بركات شهر رمضان ورسائل بشأن الأسرى والمسرى

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ.

الحمدُ لله إذ لم يأتني أجَلي *** حتى اكتسيتُ من الإسلام سربالَا

الحمد لله الذي اختار شهر رمضان المبارَك سيد الشهور، أفاض فيه الخير والنور، يعيش فيه المسلمون ويصومون بسَعة وحبور، إنَّه -سبحانه وتعالى- يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويُغيث المكروبَ، وهو علَّام الغيوب، لقد عمَّ فضلُه الأكوانَ، وأنعَم علينا بنِعَم كثيرة على الإنسان، إنَّه يقبل التوبة، ويُنزِل رحمتَه على المؤمنين، في كل زمان ومكان.

إلهي على صراطك قد يممتُ إقبالي، فأنت مولاي في حلي وترحالي، ربِّ بغيركَ ما أشركتُ في نُسُكي، ولا كفرتُ بأقوالي وأفعالي، آمنتُ أنكَ ربي واحدٌ أحدُ، عليك معقودة في العفو آمالي.

ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، فرَض علينا الصيامَ تقوى للقلوب، وتهذيبًا للنفوس، بقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].

ونشهد أن سيدنا وحبيبنا، وقائدنا وشفيعنا محمدًا، عبد الله ونبيه ورسوله، الصادق الأمين، إمام الأنبياء والمرسَلينَ، الذي شرَح اللهُ صدرَه، ووضَع عنه وِزرَه، ورفَع له ذِكرَه، فكان عليه الصلاة والسلام مُجِدًّا وأكثرَ ما يكون في رمضان، وكان كريمًا وأكثر ما يكون في رمضان، القائل: "مَنْ صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذنبِه"، صلى الله عليك يا حبيبي يا رسول الله.

ونحن في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس نصلي عليك، وعلى آلك الطاهرين المبجَّلين، وصحابتك الغُرّ الميامين المحجَّلين، ومن تبعكم وجاهَد جهادكم من العلماء العاملين إلى يوم الدين.

أيها المصلون: بعد أيام قلائل نستقبل ضيفًا عزيزًا على قلب كل مؤمن؛ إنَّه شهر الخيرات والبركات، شهر القُرُبات والعبادات والاعتكافات، شهر الإنجازات والعزة والانتصارات، شهر التوبة والرحمات، إنَّه شهر رمضان المبارَك، فيقول -عليه الصلاة والسلام- بحقه: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبوابُ الجنةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ"، وفي رواية: "صُفِّدَتِ الشياطينُ" والمعنى واحد، والحكمة من ذلك -أيها المصلون- حتى يكون للناس حافزٌ للإقبال على الله -سبحانه وتعالى-، وأَنْ يكونَ باب التوبة النصوح مفتوحًا على مِصراعَيْه ينتظر التائبينَ المستغفرينَ.

لا سلطانَ ولا تأثيرَ لشياطين الجِنِّ على الإنسان؛ فالصوم عبادة مميَّزة لأنَّها خفية، لا يعلم حقيقتَها إلا اللهُ -عز وجل-، فهل من تائب ليتوب الله عليه؟ هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخِرُه عتقٌ من النار، اللهم يا الله، يا ذا العرش المجيد، ارحمنا برحمتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم أَعتِقْنا وإيَّاكم من النار، قولوا: آمين.

أيها المصلون، أيها المسلمون، أيها الأقصاويون، من البحر إلى النهر: في هذا المجال نحذركم، نعم نحذركم من تصرفات شياطين الإنس، فإن الله -عز وجل- قد ربط شياطين الجن بالسلاسل، إلا أن شياطين الإنس غير مربوطين؛ فهم يعيشون بيننا، إنهم يُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون؛ إنهم سماسرة الأرض، نعم سماسرة الأرض الذين يُسرِّبونَ البيوتَ، إنهم قد فارَقوا جماعةَ المسلمين، ومرَقُوا من الدين، لقد أشار إليهم القرآن الكريم بوجوب مقاطعتهم مدنيًّا، لا كلام معهم، لا بيع ولا شراء معهم، لا تَزاوُجَ معهم، بالإضافة إلى الفتوى الشرعيَّة التي صدرت عامَ (1935م) عن علماء المسلمينَ، بالاستناد إلى الآيات الكريمة، والأحاديث النبويَّة الشريفة والتي بمقتضاها فإن البائع أو السمسار لا يُغسَّل ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا توبةَ له.

أيها المصلون، أيها المسلمون: ومن شياطين الإنس أيضًا أولئك القتلة الذين يقومون بجريمة القتل العَمْد، والذين يُفسِدون في الأرض، ويُشِيعون الخوفَ والرعبَ بين الناس، إنهم لا توبة لهم أيضًا، فالله -سبحانه وتعالى- يقول بحقهم في سورة النساء: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 93]، فقد سئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن المصير الأخروي للقاتل العمد: هل له توبة؟ فتلا هذه الآية الكريمة وقال: أني له توبة؟ أي: ليس للقاتل العمد توبة. هذه هي فتوى عبد الله بن عباس، الملقب بترجمان القرآن، وقد دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل، وارزقه اليقين".

أيها المصلون، أيها المرابطون، أيتها المرابطات، وكلنا مرابطون: توبوا إلى الله توبةً نصوحًا، لقوله -سبحانه وتعالى- في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التَّحْرِيمِ: 8]، والمعلوم أن التوبة النصوح لها شروط؛ الشرط الأول: أن يقلع المسلم عن المعصية؛ أي: أن يتركها. والشرط الثاني: أن يندم على فعلته. والشرط الثالث: أن يعاهد الله -عز وجل- ألا يعود إليها مرة أخرى. والشرط الرابع والأخير: أن يعيد الحقوق إلى أصحابها، إن كان معتديا على الحقوق؛ لأن حقوق العباد لا تسقط.

أيها المصلون، يا أحباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هيِّئُوا أنفسَكم لاستقبال الشهر الفضيل، فأحسِنوا صيامَه وصلاتَه وقيامَه، وضاعِفُوا فيه العبادةَ والطاعةَ، واحفظوا ألسنتَكم من اللغو وفحش الكلام، وتجنبوا الخوض في أعراض الناس في رمضان وفي غير رمضان أيضًا. هذا ونُحيِّي أصحاب المقاهي والمطاعم الذين قرروا إغلاق محلاتهم في نهار رمضان، وأخيرًا وليس آخرًا نُذكِّر الموسرينَ والمقتدرينَ ماليًّا بإخراج زكاة أموالهم؛ فالزكاة مفروضة عليهم وهي حق للفقراء، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

جاء في الحديث النبوي الشريف: "عينانِ لا تمسُّهما النارُ: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تَحرُس في سبيل الله" صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمينَ، والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله سيدنا محمد، كما صليتَ على سيدنا إبراهيم وعلى آله سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آله سيدنا إبراهيم، في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.

أيها المصلون: رغمَ أنَّ الرسائل كثيرة وكثيرة، إلا أنَّه لا أستطيع إلَّا أن أتناول أربعة رسائل فقط بإيجاز:

الرسالة الأولى: بشأن إضراب المعلِّمين، التابعين للسُّلطة الفلسطينية، وذلك منذ تاريخ (5/2/2023)وحتى الآن، فهل يعقل هذا؟ اثنان وأربعون يومًا ومئات الآلاف من الطلاب يتسكعون في الشوارع والحارات؟ فأين الميزانيات؟! وهل يعيش أي مجتمع إنساني بدون تعليم؟! وعليه: فإنَّنا باسم أولياء أمور الطلاب نطالب ونطالب السلطة الفلسطينية في رام الله بحل أزمة الإضراب في أقرب فرصة؛ وذلك بتنفيذ مطالب المعلِّمينَ الإنسانيَّة، وليس بمعاقبتهم وسجنهم، ونحن منتظرون.

أيها المصلون: الرسالة الثانية بشأن التضامُن مع الأسرى الأبطال، الذين يُطالِبون بالحد الأدنى من أساسات الحياة الإنسانيَّة المعيشيَّة، وهذا واجبٌ على سلطات الاحتلال، بالمحافَظة على حياة الأسرى إلى أن يتم الإفراج عنهم قريبًا إن شاء الله، قولوا: إن شاء الله، وأن الأسرى يرفضون الأحكام الإداريَّة الظالمة، التي وضعتها بريطانيا أثناءَ استعمارها لفلسطين، ونستنكِر أساليبَ القمع التي يستخدمها الاحتلالُ بحق الأسرى؛ فأسرانا أصحاب شهامة وعزة وكرامة.

أيها المصلون: الرسالة الثالثة بشأن ما يُعرَف بالتهدئة، التهدئة التي يتغنون بها، إن الذي يطالب بالتهدئة لا يفسح المجال للمستوطنين للقيام بأعمال عدوانية وحشية في المدن والقرى الفلسطينية، كما حدث في بلدة حوارة، على مرأى ومسمع جيش الاحتلال، وعلى مرأى ومسمع العالم كله، إن الذي يطالب بالتهدئة لا يسمح للمقتحمين للأقصى بالعربدة وبتصرفات استفزازية، وتحد لشعور المسلمين، إن التهدئة تكون المستوطنين، وبلجم المقتحمين للأقصى، ونحن إذ نستقبل شهر رمضان المبارَك فإن الصائمين حريصون كل الحرص على الأقصى، ويرفضون أي إعاقة أو أي إزعاج في عباداتهم وصلواتهم واعتكافاتهم.

أيها المصلون: الرسالة الرابعة والأخيرة بشأن المسجد الأقصى المبارَك، وكما عودناكم، والتهديدات تتصاعد بحقه، وبخاصة في شهر رمضان المبارَك، شهر الصوم والعبادة والتراويح والاعتكاف، فنؤكد على حق المسلمين الشرعي والإلهي بذلك، ونحمل سلطات الاحتلال المسؤوليَّة عن أي توتر أو أي مس بحرمة الأقصى المبارَك، نعم إنَّه الأقصى الذي يرتبط بعقيدة وإيمان ملياري مسلم في العالم؛ لذا لا يخضع الأقصى لمشاورات، ولا لمفاوضات، ولا لتنسيقات، ولا لتنازلات، ولا لمساومات، إنَّه الأقصى أَسْمَى من ذلك كله، مسرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يسعنا إلا أن نقول: حماكَ اللهُ يا أقصى. قولوا: آمين.

أيها المصلون: الساعةُ ساعةُ استجابةٍ، فأمِّنوا مِنْ بَعديّ: اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وفَرِّج الكربَ عنَّا، اللهم احمِ المسجدَ الأقصى من كل سوء، اللهم أعنا على إحياء شهر رمضان، بالعبادة والطاعة والتقوى، اللهم تقبل صلاتنا، وقيامنا وصومنا، وصالح أعمالنا، اللهم ألهمنا عمل الخير وخير العمل.

اللهم تقبل صلاتنا وقيامنا وصيامنا وصالح أعمالنا، اللهم يا الله يا أمل الحائرين، ويا نصير المستضعَفين، ندعوك بكل اليقين، إعلاء شأن المسلمين بالنصر والعز والتمكين، اللهم ارحم شهداءنا، وشافِ جرحانا، وأطلِق سراحَ أسرانا.

اللهم احقن دماء المسلمين ووفقهم للعمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله، اللهم إنا نسألك توبة نصوحًا، توبة قبل الممات، وراحة عن الممات، ورحمة ومغفرة بعد الممات، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

وأَقِمِ الصلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].