عناصر الخطبة
1/حال المسلمين في رمضان وبعده 2/وجوب المداومة على العمل الصالح 3/علامات قبول العمل الصالحاقتباس
فَدَاوِمْ وَاسْتَمَرَّ؛ فَعِبَادَةُ رَبِّ العَالَمِينَ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى رَمَضَانَ، وَلَيْسَ لِلعَبْدِ مُنْتَهًى مِنَ العِبَادَةِ دُونَ الْمَوْتِ، لِتَحْيَا حَيَاةَ السُّعَدَاءِ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ، وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ.
أَمَّا بَعْدُ: أيُّهَا الْمُـْـسلِمُونَ: مَضَتْ أَيَّامُ رَمَضَانَ الجَمِيلَةُ بِفَضَائِلِهَا، وَكَأَنَّهَا ضَرْبُ خَيَالٍ، وَقَطَعْنَا فِيهَا مَرْحَلَةً مِنْ حَيَاتِنَا لَنْ تَعُودَ، وَهَكَذَا الحَيَاةُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَآجَالٌ مَحْدُودَةٌ، وَرَبُّنَا -وَحْدَهُ- هُوَ مصرِّفُ الأَيَّامِ وَالشُّهُورِ، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل)[الْحَجِّ: 61]، جَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وَلِكُلِّ عَمَلٍ حِسَابًا، وَجَعَلَ الدُّنْيَا سُوقًا يَغْدُو إِلَيْهَا النَّاسُ وَيَرُوحُونَ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا.
أيُّهَا الْمُـْـسلِمُونَ: إِنَّ الْـمُتَأَمِّلَ وَالنَّاظِرَ لِلكَثِيرِينَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانِ يَرَى العَجَبَ فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْـمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِهِمْ وَإِيجَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)[الذَّارِيَاتِ: 56]، الـمَسَاجِدُ اكْتَظَّتْ بِهِمْ مَا بَيْنَ صَلَاةٍ وَتِلَاوَةِ قُرْآنٍ وَتَسْبِيحٍ وَصَدَقَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ وُدَعَاءٍ؛ فَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلـَهُمْ مِنَ الحَظِّ أَوْفَرُهُ، وَمِنَ الْعَطَاءِ أَجْزَلُهُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)[النَّحْلِ: 97] وَبِقَوْلِهِ فِي الْـحَدِيثِ القُدْسَيِّ: "يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً". (رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيِحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بِنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-).
نَعَمْ أَقْبَلَ الأَخْيَارُ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الإِيمَانِ، وَخُلُوِّ القَلْبِ مِنْ تَعْظِيمِ الْكَرِيِمِ الْمَنَّانِ، وَعَلِمُوا قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِذَلِكَ الرَّجُلِ الأَعْمَى عِنْدَمَا أَتَاهُ وَقَالَ لَهُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ"، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، ضَرِيرُ الْبَصَرِ، شَاسِعُ الدَّارِ، وَالْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَجِبْ".
فَيَا سُبْحَانَ اللهِ! أَتَجِبُ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ عَلَى هَذَا الصَّحَابِيِّ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ فَقْدِ البَصَرِ، وَبُعْدِ الدَّارِ، وَخَوْفِ الطَّرِيقِ، وَعَدَمِ وُجُودِ القَائِدِ الَّذِيِ يَقُودُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلَا تُجِبُ عَلَى الْمُبْصِرِ الـمُجَاوِرِ لِلمَسْجِدِ الَّذِي يَسْمَعُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ: حَيَّ عَلَى الصَلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ؟
وَأَقْبَلَ الكَثِيرُونَ عَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِمَوْعُودِ اللهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي قَالَ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
تَسَابَقَ الكَثِيرُونَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالإِنْفَاقِ وَالجُودِ، وَسَدِّ حَاجَةِ إِخْوَانِهِمُ الْـمُحْتَاجِينَ؛ تَبْتَسِمُ مِنْهُمُ الشِّفَاهُ، وَتُضِيئُ مِنْهُمُ الجِبَاهُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" رَواهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالآنَ وَقَدْ رَحَلَ رَمَضَانُ بِكُنُوزِهِ الغَالِيَةِ، وَأَيَّامِهِ النَّفِيسَةِ، وَقَدْ أَوْدَعْتَهُ أَعْمَالًا جَلِيلَةً فَتَذَكِّرْ هَذِهِ الأَعْمَالَ، وَسَلِ اللهَ قَبُولـَها، تَذَكَّرْ -وَأَنْتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ- صَفَاءَ نَفْسِكَ، وَرَاحَةَ ضَمِيرِكَ، وطُمَأْنِينةَ قَلْبَكِ، وَانْشِرَاحَ صَدْرِكَ، وَهُدُوءَ بَالِكَ؛ فَهَذِهِ الأَشْيَاءُ -وَاللهِ- لَا تَحْتَوِيهَا الخَزَائِنُ، وَلَا تُشْتَرَى بِأَغْلَى الْأثْمَانِ، وَلَنْ تَنَالَـهَا بِالمَالِ الوَفِيرِ، وَلَا بِالْـجَاهِ العَرِيضِ، وَإِنَّمَا نِلْتَهَا بِفَضْلٍ مِنَ اللهِ ثُمَّ بِفَضَلِ أَعْمَالِكِ الصَّالِحَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون)[فُصِّلَتْ: 30].
فَدَاوِمْ وَاسْتَمَرَّ؛ فَعِبَادَةُ رَبِّ العَالَمِينَ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى رَمَضَانَ، وَلَيْسَ لِلعَبْدِ مُنْتَهًى مِنَ العِبَادَةِ دُونَ الْمَوْتِ، لِتَحْيَا حَيَاةَ السُّعَدَاءِ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا حَيَاةَ السُّعَدَاءِ، وَأَمِتْنَا مَمَاتَ الشُّهَدَاءِ، يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أيُّهَا الْمُـْـسلِمُونَ: إِنَّ لِلْقَبُولِ والرِّبْحِ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَامَاتٍ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعْلَ الحَسَنَةِ بَعْدَهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين)[هُودٍ: 114] وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ).
وَمَدَارُ السَّعَادَةِ -يَا عِبَادَ اللهِ- فِي طُولِ العُمْرِ وَحُسْنِ العَمَلِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ النّاسِ مَنْ طالَ عُمُرُهُ وصَلُحَ عَمَلُهُ".
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمِيِعِ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ أَعْوامًا عَدِيِدَةً، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" (رَوَاهُ مُسْلِم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم