عناصر الخطبة
1/هداية الدلالة والإرشاد في ثلاثة أمور 2/أهمية الكعبة وحرمتها وعظمتها 3/الكعبة منطقة الأمن والسلام 4/معتقد أهل السنة والجماعة في الكعبة 5/قصة بناء الكعبة وفي عهد من بينت؟ 6/غزو الكعبة محاولات هدمها 7/كيف يُهدم الكعبة في آخر الزمان وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ 8/الإمبراطوريات الأربع التي كانت تتقاسم الأرض قبل مجيء الإسلام 9/الحكمة في اختيار مكة للانطلاق الرسالة المحمديةاقتباس
إنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما، وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما، إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري، إنها منطقة السلام حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان، وهما في غير هذه المنطقة حل للإنسسان، ولكنهما هنا في المثابة الآمنة، في الفترة الآمنة، في النفس الآمنة، إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الله -جل وتعالى- جعل هداية الدلالة والإرشاد في ثلاثة أمور، ذكرها سبحانه في كتابه:
الأول: جعلها في القرآن: قال الله -تعالى-: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)[البقرة:1-2].
وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة : 185].
وقال سبحانه: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[النمل: 1-2].
الثاني: جعلها في الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -تعالى-: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 33].
الثالث: جعلها في الكعبة: فقال عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96].
كما أنه عز وجل جعل قيام أمر الناس في أمرين:
الأول: في المال: قال الله -تعالى-: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)[النساء: 5].
فالمال مما يقوم أمر الناس عليه، والناس تدرك ذلك جيداً، فيعلمون أن قيام أمرهم في هذه الدنيا إنما هو قائم بعد الله -عز وجل- بالمال.
فبالمال يتحصل المرء على الكثير مما يريد، وبدون المال قد يعاني المرء في بعض الجوانب من حياته.
الأمر الثاني مما ذكره الله -تعالى- في كتابه مما جعل قيام أمر الناس به إضافة إلى المال هو الكعبة: قال الله -تعالى-: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ)[المائدة: 97].
وهذا لا يدركه كثير من الناس، بل حتى من خواص المسلمين مع كل أسف.
فالكعبة من مواضع الهداية، كما أنه مما جُعل قيام أمر الناس به.
أيها المسلمون: إن هذه الكعبة هي مركز توازن العالم، فبدونها لا يستقيم أمر العالم، ولا يقوم لهم شأن: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاس)[المائدة: 97].
إذا أردنا أن نطّهر مجتمعنا من المنكرات والمخالفات فلنبدأ من الكعبة وما حولها؛ لأن قيام أمر الناس من البيت الحرام.
ولو أردنا نشر الخير بين المسلمين وركّزنا في برامجنا الدعوية لمن يدخلون مكة من المسلمين كل عام وما تركنا أحداً يخرج إلا وقد تعلم شيئاً، وترك بعض مخالفاته لصلح أحوال العالم الإسلامي في سنوات قليلة: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاس)[المائدة: 97].
ولا شك أن التغير الذي يحصل للمسلمين سيكون له تأثير إيجابي على العالم كله.
ولو تُرك حج البيت لسنة واحدة لقامت الساعة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في الحديث الصحيح: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت" [رواه أبو داود في سننه].
أيها المسلمون: أراد الله للكعبة أن تكون مثابة أمن وسلام، تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع، لتكون منطقة أمن في المكان كما أن الأشهر الحرم أمن في الزمان: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً)[البقرة: 125].
ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقاً للهَدْي -وهو النعم- الذي يُطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة، فلا يمسه أحد في الطريق بسوء، كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم معلناً احتماءه بالبيت العتيق: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف)[قريش:1-4].
لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، وجعله مثابة للناس وأمنا، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمناً، والناس من حولهم يُتَخطَفون وهم فيه وبه آمنون، ثم هم بعد ذلك لا يشكرون الله ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد، ويقولون للرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يدعوهم إلى التوحيد: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)[القصص: 57].
فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57].
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف".
ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور".
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- زيادة: "الحية".
إنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما، وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما، إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري، إنها منطقة السلام حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان، وهما في غير هذه المنطقة حل للإنسان، ولكنهما هنا في المثابة الآمنة، في الفترة الآمنة، في النفس الآمنة، إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى.
ألا ما أحوج البشرية الوجلة المتطاحنة المتصارعة إلى منطقة الأمان، التي جعلها الله قياماً للناس، وبينها للناس في هذا القرآن: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ)[المائدة: 97].
أيها المسلمون: من معتقد أهل السنة والجماعة أن الكعبة، هذا الذي تشاهدونه وتطوفون به وتحجون وتعتمرون إليه، سوف يهدم في آخر الزمان، وقد صح الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا.
والكعبة قد تعرضت للهدم والغزو عدة مرات: فأول مرة هدمت فيها الكعبة بعد أن بناها إبراهيم -عليه السلام- كانت في زمن قريش في الجاهلية قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنوات تقريباً، وكان عمره عليه الصلاة والسلام آنذاك خمساً وثلاثين سنة، أرسل الله -عز وجل- سيلاً عظيماً فهدمها، فتشاورت قريش واجتمعت وأجمعت على عمارتها، وكان بمكة رجل قبطي نجاراً فسوى لهم ذلك، وبنوها ثمانية عشر ذراعاً، حتى أتوا على موضع الحَجَر واختلفوا أي قبيلة تضعها، حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحكم بينهم والقصة معروفة.
ثم بقي البناء على ما هو عليه من زمن قريش حتى تولى عبدالله بن الزبير إمارة الحجاز فهُدمت في زمنه وهذه هي المرة الثانية، والسبب هو الخلاف الذي كان بين عبدالله بن الزبير ويزيد بن معاوية -رحمهما الله تعالى-، فأرسل يزيد جيشاً بقيادة الحصين بن نمير السكوني لقتال ابن الزبير، فتحصن عبدالله بن الزبير في المسجد حول الكعبة ونصب فيها خياماً يستظلون بها من الشمس، لكن الحصين بن نمير نصب المنجنيق على جبل الأخشبين وصار يرمي على ابن الزبير وأصحابه، وكانت أحجار المنجنيق تصيب الكعبة فوهَنت وتخرّقت كسوتها، ثم إن رجلاً من أصحاب ابن الزبير أوقد ناراً في بعض الخيام والمسجد يومئذ صغير فهبت ريح شديدة والكعبة ما زالت على بناء قريش من اللبن والحجارة، فطارت شرارة من تلك النار وتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت، فازداد التصدع في جدارها، وبعد ما توقف القتال استشار عبدالله بن الزبير في هدم الكعبة وبناءها من جديد، فأبى عليه أغلب الناس، وكان أشد الناس إباءً ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإني أخش أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تُهدم وتُبنى فيتهاون الناس بها، ولكن إرقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله، واستقر رأيه على هدمها وأن يعيدها على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، فلما كان يوم السبت الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة أربع وستين من الهجرة أمر بهدمها، فلم يجرؤ أحد على ذلك، وخرج أهل مكة مخافة أن ينـزل بهم عذاب، وخرج ابن عباس إلى الطائف، فلما رأى ابن الزبير ذلك، على بنفسه وأخذ المعول وصار يهدمها ثم صعد معه الناس وهدموها، وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، وأدخل الحِجر في البيت؛ لأن الحِجر أساسٌ من البيت.
هكذا بناها إبراهيم -عليه السلام-، لكن لما هدمها السيل في زمن قريش قصرت النفقة بقريش ولم يتمكنوا من إكمال بناءها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- فبنوا ما تمكنوا من بناءه، فجاء ابن الزبير وأدخل الحِجر في البيت.
فلما تولى عبدالملك بن مروان الخلافة، وكان يعلم بأن الحِجر في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان خارج البيت، فقال: هذه بدعة ابتدعها ابن الزبير ما كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهدم الكعبة من جديد، وأخرج الحِجر خارج البيت، والله المستعان.
مع أن الأصل أن يكون الحِجر داخل البيت كما بناها إبراهيم -عليه السلام-، وهذه هي المرة الثالثة في هدم الكعبة.
فلما تولى الخلافة المهدي أو ابنه المنصور بعد عبد الملك بن مروان استشار العلماء في هدمها مرة رابعة لإدخال الحِجر، فقال له الإمام مالك -رحمه الله- إمام دار الهجرة: لا تفعل، ومنع الخليفة من ذلك، وقال: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة يبني هذا ويهدم هذا، فتركها على ما هي عليه، فبقيت على وضعها حتى وقتنا هذا.
أيها المسلمون: أما عن غزو الكعبة، ومحاولة الاعتداء عليها، وأخذ كنوزها، فكثيرة جداً، ولا يتسع هذا المقام لذكره كله، ولكن نذكر طرفاً منه:
أول محاولة: في عهد أبي طالب في الجاهلية، وقصة أصحاب الفيل وجيش أبرهة المعروف، وكيف أن الله -عز وجل- حمى بيته، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.
واعتدى أيضاً القرامطة على الكعبة في زمن أميرهم: أبا الطاهر سليمان بن أبي سعد، فدخل مكة وقتل من الحجاج الكثير، ثم أمر هذا القرمطي -لعنه الله- أن يُدفن القتلى في بئر زمزم فدُفنوا بها، ودُفن كثير منهم في أماكنهم في أزقة مكة وشعابها، حتى في المسجد الحرام، وهدم القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها ومزّقها وفرّقها بين أصحابه، ثم أمر بقلع الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى بلادهم، وكانوا يسكنون منطقة الأحساء حالياً، حتى قيض الله -عز وجل- مملوكاً تركياً في زمن الخليفة القائم بأمر الله، فاستنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة، وافتداه منهم بخمسين ألف دينار بذلها، حتى أرجع الحَجَرَ إلى مكانه.
وأما عند خراب وهدم الكعبة في آخر الزمان، فقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه في آخر الزمان يخرج رجل من الحبشة، وهو الذي يهدمها، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يخرّب الكعبة ذو السويقتين في الحبشة، ويسلبها حليها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلعاً أفيدعاً يضرب بمسحاته ومعوله".
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجراً حجراً".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
وسمي ذو السويقتين لصغر ساقيه ورقتهما.
أيها المسلمون: كيف يُهدم الكعبة في آخر الزمان وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟
الجواب: أن الله -عز وجل- جعل مكة حرماً آمناً إلى قرب قيام الساعة، وقبيل يوم القيامة يأتي هذا الجيش ويهدمها بأمر الله -عز وجل-.
فنسأل الله -جل وتعالى- أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: كانت الأرض المعمورة عند مولد هذه الرسالة الأخيرة تكاد تتقاسمها إمبراطوريات أربع: الإمبراطورية الرومانية في أوروبا وطرف من آسيا وإفريقية، والإمبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية، والإمبراطورية الهندية، ثم الإمبراطورية الصينية.
وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام هما: اليهودية والنصرانية وقد أصابهما من الانحراف والفساد ما أصابهما.
ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة، ولاضطهاد الفرس تارة، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال.
وأما المسيحية فقد وُلدت في ظل الدولة الرومانية التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سراً، وهي تتخفى من مطاردة الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة.
وفي هذا الوقت جاء الإسلام، جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور، وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور، ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر، فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الإمبراطوريات، وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته، بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله. وكانت الجزيرة العربية وأم القرى وما حولها بالذات هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى.
أيها المسلمون: إن اختيار الله -عز وجل- لتكون مكة هي نقطة الانطلاق الجديد لهداية البشرية لم يكن مصادفة، بل اختار جل وتعالى مكة وما حولها ومن يعيشون فيها لعلمه جل وتعالى أنها أصلح بقعة ينطلق منه الهداية للعالمين.
فلم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة، ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة، فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة، ومعتقداتها وعباداتها شتى، وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام، ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكَم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد، ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام، فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب.
وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة، كان النظام القبلي هو السائد، وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام، فلما قام محمد -صلى الله عليه وسلم- بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له، ووجد من التوازن القبلي فرصة، ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة، وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة، والنهوض بتكاليفها، فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله، ووجه هذه الطاقة المختزنة التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح، ففتحها الله بمفتاح الإسلام، وجعلها رصيداً له وذخراً.
فهل نعي دورنا نحن اليوم -أيها المسلمون-: لنعيد للكعبة مكانتها لنعود نحن لمكانتنا؟
(قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم