عناصر الخطبة
1/فضل التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة 2/بلية إهدار الحسنات 3/خوف السلف من أهدار أجور أعمالهم 4/عوامل إهدار الحسنات 5/وسائل المحافظة على الحسنات وتنميتها 6/إهدار الحسنات بالخوض في دماء المسلمين الناس وأعراضهم وأموالهم 7/الحال المأسوية لمن أهدر حسناته يوم القيامةاقتباس
إن أعظم البلية: أن يذهب أجر صلاتك التي صليتها، وصيامك الذي صمته، وقيامك الذي قمته، وزكاتك التي بذلتها!. إن أعظم البلية: أن ينطبق في وفيك: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23]. يظن الظان: أنه صاحب طاعات، وصاحب خيرات، كلما نظر نظر إلى الحسنة التي قدمها، لكن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -جل وعلا- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حقيقة التقوى، وتمسكوا بالعروة الوثقى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102] بالتمسك بدينه، والاعتصام بكتابه، والتقيد بمنهجه، والاعتماد على شرعه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2-3].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: ما أروع ذلكم المسلم الذي أنفق كل ما يملك، لكي يملك جنة عرضها السماوات والأرض!.
ما أروع ذلكم المسلم الذي يتقرب إلى الله -تعالى- في الليل والنهار، وفي العشي والإبكار؛ لكي يجمع الحسنات! لكي ينال أرفع الدرجات! وتغفر له الزلات! وتقال عنه العثرات! وتمحى عنه الخطيئات! ويرفعه الله -جل وعلا- في الجنات!.
ما أروع ذلكم المسلم الصائم القائم الذي أطاع الله -جل وعلا-، وتقرب إلى خالقه، أراد أن ينال ما عند الله، وأراد أن الله -جل وعلا- يجعله من صفوة الطائعين، وصفوة العابدين، ويجعله ممن اجتباهم وانتقاهم، واصطفاهم واختارهم.
ما أروع ذلكم المسلم الذي هو في رمضان وفي غير رمضان يتقرب إلى الله -تعالى-! كم أنفق من الوقت والمال! وأنفق من الجهد! وأنفق من العمل! وأنفق من كل شيء! كل ذلك من أجل حالة قال الله عنها: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طـه: 84].
ما أروع مسارعته في الخيرات، وإنفاقه للدنانير والأموال في الصدقات، وإنفاقه من جهده وطاقته في الطاعات، يتقرب إلى الله -تعالى- في كل حين، ويتعامل مع الطاعات بتنوعها وأشكالها.
ما أروع ذلكم المسلم الذي كلما تعب بدنه استشعر الأجر والثواب، وكلما قام الليل، وصام النهار، وفطر الصائمين، وقدم لربه الطاعات، أراد أن يرتفع مقامه عند الله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) [آل عمران: 31].
فإنه أراد أعالي درجات المحبة، لكي ينالها من خالقه، ويأخذ سبيلها من ربه.
اللهم إنا نسألك يا سميع الدعوات، ويا قاضي الحاجات أن تجعلنا من أولئك الطائعين والطائعات، وأن تتقبل منا الأعمال الصالحة، وأن تختم لنا بالصالحات.
أيها المسلمون: حديثي اليوم عن تلك الحسنات: ما الذي بددها؟ وتلك الطاعات ما الذي أكلها؟ وتلك الخيرات: أين ذهب أثرها؟
دعونا اليوم نعظ أنفسنا بموعظة، هي من أهم مواعظ الحياة!.
دعوانا -أيها المسلمون-: نتكلم عن واقع الطاعات والقربات: لماذا يذهب أجرها؟ ولماذا لا نرى أثرها علينا في حياتنا؟
وربما نخشى من لحظة: أن يفقدنا الله -جل وعلا- ثوابها يوم القيامة، قال الله –عز وجل: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 103-104].
إن أعظم البلية يوم أن تأكل حسناتك وأنت تعلم!.
إن أعظم البلية: أن يذهب أجر صلاتك التي صليتها، وصيامك الذي صمته، وقيامك الذي قمته، وزكاتك التي بذلتها!.
إن أعظم البلية: أن ينطبق في وفيك: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23].
يظن الظان: أنه صاحب طاعات، وصاحب خيرات، كلما نظر نظر إلى الحسنة التي قدمها، لكن الشيطان أعماه عن الخطيئة التي فعلها!.
كلما رأى صدقة تصدق بها، أو صلاة صلاها، أو عبادة فعلها؛ نظر إليها، وما نظر إلى الخطيئة التي هدمتها!.
لقد بكى الفاروق عمر -رضي الله عنه وأرضاه-، وهو يقرأ قول الله -تعالى-: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)[الغاشية: 1-4].
يوم أن تصلى نارا حامية، وهي كانت من الوجوه والأنفس الخاشعة!
ما الذي أكل الخشوع بنار حامية؟!
ومن الذي أكل تلك الدمعات التي بذلت لرب الأرض والسماوات بنار حامية؟!
ما الذي جعل تلك الحسنات تزول، ويذهب خيرها؟! تلك الطاعات ما الذي بددها؟! وما الذي قتلها؟!
أما تقرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينتابك شعور عجيب، عندما يقول عليه الصلاة والسلام: "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ".
يوم أن تذهب أثر هذه الحسنات! ما الذي أذهبها؟! وما الذي بدد خيرها؟ ما الذي جعل تلك الحسنات لا نرى أثر بركتها في حياتك؟! ولا نرى أثر بركتها في أمورنا؟! نرى أحوالنا ونرى أمورنا فما الذي بدد تلك الحسنات؟!
أيها المسلمون: إن العبد المؤمن كلما تقرب إلى الله -تعالى-، كلما تقرب إلى مولاه واستشعر: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
فلماذا لم يتحقق لنا ذلك؟
والناظر اليوم لا بد أن يعلم يقينا: كيف يمكن أن نحافظ على الحسنات؟!
يقول أحد السلف -رحمه الله-: "لو كنت مهديا حسنة -أي بغيبة- لأهديتها أمي، فهي أولى بالحسنات!".
فكيف بحال اليوم من يحرق حسناته وهو لا يعلم؟!.
اليوم ربما نصاب بمرض، وهو حرق الحسنات! وحرق أثرها! وعدم وجود خيرها! وعدم وجود أثرها!.
أعظم البلية -عباد الله-: كما قال الحسن: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".
يوم أن يبتلى ببلية الخطيئة، ونحن نرى هذه المساجد التي تمتلئ بكثرة المصلين، وكثرة الصائمين، وكثرة العابدين، وكثرة المقبلين، ما أروع هذه الأيام! وأنت ترى الناس كيف يحافظون ويكثرون من الحسنات!.
لكن على الطرف الآخر: يوم أن ترى من لم يعظم شأن حسناته! وكيف يحافظ عليها!.
كان السلف يبكون إذا قرؤوا قول الله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].
يوم أن تقسم الأمور والأحوال والأعمار في ليلة القدر، ثم لا يكون اسمي ولا اسمك من أولئك! ما الذي حجب عنا هذا؟
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) [الدخان: 3].
وقال الله عنها: (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)[الدخان: 4-5].
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 1-5].
يوم أن نحجب عن قضائها! ونمنع من خيرها!.
إن أعظم البلية: أن ينال الإنسان اللعن وهو لا يعلم، قال الله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22].
ثم قال الله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)[محمد: 23].
يوم أن ابتلينا بما يأكل حسناتنا وطاعاتنا وقرباتنا! فإنها من أعظم البلية.
ألا فلنتق الله -أيها المؤمنون-: ولنجعلها بداية انطلاقة للحسنات، ولا نكن مما قال الله فيهم: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل: 92].
قصة هذه المرأة؛ كما في تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه" فقال الله: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا)[النحل: 92].
إن هذا الغزل الذي نقضته من الطاعات! كم آية قرأتها؟! وصلاة صليتها؟! وزكاة أديتها؟! وبرا فعلته؟! وخيرا عملته؟! أما تخشى أن تكون ممن نقضت غزله؟! وأحبطت عمله؟! فلا بارك الله فيه! ولا بارك الله في أثره! ولا بارك الله في أجره!.
ألا فاعلموا -عباد الله-: أننا ينبغي علينا أن نتواصى بالصبر، ونتواصى بالمرحمة، وأن نتواصى بالصبر، ونتواصى بالحق، ونكون بعضنا لبعض دعاة خير، حتى يسعى بعضنا لكي يحافظ على طاعته، وعلى قرباته، وعلى خيراته، وعلى جميع أموره -بإذن الله تعالى-.
وإذا حقق العبد الإخلاص صان الله -جل وعلا- طاعاته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن الخطاب موصيا إياه، ولكل الأمة؛ كما عند البخاري: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
فيوم أن تنوي الخير، وتخلص في الخير، وتقصد الخير، قال الله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)[البقرة: 112].
أي مخلصا صادقا عابدا، ولا تكن ممن قال الله -جل وعلا- فيهم: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 1-2].
قال الفضيل بن عياض -عليه رحمة الله تعالى-: "أحسن عملاً أي أخلصه وأصوبه" قيل: ما أخلصه وما أصوبه؟! قال: "أخلصه ما كان خالصا لله وأصوبه ما كان على السنة".
أن تكثر الأعمال! وتكثر الطاعات! على غير سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون: يوم أن يوضع الكتاب، ويوضع الميزان، فيعرف كل إنسان منا ما قدم وما أخر، فكل أولئك النفر الذين إذا وقفوا؛ كما قال أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه-: إذا وقفوا بين يدي الله يوم القيامة للجزاء والحساب، قال أبو ذر: يقول أحدهم -أي الطائع العابد الصادق المخلص مهما كان عنده من خطيئة، مهما كان عنده من معصية، فإنما يقف بين يدي الله، ويقول: ربي إن لي حسنة لا أراها اليوم، فيقول الله -جل وعلا- للملائكة انظروا في سجل عبدي، فإذا بهم يرون له رصيدا من الحسنات، فتطيش سجلات الخير، وعلامات الإيمان، فيرفعه الله -جل وعلا-!.
صاحب السيئة، صاحب خبيئة السوء!.
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
فابدأ الطريق، ولا تحقرن الصغيرة، ولا تقل هذا ذنب صغير، فإن النار من مستصغر الشرر! احذرها: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرفعنا والحاضرين الدرجات، وأن يقينا شر النيران والحسرات، وأن يغفر لنا الزلات، ويعاملنا برحمته، يا رب الأرض والسماوات.
أقول قولي هذا-يا عباد الله-: وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، فأنار الله به القلوب، وشرح الله -جل وعلا- به الصدور، ورضي الله -تعالى- عن آله الكرام، وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: فقد روى الإمام مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- فقال لهم: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم ولا دينار عنده، قال صلى الله عليه وسلم: "المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة، ثم يجعلها الله هباءً منثوراً!".
يأتي بصلاة! بصيام! بطاعات! بخيرات! لكن عنده ما يهدم هذه الحسنات: "وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته".
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا فنيت حسناته؛ أخذ من سيئاتهم، ثم طرحت عليه!".
ما أعظم هذه اللحظة! تخيل يوم أن يوضع لك في رصيدك سيئات أنت ما فعلتها بحياتك! تخيل أي معصية من المعاصي! وأي ذنب من الذنوب! سوف يأتي يوم القيامة! فيأتي النداء: خذوا من سيئات هذا وضعوها على هذا! لأن الحسنات فنيت! أخذت الحسنات: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23].
تخيل هذه اللحظة يوم القيامة! أين صدقتك؟! أين عبادتك؟! أين طاعتك؟! لم يسلم منك من غيبة! ولم يسلم فلانا منك من نميمة! ولم يسلم فلانا منك من طعن! ولم يسلم! ولم يسلم!.
إنه لن ينظر إلى كثرة حسناتك، إنما ينظر إلى ذنوبك! تلك الذنوب لم تتب منها! ولم تستغفر الله منها! ولم تسأل الله أن يعفو عنك! ويتجاوز عنك!.
ولذلك ما أعظم أن تجد سيئات وخطيئات! فتكون مفاجأة تلك اللحظة التي غفلت عنها!.
صليت مع الناس القيام! لكن بعد الصلاة ما تركت فلانا! وفلانا!.
صمت رمضان! لكنك لم تستشعر أن يكون هذا العمل حافظت عليه! فعلا تصدقت! لكن صدقتك كانت بالمن والأذى! فعلا دعوت واعتمرت وحججت لكن تلك الأعمال لم تدافع عنك! فإن حسناتك تلك التي تعبت فيها كلها قد أخذت منك كلها! وأعطيت لفلان! فلان هذا الذي تراه أنه عاص! هو الذي أصبح رصيد حسناته أكثر منك! أصبحت من المفلسين!.
تخيل أنك تريد أن تشتري شيئا من الدنيا! ولا تمتلك المال! لكي تشتري هذا الشيء! ما هو الشعور الذي عندك؟!
تخيل أنت أن ولدك يريد أن يشتري شيئا! وليس عندك مال! لكي تشتري له! ولو من أبسط الأشياء! ما هو شعورك؟! فكيف وليس عندك رصيد أن تشتري في الآخرة؟!
يوم أن تدخل بطاقة الصراف، فيقول لك صاحب البنك والنظام: "الرصيد لا يكفي!".
تخيل يوم أن تدخل البطاقة! والجمهور أمامك! وأنت تريد أن تسحب لتدفع شيئا! اشتريت بمبلغ بسيط! فيقول لك: "المعاملة مرفوضة! والرصيد لا يكفي!".
إذا كنت تحرج من أجل المال! فكيف يكون موقفك يوم القيامة؟!
تظن أن عندك رصيدا! وإذا بالرصيد قد سحب منك! أخذ منك! خصم منك! فيا لهذه البلية تلك اللحظة! (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس: 34-36].
قال الله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 37].
فيا ترى ما هو حالك يوم أن ينشغل الناس بالحسنات! وينظرون في الطاعات! وأنت تكون مشغولا بسؤال الله مغفرة الزلات! وإقالة العثرات! وأن تطلب في تلك اللحظة رحمة الله التي لم تستعد لها!.
فكن -أيها المسلم-: من الطائعين، تقرب إلى الله، تقرب إلى الله! فلعلك لا تحضر معنا الجمعة القادمة!.
اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم