عناصر الخطبة
1/ النسيان طبيعة بشرية 2/ من صور النسيان المذموم 3/ أسباب نسيان العبد ما لا ينبغي له نسيانه 4/ أمور تساعد على مقاومة النسيان 5/ النسيان الطبيعي نعمة من الله تستوجب الشكر 6/ فوائد النسيان 7/ النسيان جماله وقبحهاقتباس
جميل أن تنسى أحقادك وتبدأ صفحة جديدة مع كل من أساء إليك، وجميل أن تنسى أنك ابن القصور وابن الحسب والنسب لتتواضع وتجلس مع الفقراء، وجميل أن تنسى أحزانك وهمومك، لتذكر فقط أن كل مصيبة عدا الدين تهون، وجميل أن تنسى سقطاتك وانتكاساتك، لترفع هامتك عاليًا وتعلن بداية الانطلاق من جديد ..
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: النسيان من طبيعة الإنسان:
وما سُمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقد قالوا قديمًا: إن أول نَاسٍ أولُ الناس، والمقصود بذلك آدم -عليه السلام-؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115]. ونسي موسى -عليه السلام- عهده مع العبد الصالح: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) [الكهف: 73].
ونسي يوشع بن نون؛ قال الله تعالى على لسان يوشع: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) [الكهف: 63].
بل نسي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد صلى الظهر مرة بأصحابه خمسًا، ومرة قام من اثنتين في صلاة الظهر ونسيَ الجلوس للتشهد الأول.
والنّسيان لا يجوز في حق الله؛ قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]، وقال تعالى: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) [طه: 52]. أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ويصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى، وتقدّس وتنـزّه.
أيها المسلمون: والنسيان يتفاوت من إنسان إلى آخر بحسب طبيعته، فيكثر عند البعض ويقل عند آخرين، والنسيان منه ما هو مذموم، ومنه ما هو من طبيعة البشر؛ فمن صور النسيان المذموم:
أولاً: نسيان الله: قال الله تعالى: (المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67]، قال الطبري -رحمه الله-: "تركوا طاعة الله، فتركهم من رحمته وهدايته". وقال السعدي -رحمه الله-: "فنسيهم من رحمته، فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة، بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار، خالدين فيها مخلَّدين".
نعم، يصل الحال ببعض الناس أنهم ينسون ربهم وخالقهم ورازقهم؛ لأنهم لا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة، فليحذر العبد أن يُشابه قومًا نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقِّه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فُرُطًا، فرجعوا بخسارة الدَّارين، وغُبنوا غبنًا لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره، فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يردعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، فلا يدّخِر لها زادًا للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد. وقديمًا قيل:
مِن كل شيء إذا ضيعته عوض *** وما من الله إن ضيعته عوض
فالله سبحانه يعوَّض عن كل ما سواه، ولا يعوَّض منه شيء، ويغني عن كل ما سواه، ولا يغني عنه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، فكيف يستغني العبد عن طاعة مَنْ هذا شأنه طَرْفة عين؟!
ثانيًا: النوع الثاني من أنواع النسيان المذموم، نسيان النفس: وهل ينسى العبد نفسه؟! نعم، قد ينسى العبد نفسه؛ قال الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]، فعاقب -جل وتعالى- هذا العبد عقوبتين: إحداهما: أنه نَسِيَهُ، والثانية: أنه أنساه نفسه.
ونسيانه -سبحانه- للعبد: إهماله وتركه، وتخلِّيه عنه وإضاعته، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم. وأما إنساؤه نفسه فهو: إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها، وما تَكمُل به، ينسيه ذلك فلا يخطره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّته فيرغب فيه، فإنه لا يمرُّ بباله حتى يقصده ويؤثره.
وأيضًا يُنسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها. وأيضًا يُنسيه أمراض قلبه وآلامها، فلا يخطر بقلبه مداواتها، والسعي في إزالة عِلَلِها وأمراضها، التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، فهو مريض مُثخن بالمرض، ومرضه مترامٍ به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته، وهذا من أعظم العقوبة العامة والخاصة.
وأيضًا يُنسيه العَقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار، والتجارة التي اتّجر فيها لمعاده، فإن كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف: 10].
فالنِّسيان يؤدي إلى نسيان العبد حظَّه من هذه التجارة الرابحة، وتشكّله بالتجارة الخاسرة، وكفى بذلك عقوبة، وأيُّ عقوبة أعظم من عقوبة مَنْ أهمل نفسه وضيّعها، ونسيَ مصالحها، وداءها ودواءها، وأسباب سعادَتها وفلاحها وصلاحها، وحياتها الأبدية في النعيم المُقيم؛ قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 45].
ثالثًا: نسيان عهد الله: قال الله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [النساء: 155]، أي: تركوا نصيبًا من أوامر الله وأحكامه فلم يعملوا بها. هذه الآية في يهود، فإنهم ذُكِّروا بالتوراة وبما أنُزل على موسى -عليه السلام-، فنسوا حظًّا منه، فنسوا علمه وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه، عقوبة منه لهم، ونسوا العمل به، الذي هو الترك، فلم يُوفَّقوا للقيام بما أُمِروا به. هذه سِمَات يهود التي لا تفارقهم، نسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم، وكل من شابهه اليهود في هذه الخصلة من هذه الأمة فعقوبته مثلُهم؛ قال الله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
رابعًا: نسيان اليوم الآخر: قال الله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَاكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف: 51]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب) [ص: 26]، وقال تعالى: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة: 14]، وقال تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِين) [الجاثية: 34]. ويوم القيامة يتركهم الله في العذاب جياعًا عِطاشًا، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. عياذًا بالله من سوء الخاتمة.
خامسًا: نسيان آيات الله: قال الله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: 126]، أي: كما نسيت دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا فنسيتها، أي: تركتها ولم تنظر فيها وأعرضت عنها، وكذلك اليوم تُنسى، أي: تُترك في عذاب جهنم.
سادسًا: القعود مع الظالمين ونسيان النهي عن ذلك: قال الله تعالى: (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين) [الأنعام: 68].
قال الطبري -رحمه الله-: "وإن أنساك الشيطان نهيَنا عن الجلوس معهم، ثم ذكرت ذلك، فلا تقعد بعد التذكر معهم، وليس على من اتقى الله فأطاعه شيء من التبعة والإثم، إذا اجتنبهم وأعرض عنهم. والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذبين، الذين يحرفون آيات الله، ويضعونها على غير موضعها، ويشمل الخائضين بالباطل، وكل مُتكلِّم بمُحرَّم، أو فاعل لمُحرَّم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته، هذا النهي والتحريم عمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المُحرَّم، أو يسكُت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم".
أيها المسلمون: لماذا ينسى العبد ما لا ينبغي له أن ينساه؟! لذلك أسباب:
أولاً: استحواذ الشيطان على القلب: قال الله تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19].
ثانيًا: ترك التقوى: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ، إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) [الحشر: 18، 19]، فأمر سبحانه بتقواه، ونهى أن يتشبّه عباده المؤمنون بمن نَسِيَه بترك تقواه، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي: أنساه مصالحها ونعيمها، فأنساه الله ذلك كله؛ جزاءً لما نَسِيَه من عظمته وخوفه والقيام بأمره.
ثالثًا: من أسباب النسيان، الترف والنعيم: قال الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار) [الزمر: 8]، وإذا أصاب الإنسانَ بلاءٌ وشدة ومرض تَذكَّر ربه، فاستغاث به ودعاه، ثم إذا أجابه وكشف عنه ضرَّه ومنحه نِعَمه، نَسِيَ دعاءه لربه في حال الرفاهية.
رابعًا: التمتُّع بالمال والعافية: قال تعالى: (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن متَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُورًا) [الفرقان: 18]، أي: طال عليهم العمر حتى نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، حتى صاروا هلكى لا خير فيهم.
أيها المسلمون: إن مما يُساعد على مقاومة النسيان أمور؛ منها:
أولاً: الابتعاد عن الذنوب؛ لأن شؤم المعصية يورث سوء الحفظ وقلّة التحصيل في العلم، ولا تجتمع ظلمة المعصية مع نور العلم، ومما يُنسب إلى الشافعي -رحمه الله- قوله:
شكوت إلـى وكيع سوء حفظي *** فـأرشدني إلى تـرك المعاصي
وأخبـرني بـأن العـلم نـورٌ *** ونور الله لا يـؤتى لعاصـي
وروى الخطيب في الجامع عن يحيى بن يحيى قال: سأل رجل مالك بن أنس: يا أبا عبد الله: هل يصلح لهذا الحفظ شيء. قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي. وعندما يقارف الإنسان ذنبًا، فإن خطيئته تحيط به، ويلحقه من جرّاء ذلك همّ وحزن، وينشغل تفكيره بما قارفه من إثم، فيطغى ذلك على أحاسيسه، ويُشغله عن كثير من الأمور النافعة.
ثانيًا: مما يساعد على مقاومة النسيان، كثرة ذكر الله -عزّ وجلّ- من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغيرها؛ قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) [الكهف: 24].
ثالثًا: الدعاء: عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد كنتُ رجلاً مسكينًا، أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني"، فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إليّ، فما نسيت شيئًا سمعته منه.
رابعًا: الاستعاذة من الشيطان: لقوله تعالى: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّه) [يوسف: 42].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: النسيان الطبيعي نعمة من نعم الله تعالى على العبد، وله فوائد جمة، منها: أن ننسى إساءات الناس إلينا: ننساها لكي نستطيع أن نسامح ونغفر ونصفح، ولكي لا يملك الغضب على قلوبنا بسببها، وننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية إذا ثبتت في أذهاننا، فالذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يقابل الكل ببشاشة.
ومن فوائد النسيان: أن ننسى فضائلنا، حتى لا نقع في الكبرياء والإعجاب بالنفس والغرور.
ومنها أيضًا: أن ننسى المتاعب، فأحيانًا يكون التفكير في المتاعب أشد إيلامًا وضررًا من التعب ذاته؛ لذلك من الخير لك أن تكون المتاعب خارجك وليست داخلك، أي لا تسمح لها بالدخول إلى فكرك، ولا الاختلاط بمشاعر قلبك؛ لئلا تتعبك، أي حاول أن تنساها، وعندما تنسى متاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة من الله تعالى.
ومن فوائد النسيان: أن ينسى الإنسان الأسباب المعثرة التي تجلب له الخطيئة: فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا، وإن لم ينسَ كل هذه الأمور، تظل تشغل فكره وتحاربه روحيًّا، فتضيّع نقاوة قلبه، ولذا من الخير له أن ينسى. وقد يقع شاب آخر في مشكلة عاطفية، ويحاول -من أجل إراحة قلبه- أن ينسى، وإذا استطاع ذلك، عرف أن النسيان نعمة عظيمة.
ومن فوائد النسيان: أن تنسى كل الأمور التافهة، لكى تُبقي في ذهنك الأمور النافعة لك ولغيرك؛ فتصوّروا مثلاً لو أن إنسانًا تذكرّ كل ما يمر عليه طوال يومه، أو طوال أسبوع، أو شهر، من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق، وأيضًا كل القراءات وكل الأحداث، هل مثل هذا الشخص تحتمل طاقة فكره وذاكرته أن تخزّن -فوق ذلك كله- المعلومات اللازمة له والأساسية؟! لا أظن ذلك، والذين يتذكرون كل الأمور التافهة، أو يهتمون بها فلا ينسونها، هؤلاء ستكون أحاديثهم تافهة أيضًا.
أيها المسلمون: النسيان جميل وقبيح:
جميل أن تنسى أحقادك وتبدأ صفحة جديدة مع كل من أساء إليك، وجميل أن تنسى أنك ابن القصور وابن الحسب والنسب لتتواضع وتجلس مع الفقراء، وجميل أن تنسى أحزانك وهمومك، لتذكر فقط أن كل مصيبة عدا الدين تهون، وجميل أن تنسى سقطاتك وانتكاساتك، لترفع هامتك عاليًا وتعلن بداية الانطلاق من جديد، وجميل أن تنسى جميلك وفضلك على الناس، وتذكر فقط تقصيرك في حق من حولك، وجميل أن تنسى عيوب وزلات الآخرين لتذكر لهم فقط الشيء الجميل.
وقبيحٌ أن تنسى أنك عبدٌ فقير، لا حول لك ولا قوة، إلا بالاستعانة واللجوء إلى رب السموات والأرض، وقبيح أن تنسى مراقبة الله لك في السر والعلن، لتتجرأ وتنتهك حرماته، وقبيح أن تنسى كرم الله ونعمه عليك، وقبيح أن تنسى فضل من أحسنوا إليك، وسهروا على راحتك، وأولهم وأعظمهم فضل الوالدين، وقبيح أن تنسى إخوة لك في الله، اجتمعتم على طاعة الله رغم ما باعدتْ بينكم المسافات، وقبيح أن تنسى إخوة لك في الإسلام يفترشون التراب، ويبيتون خاوي البطون، وتنتهك محارمهم، بحجة أنك لا تملك لهم شيئًا، وتنسى أن تجعل لهم نصيبًا من دعائك.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم