عناصر الخطبة
1/أهمية العقل في الإسلام 2/تحريم المسكرات والمخدرات 3/العلة من تحريم الخمر 4/الحكمة من تحريم المسكرات والمخدرات 5/أضرار المسكرات والمخدرات 6/مفاسد الخمر والمخدرات على الأسرة والمجتمع.اقتباس
ثَبَتَ أنَّ 30% من المجانين الذين يُعالَجون في مستشفيات الأمراض العقلية كان جُنونهم ناشِئًا عن تعاطي المُسْكِرات, مِمَّا حدا ببعض الأطباء الألمان أن يقول: "اقْفِلوا نِصْفَ الحانات؛ أضْمَن لكم الاستغناءَ عن نِصْفِ المستشفيات, والملاجِئِ, والسُّجون"...
الخُطْبَة الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بعد: للعقل أهَمِّيةٌ كُبرى في الإسلام؛ فهو مناط المسؤولية, والتَّكْلِيفِ بالعِبادة, وبه كَرَّمَ اللهُ -تعالى- الإنسانَ وفَضَّلَه على سائر المخلوقات، وسخَّر له ما في البرِّ والبحر. وأَمَّا تَحَقُّقُ مَصَالِحِ الدنيا والآخِرَةِ فيَحْتاج إلى الشَّرْع, والشَّرْعُ لا يقوم إلاَّ على العقل؛ لأنه أساس التَّكْلِيف؛ بل هو أشْرَفُ صِفاتِ الإنسان.
وقد حَرَّمَ الإسلامُ المُسْكِرات والمُخَدِّرات, وكُلَّ ما مِنْ شأنِه أنْ يؤثِّرَ على العقل, ويَضُرَّ به, أو يُعَطِّلَ طاقتَه؛ كالخَمْرِ والحَشِيش وغيرِهما, قال النووي: "وَأَمَّا الْخَمْرُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ. وَأَجْمَعُوا: عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا, سَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا".
والأحاديث في ذلك كَثِيرَةٌ ومُتوافِرَةٌ؛ منها قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ"(رواه البخاري ومسلم)، وقولُه -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ, وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"(رواه مسلم)، وقولُه -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاَةِ فَهُوَ حَرَامٌ"(رواه مسلم).
قال النوويُّ -رحمه الله-: "فيه تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ, وَأَنَّهَا كُلَّهَا تُسَمَّى خَمْرًا, وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ نَبِيذُ التَّمْرِ, وَالرُّطَبُ وَالْبُسْرُ, وَالزَّبِيبُ, وَالشَّعِيرُ, وَالذُّرَةُ, وَالْعَسَلُ, وَغَيْرُهَا. وَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ وَتُسَمَّى خَمْرًا. هَذَا مَذْهَبُنَا, وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ, وَأَحْمَدُ, وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".
ويَسْتَوِي قليلُ الخَمْرِ وكثيرُه في الحُرْمَة؛ لأنَّ الكَثِيرَ مُسْكِرٌ, والقليلَ داعيةٌ إلى الإسْكَارِ, ولا يتمُّ المقصودُ الشَّرعي إلاَّ بتحريمِه, فأُلْحِقَ بالكثير؛ سدًّا للذَّريعة, وإِتْماماً للمَقْصودِ الشَّرعي.
والتَّحريمُ يَشْمَلُ كَلَّ ما مِنْ شأنِه أنْ يُذْهِبَ العقلَ من أنواع المُخَدِّرات؛ سواء ذات المصدر الطبيعي -القات, الأفيون, المورفين, الحشيش, الكوكايين, وغيرها-، أو ذات المصدر الاصطناعي -الهيروين, الامفيتامينات, وغيرهما-، وأيضًا الحبوب المُخَدِّرة -الكَبْتاجون, وغيرها-, والمُذيبات الطيَّارة.
والتَّحْرِيمُ يَشْمَلُ كُلَّ مَادَّةٍ مُخَدِّرَةٍ تُخِلُّ بالإِدْراكِ, وتُذْهِبُ العَقْلَ؛ إذْ أنَّ العِلَّةَ مِنْ تَحريمِ الخَمْرِ المنصوص عليها صراحةً -في القرآنِ والسُّنة- هي ذهاب العقل, ومِنْ ثَمَّ فإنَّ العلَّة نفسَها إذا وُجِدَتْ مع نوعٍ آخَرَ غيرِ منصوصٍ عليه أَخَذَ حُكْمَ المَنْصوصِ عليه, باعْتِبارِ العِلَّة.
والحِكْمَةُ من تحريمِ المُسْكراتِ والمُخدِّرات؛ هي المُحافظة على نِعْمَةِ العقل والإدراك, فهي الغايةُ العُظمى التي من أجْلِها شُرِعَ تحريمُ الخمر, وما يُلحق بها من المُسْكِرات والمخدِّرات, قال الرازي: "إِنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ صِفَاتِهِ، وَالْخَمْرُ عَدُوُّ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ عَدُوَّ الْأَشْرَفِ فَهُوَ أَخَسُّ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُ الْخَمْرِ أَخَسَّ الْأُمُورِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْعَقْلَ إنَّما سَمِّيَ عَقْلاً؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى عِقَالِ النَّاقَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إِلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ, كَانَ عَقْلُهُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ بَقِيَ الطَّبْعُ الدَّاعِي إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ خَالِيًا عَنِ الْعَقْلِ الْمَانِعِ مِنْهَا. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى سَكْرَانَ -وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ, وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ- وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا, وَالْمَاءَ طَهُورًا!".
وصَاحِبُ الفِطْرَةِ السَّليمة يَرْفُضُ شُرْبَ الخَمْر؛ لأنَّ شُرْبَها يُنافي المروءةَ والأخلاقَ القَوِيمة؛ لذا وُجِدَ من أَهْلِ الجاهلية مَنْ لم يَشْرَبِ الخمرَ؛ لِخُبْثِها, وعَدَمِ فائدتها. فها هو الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: قِيلَ لَهُ -فِي الْجَاهِلِيَّةِ-: لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي جَرَاءَتِكَ؟ قَالَ: "مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي, فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ قَوْمٍ, وَأُمْسِيَ سَفِيهَهُمْ".
فلو لم يكن في المُسْكِرات والمُخَدِّرات سِوى إزالةِ العقل, والخروجِ عن حَدِّ الاستقامة لَكَفَى؛ فإذا اخْتَلَّ العقلُ, حَصَلَت الخبائِثُ بأَسْرِها؛ ولذا أسْمَاها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- "أُمَّ الخبائث", و"أُمَّ الفواحش".
والأضرارُ المُترتِّبةُ على تناول المُسْكِرات والمُخَدِّرات مُتَعَدِّدة: فمنها ما يلحق الشَّخْصَ المُدْمِنَ نفسَه, ومنها ما يَلْحَقُ المُحِيطين به أفراداً ومُجْتَمَعات, ومن ثَمَّ الأُمَّةَ بأَسْرِها.
فهناك أضْرَارٌ ومَفَاسِدُ تعود على مُتَعاطِيها: في شَخْصِه ودِينِه, وعَقْلِه وبَدَنِه, ومَالِه, ومكانَتِه بين الناس؛ فقد أشار القرآن الكريم إلى مفاسِدِ الخَمْرِ وأضرارها, وأنَّ ضَرَرَها أكْبَرُ من نَفْعِها, وأنها تُورث العداوةَ والبغضاءَ, وتصدُّ عن ذِكْرِ اللهِ, وعن الصَّلاة. وجاء في السُّنة: أنها أمُّ الفواحش, وأكبرُ الكبائر, وأنها أُمُّ الخَبائِثِ, ومَنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ يَوماً, وأنَّها ملعونَةٌ وشارِبَها, ويُسْقَى عَرَقَ أهلِ النَّارِ.
فأمَّا الأَضْرارُ البَدَنِيَّة: فهي أضرارٌ سلبيةٌ تُؤَثِّرُ على الجهاز العَصَبي؛ فقد ثَبَتَ أنَّ 30% من المجانين الذين يُعالَجون في مستشفيات الأمراض العقلية كان جُنونهم ناشِئًا عن تعاطي المُسْكِرات, مِمَّا حدا ببعض الأطباء الألمان أن يقول: "اقْفِلوا نِصْفَ الحانات؛ أضْمَن لكم الاستغناءَ عن نِصْفِ المستشفيات, والملاجِئِ, والسُّجون".
وللمُسْكِراتِ والمُخَدِّراتِ أثَرٌ خَطِيرٌ على أجْهِزَةَ الجِسْم؛ كالأوعية الدَّمَوِيَّة, والكُلْيَتَيْنِ, والرِّئَتَين. يقول الأطباء: "إنَّ المُسْكِرَ لا يَتَحوَّل إلى دَمٍ, كما تَتَحوَّل سائِرُ الأغذية بعد الهَضْم, بل يبقى على حالِه, فيُزاحِمَ الدمَ في مَجارِيه, فتُسْرِع حَرَكَةُ الدَّم, وتَخْرُج عن وضْعِها المُعْتاد؛ لأنَّ الأساس في الخَمِرِ مادَّةُ الكحول, فزيادتها في الجسم بتعاطي الخمور لِمُدَّةٍ طويلة يُحْدِثُ الْتِهاباً مُزمِنًا في الأعْصاب, والكُلَى, وتَصَلُّبًا في الشَّرايين, وتَحَجُّراً في الكَبِد, وضَعْفًا في القلب".
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: عِباد الله.. وأمَّا إِضَاعَةُ المَال: فهو ضَرَرٌ ظاهِرٌ لا يحتاج إلى بُرهان؛ كما قال ابنُ أبي الدُّنيا: "بَلَغَنِي أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: تَرَكْتَ الشَّرَابَ؟! قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُهُ مَتْلَفَةً لِلْمَالِ, دَاعِيَةً إِلَى شَرِّ الْمَقَالِ, مَذْهَبَةً بِمُرُوءَاتِ الرِّجَالِ". فإنَّ مُدْمِنَ المُسْكِرات والمُخَدِّرات لا يستطيع التَّخَلِّي عن شُرْبِها, وربما أدى به الحالُ إلى التَّخَلِّي عن الضَّروريات أو الحاجيات؛ بسبب تبذير المال, فيَفْسُدُ بذلك عَقْلُه ودِينُه ودُنياه.
ووَصَفَ ابنُ القَيِّمِ الخَمْرَ بأنها: "تُورِثُ الخِزْيَ والنَّدامةَ والفَضِيحَةَ, وتُلْحِقُ شارِبَها بأنْقَصِ نَوعِ الإنسان؛ وهُم المَجانِين, وتُسْلِبُه أَحْسَنَ الأسماءِ والسِّمَات, وتَكْسُوهُ أقْبَحَ الأسماءِ والصِّفات, وتُسَهِّلُ قَتْلَ النَّفْس, ومُؤاخاةَ الشَّيَاطِينِ في تَبْذِيرِ المال.
وتُهَوِّنُ ارْتِكابَ القبائِحِ والمَأْثَم, وتُخْرِجُ مِنَ القلب تَعْظِيمَ المَحارِم. ومُدْمِنُها كعابِدِ وَثَنٍ, وكَمْ أهاجَتْ من حَرْبٍ! وأفْقَرَتْ من غَنِيٍّ! وأذَلَّتْ من عَزِيز! ووَضَعَتْ من شَرِيف! وسَلَبَتْ من نِعْمَة! وجَلَبَتْ من نِقْمَة! وفَسَخَتْ من مَوَدَّة! ونَسَجَتْ من عَدَاوَة! وكم فَرَّقَتْ بين رَجُلٍ وزَوْجِه! وكَمْ أَوْرَثَتْ من حَسْرَة! وأجْرَتْ من عِبْرَة! وكَمْ أَغْلَقَتْ في وَجْهَ شارِبِها باباً من الخير, وفَتَحَتْ له باباً من الشَّر, وكَمْ أَوْقَعَتْ في بَلِيَّة! وعَجَّلَتْ من مَنِيَّه! وكَمْ أَوْرَثَتْ من خِزْيَة! فَهِيَ جِمَاعُ الإِثْمِ, ومِفْتاحُ الشَّر, وسَلاَّبَةُ النِّعَم, وجَلاَّبَةُ النِّقَم". فكيفَ لو رأى ابنُ القيِّم -رحمه الله- ما تَفْعَلُه المُخَدِّرات بأصْحابِها؟!
ومِنْ أضْراها المُتَعَدِّيَةِ على الأُسْرَة: فإنَّ مُتَعاطِيها مُقَصِّرٌ في أُسْرَتِه, مُضَيِّعٌ للمال في هذه السُّمُوم. وأمَّا مفاسِدُها الاجتماعية فلا تُعدُّ ولا تُحْصَى؛ لأنَّ مُتَعاطِيها تَتَأثَّرُ قُواهُ العَقْلِية, ويَخْرُجُ بذلك عن تَصَرُّفاتِ العُقَلاء, وحُدودِ الشَّرْع, وقُيُودِ العادَةِ والطَّبْع, ويكون مُسْتَعِدًّا لإِحْداثِ كُلِّ رَذِيلَةٍ اجْتِماعِيَّة, وَلِمُقارَفَةِ كُلِّ جَرِيمَة؛ كالقَتْلِ والزِّنا والسَّرِقَة ونحوِها.
وأمَّا الأَضْرارُ المُتَعَدِّيَةُ إلى مُحِيطِ الأُمَّة: فإنَّ كُلَّ أُمَّةٍ انْتَشَرَ فيها داء المُسْكِرات والمُخَدِّرات تُصابُ بالوَهَنِ, والتَّفَكُّكِ في روابِطِها وعلاقاتِها, وتَنْتَشِرُ ضَغائِنُ العداوةِ والبَغْضاءِ بين أفرادِها؛ بِسَبَبِ ما يَقَعُ من جرائِمِ على النَّفْسِ, والعِرْضِ, والمَال. وتَضْعُفُ كذلك القُوَّةُ الإنتاجية؛ بسبب تأثِيرِ المُسْكِرات على القُوَّةِ العامِلَة, والقُوَّةِ المُدافِعَةِ عن حُرُماتِها ومُقَدَّساتِها, وربما نَتَجَ من ذلك إفشاءُ أسْرارِ الدَّولةِ إلى الأعداء بِسَبَبِ سيطرةِ الشَّهَوات على أفرادِها, فلا تُفْلِحُ في حياة الدنيا, ولا في الآخِرَة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم