عناصر الخطبة
1/ أهمية الاعتبار بسُرعة مرور الأيام 2/ أصناف الناس في استقبال رمضان 3/الأعذار المبيحة للفطر 4/ التحذير من سرقة رمضان وإضاعتهاقتباس
فرقٌ بين أيامِنا وأيامٍ مضت لأسلافنا؛ تلك الأيام المباركة والأعمار الرابحة قُضيت في أمور الدين، أو أمور الدنيا المعينة على الدين، أما أيامنا فقد نُزعت البركة منها بذنوبنا، أحاديثنا بالقيل والقال، ولم يتورع كثيرٌ منا عن منكر في سمعٍ أو بصرٍ أو سيئ فعال، ثم تكاسل عما أوجب الله علينا، فقست قلوبنا، وفَشِلت أعمالنا، وهانت علينا أوقاتنا، وصَرَفنا نفائِس أعمارِنا بما لا نفع فيه لنا، بل ربما بما عاد ضرراً علينا .
الخطبة الأولى:
الحمد لله، يبدئ، ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرشِ المجيد، وأشهد ألا إله إلا الله فعَّال لما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء وأكمل العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الرأي السَّديد، ومن سار على دربهم إلى يوم المزيد .
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – وتأمَّلوا سرعة الأيامِ، وتفلت الأعوام، فما أن يصبحُ الرجل إلا ويمسي، وما أن يمسي إلا ويصبح، تنفرط ساعات يومه كعقد انقطع نظامُه .
ولو تأمل أحدُنا، وفكَّر ماذا صنع في يومِه الذي انقضى من عمره؟
وعلى أيِّ عمل طُويت صحيفة أعماله؟
لو تأمل وفكَّر لم يجد أكثرُنا شيئاً ذا بالٍ يُذكر !
قلَّةً في عبادةٍ، وتَعَدياً في معاملة، وغفلةً متتابعة !
وهكذا حالنا مع الأسبوع يعُدُّ الواحد منا أيامه عدّاً، ويعطي فيها وعوداً شتَّى، يستقبل أوَّل يومٍ منه، ويرى أنَّه بعيدٌ من آخره، ثم تنسل أيامه، وتنتهي ساعاته .
وهكذا حالنا أيضاً مع الشهر، بل ومع العام كله .
فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وفي سرعة الأيام وتقضي الأعوام عبرٌ ودروس، لنا فيها وقفاتٌ علَّ اللهُ -عز وجلَّ- أن يوقظ بها قلوبنا .
من ذلك أن المؤمنَ يرى في سُرعة الأيام ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تقوم الساعةُ حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليومُ كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَة في النار" حديث صحيح رواه أحمد وغيره .
فهي سُنة كونية، وآيةٌ رَبانية نطق بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى فشهدها الناس، وأدركوها، فعلم كمال خلق الله، وصدق نبوته رسول الله .
الوقفة الأخرى من دلالات سرعة الأيام أن يعلم الإنسان أنه في بحبوبة من العيش وسعة من الرزق، وطمأنينة وأمن، فلو فقد هذا أو بعضه لعلم قيمة الزمن، وثقل الدقيقة، واسأل من أشغلته لقمة العيش له أو لأهل بيته، واسأل من خيَّم الخوف على قلوبهم وترقبوا في كل لحظة قارعة تنزل بهم، أو قريباً من ديارهم، اسألهم في فلسطين وفي العراق، وفي بلاد الشام وفي جهات لبس أهلها لباس الجوع والخوف، وما ربك بظلام للعبيد.
أن يتذكر العبد أنَّ الأيام التي نعيشها هي نظير الأيام التي كان يعيشها آباؤنا وأجدادُنا الأوَّلون، بل هي الأيام التي عاشها النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابةُ معه، وبعده، بل هي كذلك يوم خلق الله السموات والأرض.
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
ولكن فرق بين أيامِنا وأيامٍ مضت لأسلافنا؛ تلك الأيام المباركة والأعمار الرابحة قُضيت في أمور الدين، أو أمور الدنيا المعينة على الدين، أما أيامنا فقد نُزعت البركة منها بذنوبنا، أحاديثنا بالقيل والقال، ولم يتورع كثيرٌ منا عن منكر في سمعٍ أو بصرٍ أو سيئ فعال، ثم تكاسل عما أوجب الله علينا، فقست قلوبنا، وفَشِلت أعمالنا، وهانت علينا أوقاتنا، وصَرَفنا نفائِس أعمارِنا بما لا نفع فيه لنا، بل ربما بما عاد ضرراً علينا .
عباد الله: إنَّ الناس عما قريب يستقبلون شهراً عظيماً، وموسماً رابحاً .
يستقبلون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن؛ شهراً جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله نافلة .
شهراً تواترت النصوص في بيان فضله، وعظيم أجره، تعددت فيه أسباب المغفرة والرحمة، فمن حرمها فهو المحروم، ومن فرط فيها أو بعضها فهو الملوم .
إنَّ الناس يستقبلون رمضان على أصناف شتى؛ فمنهم المسلم البالغ العاقل المقيم السالم من الموانع؛ فهذا يجب عليه الصيام أداءً، طاعةً لله وامتثالاً لأمره وشكراً لله على نعمته قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
والقسم الثاني ممن يستقبلون رمضان، وهم عاجزون عن صيامه عجزاً مستمرّاً لكبر أو مرض، فهؤلاء لا صوم عليهم لعجزهم عنه، ويطعمون عن كل يوم مسكيناً فيطعم عن كل يوم بيومه أو يجعلها بعد عدد من الأيام أو يطعم في آخر الشهر عن جميع الشهر يخرجها طعاماً مطبوخاً أو حبّاً .
ولا يصح أن يخرجها قبل الشهر أو قبل اليوم لأنَّه لم تلزمه.
وليعلم هؤلاء العاجزون عن الصيام أنهم شركاء للصوَّام ما دامت نيتهم الصوم، ولكن حبسهم العذر.
القسم الثالث: من شقَّ عليه الصوم لمرض عارض نزل به، أو ثبت أنَّ الصيام يؤخر برءه، أو يزيد في مرضه فهذا يفطر، والله يحب أن تُؤتى رُخَصه كما يحب أن تُؤتَى عزائمه، ثم إذا أذن الله بشفائه صام الأيام التي أفطرها لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184].
وإن تضرر بالصيام حرم عليه الصوم لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].
القسم الرابع: الرجل الذي سقط تمييزه لكبر أو حادث، فصار يهذي ويخرف؛ فهذا لا صيام عليه ولا إطعام؛ لأنه أشبه الصبي غَيْر المميز إذ لا تكليف عليه .
ومثله المغمى عليه فلم يعِ من الدنيا شيئاً، فهذا لا صيام عليه ولا إطعام إلا أن يأذن الله له بالشفاء، فعليه القضاء إن استطاع أو الإطعام إن لم يستطع، فاحمدوا الله على تيسيره واشكروه على رخصه.
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم …
الخطبة الثانية:
الحمد لله منَّ بمواسم الخيرات، وأعظم للراغبين الأجور ورفعة الدرجات .
وأشهد أن لا إله إلا الله رب البريات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أحفظ الناس لصومه، وأخشعهم في الصلاة، صلى الله عليه …
أما بعد
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- : "يبشر أصحابه يقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم".
قال ابن رجب رحمه الله: "قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان" .
ثم احذروا - عباد الله - أن يُسرَق منكم رمضان، وتستلب أوقاته فهو من فرص العمر .
أتدري فيم يسرق؟
إنه يسرق بإضاعته في نومٍ كثير، وسهرٍ طويل .
إنه يسرق حينما يظنُّ أن رمضان وقت لتنويع المآكل وتعديد المشارب، والتفنن في شراء أصنافها .
إنه يُسرق حينما نسمح لأنفسنا بالتردد في الأسواق، أو نسمح لبناتنا ونسائنا يمضين معظم أوقاتهن في التسوق، وتتبع ما يجد من البضائع ويقعن نهباً للباعة، وخدعة لمهرجانات التسوق، وألعوبة للسحب على الجوائز في خطط غير راشدة، ودعوة لشر البقاع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شر بقاع الأرض أسواقها، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق"؛ وذلك لما فيها من الغش والحلف بالكذب، وتبرج النساء، وعبث قليلي الدين والمروءة، هذه أحوال الأسواق في عموم أحوالها، فكيف إذا استُنفِر الناس، ودُعوا إلى لهوٍ ما، فحضر صاحب الحاجة وغير صاحب الحاجة، حمانا الله جميعا من الشر وأسبابه .
إنه يُسرق حينما يُقطع ليله ويُفنى نهاره في تتبع قنوات فاسدة، ضلَّت عن سواء السبيل، وأضلت كثيراً من أبنائنا وأهلينا، فصار رمضان عند هؤلاء هو الجديد في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي يسمونها كذباً وخداعاً رمضانيات .
فمتى كان رمضان موسماً لمشاهدة الفساد، وسماعاً لما حرَّم الله، إلا في عرف الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
ألا إن رمضان يبرأ إلى الله من هذا، وهي أبعد ما تكونُ عن رمضان .
ثم في تلك المسابقات التافهة عكوف في ملاحقتها، وأموالٌ لأجل الاتصال عليها .
وأكثرها مبنيٌّ على القمار المحرم، وتفريطٍ في أوقات هذا الشهر المعظم .
ثم إن نذكر بشيء فنذكر إخواننا الذين ابتُلوا بشرب الدخان فهم يشربونه لسنين طالت أو قصرت.
هل لك أن تجعل من مكاسب رمضان بالنسبة لك أن تترك الدخان الخبيث الذي طالما منعك التبكير للمسجد، ومنعك مجالس الصالحين، وجعلك عصبياً في مزاجك ومضيعاً لمالك، ومفاسده أنت أدرى بها من غيرك.
ها هي فرصتك لتركه إن كنت جاداً في أمرك، فاستعن الله على تركه، تدرب نفسك على الإقلال منه ليلاً بعد أن تركته نهاراً، ثم رويداً رويداً حتى تكون له من التاركين .
فما أعظمها من طاعة تسجلها في أعمالك الرمضانية!!
وما أكرمها من هدية تهديها لنفسك!!
بل ولأسرتك ولكل محب للخير لك!!
ومن يستعن بالله يعنه الله..
اللهم بلغنا شهر رمضان، واحفظ علينا شهرنا، واحفظنا في شهرنا، وارزقنا فيه عملاً صالحاً ترضى به عنا .
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام .
اللهم احقن فيه دماء المستضعفين من عبادك المؤمنين.
اللهم احم فيه بلاد المسلمين من تفجيرات الخارجين، وتسلط الظالمين .
اللهم ارزقنا تعظيم حرماتك، والقيام بحق هذه الشهر .
اللهم أصلح لنا ديننا …
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم