عناصر الخطبة
1/ المواساة من أخلاق المؤمنين 2/المواساة في حياة الصحابة 3/أصناف الناس في الصدقة والإنفاق 4/إحسان السلف إلى الفقراء 5/ نماذج مضيئة للعدل والكرماقتباس
نعيش هذه الأيام في موجة برد شديدة لم تمر على الناس منذ زمن، وفي هذه الأوقات تظهر نعم الله على الخلق جلية، فالأغنياء يجدون ما يحتمون به من البرد، وأما الفقراء فلا واقي لهم إلا ما تجود به نفوس إخوانهم الأغنياء، فتخيل من يعيش في منزل ليس به سخان ماء، والريح تدخله من كل جنب، ما هي حالهم؟ وتخيل من يعيش في العراء، إنما هي خيام وأعشاش من خشب، كيف سيتقون البرد؟
إن الحمد لله ...
أما بعد:
فيا معاشر المؤمنين: فمن فضل الله على المسلمين جميعًا أن ألَّف بين قلوبهم، وجعل بعضهم يعطف على بعض، فيرحم الكبير الصغير، ويعطف القوي على الضعيف، ويحنو الغني على الفقير، حتى يكون الناس كما أرادهم الله كالبنيان المرصوص، وكأنهم أطباء يعالج بعضهم بعضًا، ولذا وصف فعلهم هذا بالمواساة، ومن معاني المواساة في اللغة المداواة.
قال إبراهيم بن أدهم: "المواساة من أخلاق المؤمنين".
عباد الله: نحن نعيش هذه الأيام في موجة برد شديدة لم تمر على الناس منذ زمن، وفي هذه الأوقات تظهر نعم الله على الخلق جلية، فالأغنياء يجدون ما يحتمون به من البرد، وأما الفقراء فلا واقي لهم إلا ما تجود به نفوس إخوانهم الأغنياء، فتخيل من يعيش في منزل ليس به سخان ماء، والريح تدخله من كل جنب، ما هي حالهم؟ وتخيل من يعيش في العراء، إنما هي خيام وأعشاش من خشب، كيف سيتقون البرد؟ كيف والأمر أصعب من ذلك فدرجات الحرارة تنخفض بشدة في شمال المملكة فليس لديهم ما يتقون به البرد إلا الخفيف من الملابس، والفرش الرديئة.
معاشر المسلمين: تفقّدوا إخوانكم الضعفاء، وابحثوا عنهم وواسوهم، واجبروا بخواطرهم، علَّ الله أن يعطف عليكم ويرحمكم، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!
قال ابن القيم: "المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال, ومواساة بالجاه, ومواساة بالبدن والخدمة, ومواساة بالنصيحة والإرشاد, ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم, ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة, وكلما قوى قويت, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مواساةً لأصحابه بذلك كله, فلأتباعه من المواساة بحسب أتباعهم له". اهـ كتاب الفوائد.
دخل قوم على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض, فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: "ذكرت الفقراء وبردهم، وليس لي ما أواسيهم, فأحببت أن أواسيهم في بردهم". (سير أعلام النبلاء، ترجمة بشر).
أيها المسلمون: انظروا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف كانت المواساة بينهم، فانظروا لهم لما وفد المهاجرون على الأنصار ماذا صنع الأنصار؟
أخرج الترمذي في جامعه (2487) من حديث أنس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا قومًا أبذل من كثير ولا لأحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤْنَة وأشركونا في المهنأ حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ما دعوتم لهم، وأثنيتم عليهم».
ولقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المواساة في المأكل والمطعم، حتى يكون الناس كأبناء الرجل الواحد، أخرج البخاري (2468) ومسلم (2500) من حديث أبي موسى قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم».
بل بالغ عليه الصلاة والسلام في ذلك عند الحاجة، كما أخرج مسلم في صحيحه (1728) من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان معه فضل ظهر، فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له»، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
عباد الله: كم في بيوتنا من فضل لا حاجة له يمكث السنين ثم يفسد ويُلقى، ولو دُفع لضعفاء المسلمين، لدفع الله به فاقة عظيمة.
اللهم ارفع عن المسلمين الغلاء والوباء والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منا وما بطن يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ..................
أما بعد: فيا أيها الناس: إن من المسلمين من وُقي شر نفسه، فنفسه تأمره بالصدقة والإنفاق، وهذا هو الكرم الحقيقي، لا من ينفق الأموال ونفسه طامحة للثناء فقط، أخرج الترمذي في سننه من حديث أبي كبشة الأنماري قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز وجل عزًّا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا؛ فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله تعالى علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء».
معاشر المؤمنين: لقد كان سلف الأمة مثلاً يحتذى به في الصدقة والنفقة في سبيل الله، وفي الإخلاص في ذلك.
ذكر أبو حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: "إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب".
وقال محمد بن إسحاق: كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.
ولما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثرًا مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل.
وقال شيبة بن نعامة لما مات عليّ وجدوه يعول مائة أهل بيت، قال الذهبي: "لهذا كان يبخل فإنه ينفق سرًّا، ويظن أهله أنه يجمع الدراهم"، وقال بعضهم: "ما فقدنا صدقة السر حتى توفي عليّ". (الآثار كلها في ترجمة علي بن الحسين في السير).
وقال بكر بن عبد الله المزني: "إني لأرجو أن أعيش عيش الأغنياء، وأموت موت الفقراء"، فكان رحمه الله كذلك يلبس كسوته، ثم يجيء إلى المساكين فيجلس معهم يحدثهم، ويقول: "لعلهم يفرحون بذلك". (سير أعلام النبلاء ترجمة بكر).
أيها الناس: إن كثيرًا من الناس قد ألهتهم دنياهم، فلم يسألوا عن إخوانهم المسلمين، ولربما بات جاره طاويًا من الجوع، وهو قد مُلئت خزائنه بالخيرات ولم يسأل عن جاره، فو الله ليُسألن هذا وأمثاله عن هذه النعم (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، وما يضر أحدنا أن يكون له بيت أو بيتين أو أكثر على حسب قوته وغناه يرزقهم كل شهر، ويتلمس حاجات الناس كما كان عمر بن الخطاب يفعل وهو أمير المؤمنين، روى زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب طاف ليلةً، فإذا هو بامرأة في جوف دار لها وحولها صبيان يبكون، وإذا قِدْر على النار قد ملأتها ماء، فدنا عمر بن الخطاب من الباب، فقال: "يا أمة الله، أيش بكاء هؤلاء الصبيان?" فقالت: بكاؤهم من الجوع. قال: "فما هذه القدر التي على النار?" فقالت: قد جعلت فيها ماء أعللهم بها حتى يناموا، أوهمهم أن فيها شيئًا من دقيق وسمن. فجلس عمر فبكى، ثم جاء إلى دار الصدقة فأخذ غرارة، وجعل فيها شيئًا من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم، حتى ملأ الغرارة، ثم قال: "يا أسلم، احمل عليّ". فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك! فقال لي: "لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسئول عنهم في الآخرة"، قال: فحمله على عنقه، حتى أتى به منزل المرأة، قال: وأخذ القدر، فجعل فيها شيئًا من دقيق وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر، قال أسلم: وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا، ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع، وخفت منه أن أكلمه، فلم يزل كذلك حتى لعبوا وضحكوا، ثم قال: "يا أسلم، أتدري لم ربضت بحذائهم?" قلت: لا يا أمير المؤمنين! قال: "رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي". (أسد الغابة ترجمة عمر).
عباد الله: اعلموا أن أموالكم هي ما قدمتم، والباقي إنما هو للتراب والورثة، فقدّموا لأنفسكم واعلموا أنكم ملاقو الله غدًا فسائلكم عن نعمه التي عشتم بها.
اللهم ألطف بعبادك المسلمين في كل مكان يا لطيف يا رحمن.
اللهم وفقنا لهداك واجعل ....
اللهم أحينا مساكين وأمتنا مساكين واحشرنا في زمرة المساكين.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارفع اللأواء ..................
اللهم أنت الله ...................................... سبحان ربك رب العزة .....................................
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم