المدنية وأثرها على القيم والفضائل

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ الحضارة نعمة توجب شكر المنعم   2/عصر التمدن وأثره السيء 3/المدنية الزائفة وانخداع كثيرين بها 4/صور من تأثر المسلمين بالتمدن المزيف 5/واقع الغربيين اليوم

اقتباس

إن العلم عندما يساء استخدامه، والاختراعات الحديثة عندما تسخر لإفساد الضمائر، وهدم الوجدان، وقتل روح الإنسان، فإن المدنية تتحول عند ذلك إلى فساد وإجرام وقسوة وجحيم، حيث تخفق القيم الأخلاقية، وتنحدر كرامة الإنسان، وتنهزم روحه وقيمه إلى الهاوية والسفول...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

الحمدُ لله العليمِ الحكيم، يَهدي مَن يشاء إلى صِراط مستقيم، ويضلُّ مَن يشاءُ عن المنهجِ القويم، لا يُسأل عمَّا يفعَل والخلقُ يُسألون، أحمده ربِّي وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله الرحمن الرحيم.

 

وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله ذو الخلُق الكريم، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: لا يشك عاقل أننا نعيش اليوم في عالم التمدن والحضارة، وعصر التكنولوجيا وثورة المعلومات وزمن الاختراعات، وما تبعها من انتشار للوسائل العديدة والأجهزة المختلفة التي لن يصدق أحد من أجدادنا الأولين أنها ستصل إلينا.

 

إن هذه الحضارة المادية التي وصلنا إليها هي نعمة من الله تستحق منا الثناء والشكر لله رب العالمين الذي (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق : 5]، (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النساء : 113]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء : 70].

 

إن الواجب علينا بعد شكر الله -سبحانه وتعالى- على هذه النعم العظيمة والآلاء الجسيمة التي منّ بها علينا في هذا العصر أن نُسخرها في طاعة الله، ونغتنمها في الازدياد من عبادة الله والقرب منه، ولكن -للأسف الشديد- ما نراه اليوم في واقعنا وعند أكثرنا هو العكس تماماً.

 

إن هذه المدنية التي نعايشها، والثورة الصناعية التي بين أظهرنا، جعلتنا نعيش حياة مادية بهيمية جافة، وأثرت فينا بماديتها وجفافها، حتى صرنا -إلا من رحم الله منا- لا نؤمن إلا بالمادة، ولا نصدق إلا بالمحسوسات، ولا نوقن إلا بالملموسات والمشاهدات.

 

فقلّ في قلوبنا الخوف من الله، وضعف في نفوسنا الإيمان بالغيب، وصار كثير منا يعاني من القلق، والتوتر، وقسوة القلب، وجفاف الروح، وصعوبة التعبد، بسبب هذه المدنية الزائفة التي طبعت قلوبنا بماديتها وخشونتها، وصدق الله -سبحانه وتعالى- إذ يقول: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر : 18]، ويقول: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس : 11].

 

فمن ضعف الإيمان بالغيب في قلبه ضعف عنده اليقين، وفترت جوارحه عن الطاعة، وتكاسل عن أداء الصلاة والعبادة، وهذا هو واقعنا اليوم في ظل هذه الحياة المدنية المعقدة.

 

عباد الله: إن حياة التمدن التي نعيشها اليوم أثرت في كثير منا تأثيراً عكسياً، فبدلاً من أن تؤثر في المتعلم منا تأثيراً إيجابياً إذا بها تؤثر فيه تأثيراً سلبياً، وتجعله مثقفاً لكنه خائراً، ومتعلماً ولكنه في نفس الوقت جاهلاً لئيماً، إلا من رحم ربك وقليل ما هم، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم : 7].

 

تجد بعضهم يظن أن من التمدن أن يتفلسف على الناس بكلامه، ويتشدق عليهم في خطابه، فتراه يكثر من الألفاظ الأجنبية والكلمات غير العربية، ويتشدق على الناس بكلماته اللكنة، ويحسب أنه هذا ضرب من التمدن والتحضر.

 

ولم يقتصر الأمر على مجال الكلام والحديث وإنما أيضاً في مجال الفعل والتطبيق، فتجدهم في لبسهم يحاكون الغربيين، ويقلدون الأوربيين والأمريكيين، فيلبسون كما يلبسون، ويأكلون كما يأكلون، ويتصرفون في أكثر تصرفاتهم كما يتصرفون، ويرون أن هذا هو قمة التمدن ورأس التحضر.

 

والأمر الذي لا يستساغ ولا يمكن أبداً أن يقبل أن يأخذوا من اليهود والنصارى بعض شعائرهم الدينية وطقوسهم التعبدية، ثم يقومون بفعلها وتطبيقها، فتجد بعضهم يعمل علامة الصليب إذا نجح فريقه في إدخال هدف في الفريق الآخر، أو يلبس بعض الملابس المكتوب عليها شيء من العبارات الدينية المقدسة عندهم.

 

ومن القبيح أيضاً أن نرى ونسمع -باسم المدنية والحضارة- أناساً يأخذون من الشرق والغرب كل منكر، ويقتبسون منهم كل شر، ويستوردون منهم كل قبيح، فتجدهم في سفاهتهم كالغربيين؛ يربون الكلاب، ويحترمون الخنازير، ويصحبون معهم ما يصحبه الغربيون، وإذا قيل لهم ما هذا؟ قالوا هذه الحضارة والتقدم.

 

حتى أننا نرى من أبناء المسلمين -وياللأسى والأسف- من لا تفرق بينه وبين أبناء الغرب، وتجده تعدى الغربيين أنفسهم في تميعه وتكسره وتخنثه وسفاهته، والمصيبة أنه لا يرى نفسه مستنكراً ولا مخطئاً، بل على العكس من ذلك يرى أنه مدني وصل إلى أعلى مراتب التطور والرقي، ومن لا يكن مثله فإنه بليد متخلف لا يفهم الحضارة ولا يعرف التطور.

 

ومن أنكر عليه أفعاله وسذاجته قال: أنتم متخلفون! أنتم لا تفهمونّ! أنتم لن تتطوروا ولن تتقدمواّ! الناس وصلوا إلى أعلى القمم وأنتم لا زلتم تسيرون خلف الأمم! ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين وأنتم تريدون أن تُسيّرونا بعقلية القرون الوسطى.

 

بل إن من المصائب العظام والأمور الطوام أن يرى بعض المسلمين أن منهج الله ودينه لا يصلح لهذا الزمن، ولا يتناسب مع متطلبات العصر، ويرى أن أحكام الشريعة لا يمكن تطبيقها اليوم؛ لأننا نعيش في عصر التقدم والزهو الذي لا يتناسب معه القطع والرجم والقتل (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف : 5].

 

إنها -والله- ليست حضارة ولا تقدم ولكنها الإمعية، والتقليد الأعمى، والتبعية البلهاء، والأدمغة المستعمرة التي أخبر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ" [البخاري (3456) مسلم (2669)].

 

هكذا يشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- تقليدهم لليهود والنصارى، ومتابعتهم لهم، وسيرهم خلفهم في كل صغيرة وكبيرة، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، بأنهم كجحر الضب وثقبه الذي يعيش فيه، والذي يكون دائماً من شدة ضيقه منتناً عفناً متسخاً، حاله كحال أخلاق هؤلاء المقلدين لليهود والنصارى في أخلاقهم الذميمة وعاداتهم الفاسدة التي تفوح منها رائحة النتن، وتزكم منها أنوف الإنسانية من كثرة وقوعها في مستنقع الأوحال والرذائل والآثام

.

فلنتق الله في أنفسنا، ولنعتز بديننا وقيمنا وحضارتنا، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : 8].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم و بارك على البشير النذير، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الناس: ليس معنى هذا أننا ننكر واقع الغربيين وما وصلوا إليه من تطور مادي وتقدم علمي هذا شيء معروف، وهو في الحقيقة إنما هو علمنا وتراثنا أخذوه وطوروه يوم أن تخلفنا وتركنا قيمنا وحضارتنا، وما خلفه لنا علماؤنا من علم وفير وحضارة عامرة. لكن الذي ننكره أن نقوم بتقليدهم في الشر، ومحاكاتهم في المنكر، ونستبدل قيمنا الأصيلة ومبادئنا العزيزة بقيمهم النتنة، وحضارتهم المزيفة، وأفعالهم السيئة الهابطة.

 

لماذا لم نأخذ منهم البحث العلمي، والانتاج الصناعي، والتطور التكنولوجي، واحترام الأنظمة الصحيحة، وأخذنا منهم ثورة الجنس، وثقافة العولمة، والأفكار الهدامة، والقيم الفاسدة، والبغاء، والمخدرات، والتفكك الاجتماعي، والانحطاط الأخلاقي؟!!.

 

إن التمدن الذي يزعمه البعض منا ويحب أن يطبق في واقعنا؛ هو الذي جعلنا نسمع بجرائم وفواحش رهيبة لم نسمع بها من قبل، ولم يعرفها أباءونا ولا أجدادنا، فلم نكن نسمع بالاغتصاب، واختطاف القصر، والإدمان، والشذوذ، والحشيش، والحبوب والمخدرات.

 

أيها الناس: إن العلم عندما يساء استخدامه، والاختراعات الحديثة عندما تسخر لإفساد الضمائر، وهدم الوجدان، وقتل روح الإنسان، فإن المدنية تتحول عند ذلك إلى فساد وإجرام وقسوة وجحيم، حيث تخفق القيم الأخلاقية، وتنحدر كرامة الإنسان، وتنهزم روحه وتزلق قيمه إلى الهاوية والسفول.

 

إن دعاة الحضارة والمدنية اليوم متأخرون جداً، فأوروبا التي يزعمون أنها أم الحضارة والرقي تصرخ اليوم، فالمرأة هناك التي يسمونها متحضرة تبكي صارخة مولولة؛ لأنها فقدت سعادتها وأمومتها وبيتها وأطفالها.

 

بل إن نسب الانتحار عندهم تزداد عاماً بعد عام، والأمراض النفسية والعصبية منتشرة بينهم بنسب عالية جداً، حيث أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية السويدية أن 25% من السكان يصابون بأمراض عصبية ونفسية، وأن 30% من مجموع المصروفات الطبية في السويد تنفق في علاج الأمراض العصبية والنفسية، وأن 40% من مجموع الأشخاص الذين يحالون إلى التقاعد قبل سن المعاش بسبب العجز التام عن العمل هم من المرضى المصابين عقلياً، مع العلم أن الأمراض الجنسية لا تدخل في هذه الإحصائيات، هذا في السويد التي تعد من أرقى الدول الاسكندنافية التي هي أرقى دول العالم، وأرقى بلاد الحضارة الغربية كما يقولون، فياليت قومي يعلمون.

 

وصدق الله -تبارك وتعالى- إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه 124: 127].

 

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم الذي أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

 

اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ التَّثْبِيتَ فِي الْأُمُورِ ، وَعَزِيمَةَ الرُّشْدِ ، وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ.

 

اللهم إنا نعوذ بك من الفجور والغرور ومن تقليد الكفرة واليهود.

 

 

 

 

المرفقات

وأثرها على القيم والفضائل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات