة والزيادة، يقال: نظرت وأنعمت النظر أي بالغت في دقته، والمعنى: اسلك بنا طريق الذين مننت عليهم بالتوفيق والرعاية والتوحيد والهداية، ففيها استعطاف لقبول الدعاء؛ أي: طلبنا منك الهداية؛ إذ سبق إنعامك على غيرنا، فمن إنعامك علينا إجابةُ سؤالنا ورغبتنا.
والذين أنعم الله عليهم: هم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله -تعالى- في قوله –سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69]؛ وفي هذا دليل واضح على أن طاعة الله -تعالى- لا ينالها المطيعون إلا بتفضُّل من الله -تعالى- وإنعام بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها.
عباد الله: قد يقول قائل: كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها، وهو متَّصف بذلك؛ فقد صدر منه صلاة وحمد الله -تعالى- وأخبر بأنه يعبده ويستعينه؟ فيقال: إن العبد محتاج في كل ساعة وحالة إلى الله -تعالى- في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وازدياده منها واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده الله إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق.
وقد كان الصديق -رضي الله عنه- يقرأ قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8]؛ في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سراً.
ولذا جاء التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمان دعوة رسلهم، فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، قال -تعالى-: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 7]؛ أي غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق وتركوه، كاليهود ونحوهم، وغير صراط (الضَّالِّينَ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[الإسراء:97]؛ فاللهم اهدنا فيمن هديت، ونسألك الثبات حتى الممات.. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن الناكصين عن الصراط المستقيم والمنحرفين عنه في الجملة، يكون بتخلف العمل بالعلم الذي معهم كحال اليهود المغضوب عليهم، أو يكون بعبادة على غير منهاج الله -تعالى- وشرعه، كحال النصارى الضالين.
ولذا أعلمنا الله -تعالى- بمنّه وجه السبيل إلى النجاء من أن يحل بنا مثلُ ما حل باليهود والنصارى من المثلات رأفةً منه بنا، والدعاء بـ(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة:6-7]؛ عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى"(رواه أحمد 19400، وابن حبان 7206، والطبراني 237 وصححه الألباني بمجموع طرقه).
تأمل -عبد الله- في سياق النعمة قال -سبحانه-: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهنا حذف فاعل الغضب ولم يقل: "غير الذين غضبت عليهم"؛ لوجوه منها: أن النعمة هي الخير والفضل، والغضب من باب الانتقام والعدل، والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه، وحذف الفاعل في مقابلهما، كقول الله -تعالى- (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[الجن: 10].
عباد الله: لا يلزم اختصاص وصف الغضب باليهود ووصف الضلال بالنصارى؛ فإن في الأمم أمثالهم، فيشمل فرق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت الاستخفافَ بالدين وليَّ أعناق النصوص بتأويلات بعيدة أو أقوال شاذة أو حِيَل مصطنعة؛ اتباعاً للهوى وإيثاراً لحظوظ الدنيا، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء فهي في جهل وبُعْد عن العلم والدين، وكلا الفريقين مذموم؛ لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصَرْف الجهد إلى إصابته.
ولذا يستحب لتالي هذه السورة أن يختم تلك الدعوات الجامعة سواء كان في صلاة أو خارجها بقول: آمين؛ أي: اللهم استجب وإن كانت ليست من ذات السورة.
وختاماً: في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية وكليات التصور الإسلامي وكليات المشاعر والتوجيهات والدعوات ما لا يحيط به فِكْر ولا يُحصيه كد ولا يحويه خطاب، بيد أن فيما ذُكِرَ إشارة إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تقرأ فيها.
هذا وصلوا وسلموا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم