عناصر الخطبة
1/هكذا هلََّ هلال رمضان 2/تشريع الصيام 3/بعض فضائل شهر رمضان وثمار صيامه 4/حقيقة الصيام وحال بعض الناس معه 5/بعض الأحكام المتعلقة بالصيام.اقتباس
لقد أقبل علينا رمضان يحمل معه الجوع والظمأ، والتعب والنصب، ولكنه جوع تشبع معه الروح وتروى، وعناء تستريح فيه وتقوى، جاء رمضان لتورق فيه شجر الطاعة، وتذبل فيه أشجار المعصية، أتى رمضان ليستمتع المؤمن بجنة من جنات الدنيا، يشتم فيها نسائم التلاوة العذبة، ويذوق فيها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المنعم على العباد، الهادي إلى سبيل الرشاد، ينعم جودًا وفضلًا، ويمنع ما شاء حقًّا وعدلًا، كم من خير منه على خلقه نازل، وكم من شر منهم إليه صاعد، يتقرب إليهم بفضله ونعمته، وهو الغني عنهم، ويبتعدون عنه بمخالفته ومعصيته، وهم الفقراء إليه؛ فرحماك ربي رحماك ما أكرمك وما أحلمك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المعبود عبادة حق في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدًا بن عبدالله عبده ورسوله، سيد أنبيائه وخيرة أصفيائه، خير من صلى وصام وتبتل وقام، بلغ رسالة ربه كما أراد ربه بلاغًا أنار المحجة؛ حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ فصلى الله عليه ما صلى المصلون وصام الصائمون صلاة وسلامًا، دائمين إلى يوم المعاد، وسلم تسليمًا، أمَّا بعدُ:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه قد هلَّ عليكم شهر التقوى، فحققوها فيه تفلحوا، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
أيها الناس: مع امتداد فجر هذا اليوم الأغر من هذا الشهر الأزهر نحمد الله -تعالى- حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبه ربنا ويرضى، نحمده -عز وجل- على أن بلغنا هذا الشهر الفضيل ونحن في صحة وإقامة، وجعلنا ممن هل عليهم هلاله وشملتهم ظلاله؛ فكم قد حُرِم هذا الخير ناس بين ميت فارق الحياة إلى قبره، ومريض حبسه مرضه، وحي يعيش بجسد ميت ترك الصيام لغلبة شره، فالحمد لله على فضله ومنته؛ فاللهم أدم علينا نعمك وأسبغ علينا فضلك.
أيها الصائمون: لقد أقبل علينا رمضان يحمل معه الجوع والظمأ، والتعب والنصب، ولكنه جوع تشبع معه الروح وتروى، وعناء تستريح فيه وتقوى.
لقد جاء رمضان لتورق فيه شجر الطاعة، وتذبل فيه أشجار المعصية، أتى رمضان ليستمتع المؤمن بجنة من جنات الدنيا، يشتم فيها نسائم التلاوة العذبة، ويذوق فيها حلاوة الصيام الماتع، ويتلذذ بطول القيام الخاشع بين يدي الرب الكريم.
حل رمضان على الأمة ليفتح للعاصي صفحة بيضاء من صفحات الأيام؛ ليتوب فيها بعد أن سوّد صفحات العام.
نزل رمضان ضيفًا كريمًا على -عباد الله- ليتزود المتقون، ويقبل الشاردون، ويكثر التالون والعابدون، والقائمون والمتصدقون، وينتصر الصادقون على الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء.
هكذا هلَ رمضان ليربط الماضي بالحاضر؛ فالصوم عبادة قديمة في الأمم الماضية، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر تفتح فيه أبواب الجنان لكثرة الداخلين، وتغلق فيه أبواب النار لقلة الوالجين، وتصفد فيه الشياطين لقلة الغاوين.
شهر تفضل الله فيه على عباده بليلةٍ العبادةُ فيها خير من العبادة في ألف شهر، وهذه الليلة هي ليلة القدر.
شهر شرف بالصيام الذي يقي صاحبه النار والشهوات، ويسوق خطاه إلى أعلى الدرجات في الجنات، ويشفع له عند لقاء ربه، ويكفر عنه ذنبه، ويسعده في دنياه وأخراه.
عباد الله: فلا عجب -بعد هذا- إذا شُرِع الاستبشار والتبشير بقدوم هذا الضيف الكريم، فرسولنا العظيم - عليه الصلاة والسلام - كان يبشر أصحابه بمجيئه - كما روي عنه - أنه قال: "أتاكم رمضان شهر بركة يغنيكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته؛ فأروا الله من أنفسكم خيرا؛ فإن الشقي من حُرِم فيه رحمة الله -عز وجل-".
فماذا أنت فاعل فيه -يا عبد الله-؟ وما الخير الذي قد نويته واستعديت له؟ وما أبواب الخير التي ستجلبها، وأبواب الشر التي ستوصدها؟ أم أن الشهور كلها عندك سواء، وعملك في جميع السنة لا يختلف؟!
تذكر أن رمضان فرصة قد لا تعود، وغنيمة قد لا ترجع، وعمرُ خيرٍ قد يذهب ولن تلقاه بعد رحيله.
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولًا وفعلًا *** وزادك فاتخذ للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوه نادمًا يوم الحصاد
أيها الصائمون: إن الصوم عبادة من العبادات التي شرعها الله تعالى لغايات حميدة، وأسرار في الخير بعيدة، علم ذلك من علم وجهله من جهل؛ فالصيام سبيل إلى تحصيل التقوى، وتربية النفس على الإخلاص والمراقبة للمولى، وهو طريق إلى تخلي القلب للفكر، واللسان للذكر، وسائر الجوارح للمسابقة إلى الخيرات في جميع الأوقات، والصيام يعرف الغني قدر نعمة الله عليه بالغنى، والصيام يعين على ضبط النفس والسيطرة عليها والحد من كبريائها وانفلاتها.
والصيام يربي المسلم على الإيثار ورحمة المحتاجين، والصبر على إساءة المسيئين، والصبر على طاعة الله ومُر قضائه، ويذكر الصائم بأنه عبد لله -تعالى- مستسلم لأمره وحكمه.
وهذه العبادة العظيمة تزرع في نفس المسلم التطلع إلى الدار الآخرة حينما يجوع ويظمأ ويحرم من الشهوات ويعاني النصب والتعب، فيتذكر ما يلاقيه أهل النار من ذلك، فيبحث لنفسه عن منجاة وخلاص.
أيها المسلمون: إن الصيام من العبادات العامة التي جعلت بعض المسلمين يؤديها عادة وجريًا مع الجمع الصائم مكتفيًا بظاهرها دون التأمل في معانيها والأهداف التي شرع لأجلها.
فالمسلمون يصومون رمضان كل عام، لكن بعضهم اقتصر على الإمساك عن الطعام والشراب والمعاشرة الزوجية فحسب، وظن أن الصيام هو ذاك فقط، والحق أن الصيام أعمق من ذلك، وأوسع مما ظن وتصور.
إن الصوم الشرعي -معشر الصائمين- ليس هو الامتناع عن تلك المفطرات وحدها، بل هو إمساك عن جميع ما لا يرضي الله -عز وجل- من المعاصي صغيرها وكبيرها.
فالصوم الكامل أن تصوم جميع الجوارح عن المساخط والرذائل، فاللسان يصوم عن قول الزور والباطل، والسوء والفحش، والبذاء والتعدي على الآخرين بالطعن والثلب ونحو ذلك من سقط الكلام وعيبه.
والصوم الصحيح أن تصوم العينان عن النظر إلى الحرام من الأعراض الممنوعة والعورات المستورة.
والصوم التام أن تصوم الأذنان عن سماع اللهو والخنا، والنم والتعييب للخلق.
والصيام النافع أن تصوم الرجلان عن الخطوات إلى الحرمات والثبات على العثرات.
والصوم الناجح أن يصوم القلب والعقل والنفس كلها عما لا ينبغي دينًا وخلقًا.
هذا هو صيام العبادة، أما أهل صوم العادة؛ فإنهم يطلقون لجوارحهم العنان في رمضان لترتع؛ حيث شاءت مما تعودت عليه، أو وما استُحدث لها في شهر الصيام من المكروهات؛ فأصبحوا يسمعون ويشاهدون ويبطشون ويسعون إلى منازل الشر عن علم أوعن جهل؛ ففي رمضان قد يُرى بعض صوّام العادة صائمًا ولا يصلي، أو يصلي بعض الفروض ويترك بعضها الآخر، وفي النهار يقضي نهاره بالنوم، وفي الليل يقدح زناد اللهو؛ لينطلق في ليالي الغفلة إلى عكوف أمام قنوات تخدش حياءه وتجرح صومه، وتذهب عنه أثر عبادة الصيام إن أثمرت فيه شيئًا.
ومنهم من يجعل رمضان شهرًا للغضب وضيق الخُلق؛ فيخرج منه السب والشتم والجواب غير اللائق بالمسلم وذي الخلق الكريم.
ومنهم من يجعل رمضان فرصة للكسل والإكثار من المأكولات والمشروبات.
ومن النساء من تجعل رمضان دورة مكثفة للتفنن في إعداد الأطعمة والأشربة المختلفة، وتظل حبيسة مطبخها مفوتة على نفسها فضائل رمضان.
ما بهذا -يا عباد الله- أُمر الصائم، وما لهذا شرع الصيام!
إن الصيام -معشر الصوّام الكرام- امتثال قولي وفعلي لما يأمر به الهدى والخير، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقول الزور هو: كل قول وفعل يغضب الله -تعالى-، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ليس الصيام من الأكل و الشرب، إنما الصيام من اللغو و الرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فلتقل: إني صائم إني صائم".
وقال جابر -رضي الله عنه-: "إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك و لسانك عن الكذب و المحارم، و ليكن عليك وقار و سكينة يوم صيامك، و لا تجعل يوم فطرك و صومك سوءا".
إذا لم يكن في السمع مني تصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذًا من صومي الجوع والظمأ *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
أيها الصائم: هذه مائدة رمضان مدت أمامك؛ فلا تحرم نفسك الصيام المقبول، والفوز بنيل المأمول، ولا تضيع وقت رمضان النفيس في اللهو واللعب، والغفلة وكثرة العبث؛ فالمفلح من انتهز الفرص وبادر العمل قبل مفاجأة الأجل، وتهيأ بالزاد الذي ينجيه يوم المعاد، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة: 197].
رزقني الله وإياكم المسارعة إلى الخيرات، والكفَّ عن المنكرات والخطيئات.
قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الفضل والمنة، العليم بما تخفي الأجنة، وما تستر الأكنة، جعل الصوم جُنة، وسبيلًا إلى الجنة، أنزل القرآن هدى للإنس والجنة، فاستنارت به العقول، ولانت به القلوب، وغدت النفوس به مطمئنة، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، وسلم تسليما، أما بعد:
أيها الصائمون الأفاضل: الصيام عبادة من العبادات التي تحتاج إلى معرفة أحكامها؛ حتى يؤديها المسلم كما ورد في الشرع الحنيف، وهذا من العلم الذي قد تتعين معرفته وعدم جهله على كل مسلم يجب عليه الصيام؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما زاد على الواجب؛ فهو من الخير الذي ينبغي الحرص عليه.
عباد الله: لا يجوز للمسلم المكلف أن يستقبل رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا إذا كان معتادًا للصيام فوافق ذلك كذلك، كأن يكون ممن يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم يومًا ويفطر يومًا، فلا حرج عند ذلك في الصيام إن صام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه".
ومن الأحكام: أن رمضان يثبت دخوله برؤية هلاله، فإن لم يُر الهلال فتكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ".
ومن الأحكام: أن من وجب عليه صيام رمضان فعليه أن ينوي صومه قبل مجيئ فجر أول يوم منه، فينوي بقلبه أنه إذا كان الغد من رمضان فإنه صائم، فإن أصبح ولم ينو لم يصح صومه ذلك اليوم، وعليه القضاء، فعن حفصة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
أيها المسلمون: يجب صيام رمضان على المسلم البالغ العاقل الصحيح المقيم والمرأة النقية من الحيض والنفاس، ولا يجب الصيام على كافر حتى يسلم، ولا على مجنون حتى يعقل، ولا على صبي حتى يبلغ، لكن لو صام صح منه وأجر عليه وينبغي أن يشجع على ذلك كما كان بعض الصحابة يصومون صبيانهم ليتدربوا على هذه العبادة، ولا يجب على مريض يؤثر عليه الصوم حتى يصح، ولا على مسافر سفرًا تقصر فيه الصلاة حتى يقيم؛ فلو صام صح منه، ولا يجوز للحائض والنفساء أن تصوما حتى تطهرا.
عباد الله: على المسلم أن يعلم أن الصيام يبطل بالأكل والشرب وما في معناهما مما يقوم مقام الطعام والشراب كالإبر المغذية، ويبطله أيضًا الجماع والاستمناء في نهار الصوم، والتقيؤ عمدا، ونزول دم الحيض أو النفاس من المرأة، أما دم الاستحاضة فلا يفطر المرأة ويجب عليها الصيام معه متى ما علمت أنه دم استحاضة لا حيض، ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه وليس عليه شيء، ومن اغتسل أو اكتحل أو شم الطيب أو بلع الريق أ ورعف في نهار الصوم فصومه صحيح.
نسأل الله أن يعيننا على صيام رمضان وقيامه والظفر بخيراته وفضائله.
هذا وصلوا وسلموا على الهادي البشير...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم