عناصر الخطبة
1/ رحلةُ المصطفين من الصراط إلى أبواب الجنة 2/ من عَبَقِ رياض الجنة 3/ أبواب الجنة الثمانية 4/ وقفات مع الأعمال الموجبات للدخول بتلك الأبواباقتباس
ونواصل رحلة التأمل بعد أن رجونا الله أن يجعلنا مع أهل العفو والتجاوز، فتخيل رحمك إن كنت من أهل العفو والتجاوز، وتفضل الله عليك بذلك، تخيل ممرك على الصراط ونورك معك يسعى بين يديك وعن يمينك، وأنت على الصراط مع زمر العابدين ووفود المتقين، والملائكة تنادي: سلام سلام! والوجل -مع ذلك- لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تنادي...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل رحلة الحق والحقيقة، متفكرين في بعض مشاهد القيامة والعرض على الرب العظيم الأكرم، نتقلب بين خوف ورجاء، ووجل ودعاء، نتذكر أعمالنا الملفوفة في ثياب التفريط والتقصير والمعاصي؛ فتوجل القلوب، وترتعد الجوارح.
ثم نتذكر سعة رحمة الله وفضله وكرمه، فما يلبث أن يزول خوفنا، وتهدأ قلوبنا.
وكيف لا يزول خوفنا وهو ربنا وخالقنا ومولانا الكريم الذي رعانا ونحن أجنة، ووالى علينا صنوف الإنعام والمنة؟ فالرجاء فيه عظيم، والأمل فيه كبير، وما لنا رب سواه.
ونشهده -وهو أعلم- أننا وإن أخطأنا وأسأنا وأذنبنا فإن قلوبنا تنبض بحبه، فإن غرنا ستره المرخي علينا فقد أطمعنا نواله وكرمه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
ونواصل رحلة التأمل بعد أن رجونا الله أن يجعلنا مع أهل العفو والتجاوز، فتخيل رحمك إن كنت من أهل العفو والتجاوز، وتفضل الله عليك بذلك، تخيل ممرك على الصراط ونورك معك يسعى بين يديك وعن يمينك، وأنت على الصراط مع زمر العابدين ووفود المتقين، والملائكة تنادي: سلام سلام! والوجل -مع ذلك- لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تنادي وينادون: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
فتخيل ممرك على قدر خفة أوزارك وثقلها، فتوهم نفسك وقد انتهيت إلى آخره، فغلب على قلبك النجاة، وعلا عليك الإشفاق، واشتقت إلى رضوان الله وجنته، حتى إذا وصلت إلى آخره خطوت بإحدى رجليك إلى العرصة، وهي المكان الفسيح الذي لا بناء فيه، وهو بين آخر الجسر وبين باب الجنة، فوضعت إحدى رجليك وبقيت الأخرى على الصراط، والخوف والرجاء قد غلبا عليك، ثم ثنيت بالأخرى فجزت الصراط كله، وزلت عن الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك.
ثم التفتَّ إلى الجسر فنظرت إليه باضطرابه وأهواله وشدائده، فطار قلبك فرحا إذ رأيت عظيم ما نجاك الله منه، فحمدت الله، وازددت له شكرا إذ نجوت من النار وخلفتها وراء ظهرك متوجها إلى جوار ربك.
فتخيل نفسك وقد جاوزتها ووقفت على صعيد واسع شاسع فإذا بك ترى إخوانك وأحبابك الذين نجاهم الله كذلك، فتعانقهم ويعانقونك، وربما رأيت أباك وأمك وإخوانك وأبناءك وأصدقاءك الذين منّ الله عليهم بالنجاة من النار، فتتعانقون وتسألون عمن لم تروهم من الإخوان والأحباب، وتسألون الله لهم النجاة والسلامة.
فيا له من موقف! ما أعظمه وأجله! ثم تبدأ مواكب أولياء الله في السير نحو أبواب الجنة جماعات جماعات، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)، فتخيل نفسك في ذلك الموكب وهم أهل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورين فرحين مستبشرين.
فتخيل نفسك معهم وأنت تذكر فضل الله عليك وقد نجاك من هول الموقف، ومن حر الشمس، ومن خوف الزلل على الصراط، ومن كل الأهوال.
وبينما تسير معهم إذا بك ترى عينا أعدها الله لأوليائه يتطهرون بها قبيل دخولهم الجنة، فانغمست فيها مسرورا لما وجدت من برد مائها وطيبه، فذهب عنك الحزن، وتطهرت من الدنس والغبار.
فتخيل فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط ووهج القيامة، وأنت فرح لمعرفتك أنك إنما تغتسل لتتطهر وتتهيأ لدخول الجنة والخلود فيها، فتخيل نفسك وفرح قلبك حين خرجت منها، فنظرت إلى كمال جمالك، ونضارة وجهك، وحسنه، وأنت موقن في قرارة نفسك أنك تتنظف وتتهيأ للدخول إلى جوار ربك.
ثم تقصد إلى عين أخرى فتتناول من بعض آنيتها، فتخيل نظرك إلى حسن الإناء وإلى حسن الشراب وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنما تشرب هذا الشراب لتطهر جوفك من كل غل، حتى إذا وضعت الإناء على فيك ثم شربته وجدت طعم شراب لم تذق مثله، ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إلى جوفك، فطار قلبك سرورا لما وجدت من لذته، ثم نقي جوفك من كل آفة، فوجدت لذة طهارة صدرك من كل طبع كان فيه ينازعه إلى الغموم والهموم والحرص والشدة والغضب والغل.
فيا برد طهارة صدرك! ويا روح ذلك على فؤادك! (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
حتى إذا استكملت طهارة القلب والبدن، واستكمل أحباء الله معك، أمَر مولاك الجواد الكريم خُزّان الجنة من الملائكة أمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه، فطار قلبك فرحا وسرورا، وامتلأت فرحا، فيا سرور قلوب المفتوح لهم باب جنة رب العالمين!.
فتخيل نفسك وقد جئت مع وفود المكرمين من عباد الله الصالحين، ووقف الجميع عند باب الجنة ولما يفتح بعد.
أما الباب فلا تسأل عن عظمته واتساعه وجماله، فبينما أنت كذلك إذ بك ترى سيد الأولين والآخرين سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- يطرق باب الجنة ليفتح له لأنه -صلى الله عليه وسلم- أول من يدخل الجنة من عباد الله أجمعين.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟".
إلى أن قال في الحديث الطويل: "فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟"
"فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي".
"ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع؛ فأرفع رأسي فأقول: يا رب، أمتي! أمتي! فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب".
"والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لَكَما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى" متفق عليه.
و"هجر" من مدن البحرين، وبينها وبين مكة ستون ومائة وألف كيلو مترا، "وبصرى" في بلاد الشام، وبينها وبين مكة ستون ومائتان وألف كيلو مترا، أي: إن عرض الباب الواحد ما يقرب من ألف ومائتي كيلو متر، وفي الحديث أنه سيأتي عليها يوم تكون مكتظة من زحام الداخلين إليها. نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله وكرمه.
فتخيل نفسك -يا عبد الله- وقد فتح الباب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت واقف مع الداخلين، والوجوه كأنها القمر ليلة البدر، أو كأنها الكواكب الدرية في السماء وضاءة وإشراقا.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يدْخُلُونَ الْجنَّةَ على صُورَةِ الْقَمرِ لَيْلَةَ الْبدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُمْ، علَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يُبولُونَ ولاَ يتَغَوَّطُونَ، ولاَ يتْفُلُونَ، ولاَ يمْتَخِطُون؛ أمْشاطُهُمُ الذَّهَبُ، ورشْحهُمُ المِسْكُ، ومجامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ، وأَزْواجُهُم الْحُورُ الْعِينُ، علَى خَلْقِ رجُلٍ واحِد، علَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدم سِتُّونَ ذراعاً في السَّماءِ" رواه البخاري ومسلم.
فيا سرورهم ويا فرحهم! الجنة! والمضيف الرحمن! والمرافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! والأصحاب الجُلاس الصدِّيقون والشهداء والصالحون.
ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هناك بأم عينيك، هذا الرسول الحبيب الذي طالما اشتقت إليه، وبكيت حبا له، وقرأت سيرته هناك، تراه في مشهد الإكرام والإتحاف؛ فيا لها من مشاهد! ويا لها من لحظات هي الحق، وهي الحقيقة!.
فاللهم اجعلنا من أهلها، والداخلين إليها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحق لا إله إلا الله.
جعلني الله وأياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي اصطفى من شاء من عباده لخدمته، وأكرمهم بقربه ورضوانه وجنته، وحباهم بالجنة، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
والصلاة والسلام على من فتح الله به أبواب القلوب المقفلة، وجعل في اتباعه النجاة وعلو المنزلة، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتبعه إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: الجنة دار الأبرار، ومنزل الأخيار، ومحط رحال المصطفين الذين أراد الله، وغرس كرامتهم بيده؛ فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هي دار البشر والسرور، والعطاء والحبور، حيث لا أحزان ولا أكدار، ولا أمراض ولا أخطار، ولا حساد ولا أشرار، ليس هناك إلا الكرامة والسلام، والأمن والأمان، والتلذذ بأنواع المشتهيات التي لا تفنى ولا تمل، (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم:62].
هذه الجنة التي قام الليالي من أجلها العابدون، وصام الصائمون، وقدم المجاهدون صدورهم فيها طامعين، وإليها راغبين، فتخيل نفسك وقد وقفت مع الصالحين عند بابها تنتظر فتح الأبواب لتدخلها مع الداخلين.
فلما فتح لهم بابها هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جري مائها، فنفح وجهك وجميع بدنك، وثارت أراييح الجنة العبقة الطيبة، وهاج ريح مسكها الأذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وأرياح طيب ثمارها وأشجارها وما فيها من نسيمها، فتداخلت تلك الأراييح في مشامك حتى وصلت إلى دماغك، وصار طيبها في قلبك، وفاض على جميع جوارحك.
ونظرت بعينك إلى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها، من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد والياقوت الأحمر، والدر الأبيض، قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه، فاجتمع طيب أراييح الجنة وحسن بهجة منظرها وطيب نسيمها وبرد جوها، فتخيل نفسك أن تفضل الله عليك بهذه الهيئة، فلو مت فرحا لكان ذلك يحق لك!.
حتى إذا فتح الخُزان بابها أقبلوا عليك ضاحكين في وجهك ووجوه أولياء الله معك وهم يقولون: (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24].
فتحت الأبواب الثمانية، فتسارع الناس للدخول فرحا بفضل الله وكرمه، ودخولا إلى عالم الستر والرضا والأفراح.
وأبواب الجنة ثمانية كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد يتوضأ ثم يسبغ الوضوء ثم يقول: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" رواه مسلم وأبو داود.
وجاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "مَن أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".
قال أبو بكر الصدّيق: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
قال القاضي عياض -رحمه الله-: "ذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة، وزاد غيره بقية الثمانية، فذكر منها باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه".
وعلى هذا؛ فإن الجنة لها ثمانية أبواب: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الريان، وباب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه.
أيها الأحباب: كلنا يطمع أن يكون من الداخلين من أحد هذه الأبواب، ولكن الأمر -بعد رحمة الله- يحتاج إلى عمل ومجاهدة، وصبر ومصابرة.
فباب الصلاة يدخل منه الذين امتلأت قلوبهم بحب الصلاة، فزادوا على ما فرض الله عليهم النوافل، وقاموا بالليل، وشغفوا بالصلاة، فلا يجدون راحتهم إلا فيها.
يفرون إليها من عنت الزمان، وكآبة الأيام، إذا حزبهم أمر فزعوا إلى الصلاة يتلذذون بها، ويتمتعون بها، ويستشعرون فيها مناجاة ربهم، كلما فرغوا من صلاة حنوا إلى أخرى، فهم في صلاة وصلة دائمين.
قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:16-17].
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:9-11].
وباب الجهاد يدخل منه المجاهدون في سبيل الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:218].
وقال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:169-170].
ومن الجهاد جهاد النفس، وهو من أعظم الجهاد، ومن المعلوم أننا اليوم في زمن الفتن والشهوات والشبهات والمغريات والملهيات، والأمر يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة.
وكما أن المجاهد في المعركة ينهزم حينا وينتصر حينا، فكذلك المجاهد نفسه قد يكبو أحيانا؛ ولكن لا يقطع المجاهدة، يذكر نفسه ويصبرها، مع رفقة مؤيدة مسددة تذكره بالله إذا غفل، وتقيمه إذا اعوجّ ومال.
وهو مع مجاهدته دائم الدعاء لله في السجود وفي أوقات الاستجابة بأن يعينه الله على نفسه، وأن ينصره عليها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
وكذلك من الجهادِ الجهادُ بالمال، وهو من أعظم الجهاد، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة:20-22].
وباب الصدقة، والصدقة لون من أجمل ألوان الجهاد، يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عظيم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" رواه مسلم.
يقول أبو العلا محمد المبارك في التحفة شارحا: "كالمجاهد في سبيل الله"، أي: "ثواب القائم بأمرهما، وإصلاح شأنهما، والإنفاق عليهما، كثواب الغازي في جهاده؛ فإن المال شقيق الروح، وفي بذله مخالفة النفس، ومطالبة رضا الرب".
إن الصدقة -أيها الأحباب- صورة حضارية تترجم عن حقيقة النفوس، وعن مدى تشبعها باليوم الآخر، وتعلقها بفضل الله.
فالمتصدق عبدٌ علت همته، وتعلقت روحه بالله، وارتفعت عن الدنايا، فصار أعظم ما يتقاتل الناس من أجله، وهو المال، صار عنده عاديّا، بل صار الإنفاق أحب إليه من الجَمع، ومن كانت هذه حاله فليبشر بخيري الدنيا والآخرة.
إن الناس اليوم -أيها الأحباب- قد بالغوا كثيرا في مسألة المال، حتى صار شغلهم وديدنهم، ومن أجله يتحاربون ويتعادون، والأمر أهون من ذلك وأيسر، ولا يستحق كل هذه الضجة، فالمال وسيلة وليس غاية، ولكن، وللأسف! صار في زمننا غاية تسلك في سبيله كل الوسائل، حلالها وحرامها، وهذا من نكد الأيام، وبؤس الأزمان.
إن الصدقة علاج عظيم لما يتخبط الناس فيه من بوائق وأزمات تولدت عن إلغاء الفكر الصحيح والعواطف الأصيلة، والجري وراء المكر والدهاء والقهر والجبروت.
إن الصدقة عنوان التعاون، ودليل الإحسان، وعلامة الجود؛ وهذه المعاني هي الحل الوحيد الذي يخرج الناس اليوم من النفق، ويخلصهم من هذه الشباك المنصوبة لهم باسم المخططات والمناهج، والتي لا تزيد المسلمين إلا خبالا.
إذاً؛ فدخول أبواب الجنة مترتب على القيام بتلك الأعمال الموجبة للدخول من تلك الأبواب: صلاة، وجهاد، وصدقة، وصيام، وتوبة متجددة دائمة، وكظم للغيظ الداعي إلى الثأر والانتقام، ورضا بالقضاء والقدر.
والرضا صورة ناطقة للعبودية الصادقة، حيث يسلم العبد أمره لله رضا بقضائه، وثقة بوعده، وفيه اعتراف بالضعف والعجز، وتعلّق بالله المدبر الأمور، العليم بعواقبها؛ فأهل الرضا هم في جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة.
وسنواصل إن شاء الله التقلب في هذه الرياض العطرة، آملين أن نكون من أهلها، والمستمتعين بها، وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم أصلح أحوالنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم