عناصر الخطبة
1/ عِظَمُ ذنب المجاهرة بالمعصية 2/ دلالات المجاهَرة بالمعصية 3/ من صور المجاهرة بالمعصية 4/ استحالة المجاهرة بالمعصية إلى أخطر أمراض المجتمع 5/ الآثار الكارثية لذلك المرض 6/ كيفية الأخذ على يد السفهاء المجاهرين بالمعاصياقتباس
هذه الفئة ترتكب ذنبًا، لكنه ليس ذنبًا كبقية الذنوب؛ لأنه ذنب فوق ذنب! نعم، هو ذنب فوق ذنب, فهو ذنب مُرَكَّب. ركِب إبليس على رقابهم, واستعملهم أبواقًا لنشر المعاصي والسيئات, (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:19]. هل عرفتم مَنْ هم؟ إنهم: المجاهرون بالمعاصي.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيزِ الغفار، القهارِ الذي لا تخفى معرفته على من نظر في بدائع مملكته بعين الاعتبار، القدوسِ الصمد المتعالي عن مشابهة الأغيار، الكبيرِ الذي تحيرت العقول في وصف كبريائه فلا تحيط به الأفكار، الحيِّ العليمِ الذي تساوى في علمه الجهر والإسرار، السميعِ البصيرِ (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103].
وأشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ما في الوجود سواك رب يعبدُ *** كلا ولا مولى سواك فيُقصَد
يا من له عَنَتِ الوجوه بأَسرِها *** ذُلاً وكُلُّ الكائنات تُوحِدُ
أنت الإله الواحد الفرد الذي *** كُلُّ القلوب له تُقرُّ وتَشهدُ
يا من تفرد بالبهاء وبالسنا *** في عِزِّه وله البقاءُ السرمدُ
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
إن الصلاة على المختار إن ذُكرِت *** في مجلس فاح منه الطيب إذ نَفَحا
محمدٌ أحمدُ المختار من مُضَرٍ *** أزكى الخلائق جمعًا أفصحُ الفُصحا
صلى عليه إله العرش ثم على*** أهليه والصَحبِ نِعمَ السادةِ النُصَحَا
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: حديثنا اليوم بإذن الله -تعالى- عن فئة من المسلمين, هذه الفئة تذهب إلى البلاء بأقدامها, وتولَدُ صحيحةً معافاةً وتفرُّ من العافيةِ فرارًا.
هذه الفئة ترتكب ذنبًا، لكنه ليس ذنبًا كبقية الذنوب؛ لأنه ذنب فوق ذنب! نعم، هو ذنب فوق ذنب, فهو ذنب مُرَكَّب. ركِب إبليس على رقابهم, واستعملهم أبواقًا لنشر المعاصي والسيئات, (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:19]. هل عرفتم مَنْ هم؟ إنهم: المجاهرون بالمعاصي.
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ".
قال ابن حجر: والمجاهِر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستَر الله عليه، فيُحدِّثُ بها، أما (المجاهرون) في الحديث الشريف فيحتمل أن يكون بمعنى مَن جَهَر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يُجاهِر بعضهم بعضًا بالتحدُّث بالمعاصي. اهـ.
المجاهَرة بالذنوب جُرمها عند الله عظيم, وخطرها في المجتمع عميم. كيف يعافى المجاهِر بالمعصية وقد تساهل بستر الله عليه؟ كيف يعافى المجاهِر بالمعصية وهو يدعو غيره لفعل المعصية بقوله أو فعله أو إعلانه؟.
إن المجاهرة بالمعصية وإعلانها في الملأ والتَّحدُّثَ بها علامةٌ على ضَعف توقير الله -تعالى- في قلب العبد, ألم يقل الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
فأين هذا مِن فِعل من يجاهر بمعصية الله؟ قال ابن بطال -رحمه الله-: "في الجهرِ بالمعصية استخفافٌ بحقِّ الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضَرْبٌ مِن العناد لهم، وفي السَتر بها السلامة من الاستخفاف".
إن للمجاهرة بالمعصية صورًا كثيرة, فمن ذلك: الصفة الواردة في الحديث، وهي أن يفعل الرجل الذنب ويستره الله ثم يصبح يحدث الناس بما فعل.
ومن الصور: أن يتحدث العاصي بعلاقاته المحرمة مع النساء أو تجاهر العاصية بعلاقاتها المحرمة مع الرجال, وفي ذلك -كما تقدم- استهانة بمراقبة الله -تعالى- وستره عليه, وفيه -أيضًا- دعوة لغيره للوقوع في مثل ما واقع.
ومن صور المجاهرة بالمعصية أن يسافر الإنسان ويفعل الحرام ثم يتحدث بذلك للناس. ومن صور المجاهرة أن تمشي المرأة سافرة في الشوارع أو الأسواق, تعصي ربها وتجاهر بهذه المعصية. ومن الصور -كذلك- تصوير الشخص لنفسه في حال المعصية ونشر ذلك ولو في نطاق ضيق, حتى لو كانت المعصية في عينه صغيرة، كالتدخين أو سماع الأغاني، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
أرأيتم لو أن رجلاً دخل علينا في هذا الجامع, ثم قال: تعالوا الليلة في هذه الحديقة لنقوم بمعصية الله. تعالوا الليلة لنغضب الله! تعالوا الليلة حتى نستجلب عقاب الله, فهل تعدون هذا الرجل عاقلاً؟ إن من يدعو إلى اجتماع الناس لأجل معصية فهو يدعوهم إلى استجلاب غضب الله عليهم, يدعوهم إلى الاستهانة بمحرمات الله, يدعوهم إلى شيوع المنكر بينهم, (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19].
دعك من تغني البعض بالخلافات الفقهية والأطروحات المائعة التي تريد أن يكونَ دينُ الله أخلاقًا وآداباً فحسب, إن دين الله أعظم من ذلك, إنه منظومة متكاملة من الأخلاق والعبادات والواجبات والمنهيات, ومن عَظَّم الآمِر حَفِظ الأوامر, (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67].
إن من أعظم مقامات العبودية لله -تعالى- توقير الله: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32], فأي توقير في قلب العبد إذا كان يجاهر بمعصية الله؟ (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13]؟.
لو أن شخصًا يجلس في المجالس ويتحدث أنه يعصي والده فيما أمره به؛ أيكون عنده ذرة من حياء أو دين أو رجولة؟ أيكون له محبة ومكانة عند أبيه؟ ولله المثل الأعلى. فأي دين أو حياء أو رجولة في قلب المجاهِر؟ وأي محبة له عند الله؟.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71-72].
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن المعصية إذا جاهَر بها أصحابُها وأعلنوها كان ذلك داء في المجتمع الإسلامي يحتاج إلى دواء, وورمًا يحتاج إلى استئصال.
إن من أكبر أسباب هلاك الأمم التي جاء النص عليها في كتاب الله -تعالى-: فِسق المُترَفين, (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16].
يجب الأخذ على أيدي أولئك المجاهرين, فهم في كل الأحوال من أبناء هذا المجتمع, بالنصيحة أولاً, والتذكير بالله, وتحريك وازع الإيمان في قلوبهم, فكثير منهم يرجعون بحمد الله -تعالى-, يجب الوقوف معهم, وأن لا نكون عونًا للشيطان عليهم.
فإن لم يستجيبوا ولم يرتدعوا فإن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن, فنرفع أمرهم إلى الجهات الرسمية, ونبلغ عن حالهم وشأنهم مَن ولّاه الله إزالة ذلك المنكر, ونذكره بالله -تعالى-, فإن تراخينا عن ذلك عَرَّضنا أنفُسَنا جميعًا للعذاب, أخرج الإمام أحمد من حديث عَدي بن عُميرة الكِندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله الخاصة والعامة".
نعم، إذا ترك الناس إنكار المنكر وشاعت المنكرات بينهم كان ذلك مؤذنًا بزوال النعم ونزول العذاب, أخرج البخاري ومسلم من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دخَل عليها يومًا فزِعًا يقولُ: "لا إلهَ إلا اللهُ! وَيلٌ للعرَبِ من شرٍّ قدِ اقترَب! فُتِح اليومَ من رَدمِ يَأجوجَ ومَأجوجَ مِثلُ هذه". وحلَّق بإصبَعَيه الإبهامِ والتي تليها. قالتْ زَينَبُ بنتُ جَحشٍ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أفنَهلِك وفينا الصالحونَ؟ قال: "نعمْ، إذا كثُر الخبَثُ".
إن من أكبر أسباب زوال النعم تسلط العصاة وسكوت الصالحين, لم تسكت وأنت قوي بحقك؟ لم تسكت وأنت تحمل رسالة النبوة؟ أتخاف من العصاة وأنت مؤيد بالله؟ (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:13].
إن أهل الطاعة وأهل المعصية قد ركبوا سفينة المجتمع, والله يعلم المفسد من المصلح, أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلُ القائمِ على حدودِ اللَّهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استَهموا على سفينةٍ, فأصابَ بعضُهم أعلاَها وبعضُهم أسفلَها, فَكانَ الَّذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا, فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا".
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:104-105].
مَن يَدعُ للمعروف يُجز بمثله *** والله أكثرُ للفتى إن أكَثرا
لا تتركوا للمفسدين بقيةً *** لا تُمهلوا زرع البغاة فيَكبُرا
فالنجاةَ النجاةَ بالمجتمع! حافظوا على وَحدتنا وأَمننا, حافظوا على نعمة ربنا علينا, أشيعوا المعروف, وأميتوا المنكر, وليكن كل واحد منا آمرًا بالمعروف ناهياً عن المنكر.
هُبُّوا على الشر قُصّوا كل جارحة *** واستأصِلوا الفسق لا يبقى له سببُ
اللهم استعملنا في طاعتك, واجعل مجتمعنا نقياً طائعًا لك يا رب العالمين.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم