عناصر الخطبة
1/ تساؤلات وهموم وسط صخب الحياة 2/ قيم ومفاهيم ومعانٍ غائبة تبعث الطمأنينة والأمل 3/ التفاؤل دأَب الأنبياء 4/ هدي النبي الكريم في التفاؤل وصناعة الأمل 5/ ثمرات التفاؤلاقتباس
إنَّ التفاؤلَ يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفِّزُه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب؛ والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنَّهُ يتطلَّعُ للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يَتْبَعُ كل عسر. لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، وكان يحارب اليأس والتشاؤم، ويصنع الحياة، ويزرع الأمل مهما...
الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان.
أحمده -سبحانه- وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه؛ أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عـــــــالم الغيوب مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
سهِرَتْ أعينٌ ونامَتْ عُيُـونُ *** في شُؤونٍ تكونُ أوْ لَا تكونُ
فاطْرَحِ الهَـمَّ مـا اسْتَطَعْتَ عن النَّفْـــ *** ــــسِ فحمْـلَانك الهمـومَ جنـونُ
إنَّ رَبَّاً كفاك ما كان بالأمـــــْـــ *** ــــسِ سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها السماوات السبع والأرض المهاد، وخضع لها جميع العباد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الحوض، وشفيع الخلق يوم المعاد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أمَّا بَعْـــد: عباد الله: مع صخب الحياة ومتطلباتها ومشاكلها، وضعف الوازع الديني، وفساد القيم والأخلاق في نفوس الكثير من الناس، والتنافس على الدنيا ونسيان الآخرة؛ ومع كثرة النزاعات والفتن والحروب التي تعصف بالدول والشعوب والمجتمعات، ومع تعدد الكوارث والحوادث، ومع حلول الأمراض والأوبئة من إنسان لآخر؛ يتساءل المرء: إلى متى يعيش الإنسان هكذا حياة؟ وهل لهذه المشاكل والابتلاءات من نهاية؟ وكيف يمكن للإنسان يعيش في ظل هذه الأوضاع بنفس مطمئنة؟ وكيف يستطيع أن يتجاوزها ويخرج منها وقد حفظ دينه وأمانته وأخلاقه، وقام بما عليه من واجبات؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يمنع اليأس والتشاؤم من أن يصل إلى حياته؟ وهل يجب أن نتفاءل ونستبشر بقدوم الفرج وتبدل الأحوال وتغير الظروف وزوال الغمة وحلول النعمة، رغم ما يحيط بنا وما يظهر لنا وما ينزل بساحتنا وحياتنا من مصائب وابتلاءات؟ وما هي القوة التي يجب أن نلجأ إليها ونثق بها ونستمد منها العون والمدد والنصر ونطلب منها تبديل الأحوال وتغيير الظروف؟.
ومِن خلال هذه التساؤلات التي تجول بخواطرنا وأصبحت جزءاً من همومنا، ومن خلال القرآن الكريم والسنة النبوية والواقع وأحداث الزمان ومسيرة الأفراد والمجتمعات والشعوب، أقول: إن هذه الدنيا جبلت على كدر، يقول -سبحانه-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، أي: في مكابدة ومعاناة منذ مولده، في دارٍ كلّها بلاء وعناء وكدر، أحسن في وصفها الإمام علي -رضي الله عنه- لمن سأله عنها فقال: دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء.
ووَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله:
جُبلت على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها *** صفواً من الآلام والأكدارِ
ومُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نار
وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، وقال -سبحانه- وهو أصدق القائلين: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، وقال -تعالى-: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) [آل عمران:186].
ومع ذلك فإنه ينبغي للمسلم أن يدرك طبيعة الحياة، وعليه أن يستعين بمن خلقها وأوجدها وهو المولى -سبحانه وتعالى-، فيقوي إيمانه، ويؤدي ما افترضه عليه، ويبذل من الأسباب ما يستطيع، ويكون عنده أمل ويقين بأن الله يبتليه بالضراء وهو أرحم به من نفسه، وأنه هو القادر على كشف الضر ودفع البلاء وتبديل الأحوال، وما من شيء يقع أو يحدث في الأرض أو في السماء إلا بأمره -سبحانه وتعالى- القائل: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
وأن هذه الحياة إلى زوال، وأن الآخرة خير وأبقى، وأن سعادة الدنيا رغم ما فيها لا يحصل عليها العبد إلا بإيمان صادق، وعمل خالص.
وهذه القيم والمفاهيم والمعاني تغيب على الكثير؛ بسبب ضعف الإيمان، ومع قوة البلاء وكثرة الفتن وضيق الحال يكون السقوط في فتنة هي أعظم وأشدّ، قال -تعالى-: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) [الحج:11].
أيها المؤمنون عبــاد الله: إن على الإنسان أن يتفاءل بالخير مهما كانت الظروف، فسواد الليل يأتي بعده ضياء الصباح، وإن البرق والرعد مهما كانت شدته وخاف الناس من سطوته فإنه يأتي محملاً بالأمطار والخير.
إذا اشْتَمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ *** وضاقَ لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهـَاً *** ولا أغنـى بحيلتـِه الأريـبُ
أتاك على قُنُـوطٍ منك غَـوْثٌ *** يَمُـنُّ به اللطيفُ المسـتجيبُ
وكل الحـادثاتِ وإنْ تَنَـاهَتْ *** فموصـولٌ بها الفرجِ القريب
لما جاءت إبراهيم -عليه السلام- البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر:54]، فماذا كان جوابهم؟: (قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر:55-56].
ويعقوب -عليه السلام- وقد فقد ولديه وبصره أربعين عاماً، وما زال أمله بالله أن يردهما إليه وأن يجمعهما به، فكان يوصى أبناءه قائلاً لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
وحقق الله أمل يعقوب ورجاءه، وَرَدَّ عليه بصره وولديه، لم يتطرق اليأس إلى قلبه لحظة واحدة؛ لأن قلبه موصول بالله، متوكلٌ عليه، واثقٌ من قدرته ورحمته.
وهذا موسى -عليه السلام- وقومه وقد تبعهم فرعون وجنوده حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعون من خلفهم قال اليائسون والمتشائمون: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61], فقال لهم نبي الله موسى -عليه السلام- في ثقة وتفاؤل ويقين، يريد أن يصنع حياتهم ومستقبلهم من جديد: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، فأمره الله -سبحانه- أن يضرب بعصاه البحر، فانشق نصفين، وكان كل فرق كالطود العظيم، ومشى مع قومه في طريقٍ يبس.
قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة:155-156]، فما بعد العسر إلا يسر، وما بعد الكرب إلا فرج، وما بعد الضيق إلا سعة؛ قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110]، حتى إذا بلغ اليأس مداه عادت الحياة وجاء الفرج منه -سبحانه-.
عبــاد الله: إنَّ التفاؤلَ يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفِّزُه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب؛ والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنَّهُ يتطلَّعُ للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يَتْبَعُ كل عسر.
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، وكان يحارب اليأس والتشاؤم، ويصنع الحياة، ويزرع الأمل مهما كانت الظروف.
والمتأمّل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك، يخاطب -صلى الله عليه وسلم- يوماً عدي بن حاتم يبشّره ويقول، كما روى ابن هشام في سيرته: "لعلّك -يا عديّ- إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم (أي حاجة المسلمين وفقرهم)، فوالله! ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه! ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله! ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف! ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله! ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم"، قال عديّ: فأسلمت.
بل عندما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وقد أرسلت في طلبه قريش وقد أباحت دمه وهو في الصحراء لا طعام ولا شراب، والموت يترصده في أي لحظة، فإذا بسراقة بن مالك أحد فرسان قريش خلفه قد غاصت قدما فرسه في التراب، فينظر إليه رسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له بكل ثقة وتفاؤل: "يا سراقة، لم تصنع هذا؟"، قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: "أوليس لك بخير منها؟"، قَالَ: وما هما، قَالَ: "سواري كسرى" رواه البخاري ومسلم.
أيها المؤمنون عبــاد الله: لقد سلك الإسلام كل سبيل في غرس روح التفاؤل بالخير في المجتمع المسلم، فأمرنا -صلى الله عليه وسلم- بأن نلقى إخواننا بوجه طلق حتى نشيع في المجتمع روح التفاؤل والأمل, فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إِنَاءِ أَخِيكَ" أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
كما أمرنا بإفشاء السلام بيننا حتى تسود المحبة والألفة, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ" رواه أحمد ومسلم.
وأمرنا -كذلك- بمجالسة الجليس الصالح الذي يشبه حامل المسك؛ حتى نتلمس من مصاحبته روح الصلاح والخير.
وفي حديث الأنصاري الذي لزم المسجد حزيناً من كثرة همومه وديونه, أرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى استبدال اليأس بالأمل والتفاؤل, وأن عليه أن يترك اليأس والتشاؤم ويحسن التوكل على الله -تعالى-.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: "يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَالِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ؟". قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟". قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي" أخرجه أبو داود.
كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إشاعة روح التشاؤم في المجتمع بسب الدهر أو الادعاء بأن الناس قد هلكوا، وأن الخير قد انتهى من الناس.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ" أخرجه أحمد.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْخَيْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" أخرجه أحمد والبخاري ومسلم.
ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن تقنيط وتيئيس المرء لمن حوله مهما كانت الظروف والأحوال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وفي رواية: "إِذَا سَمِعتُمْ رَجُلاً يَقُولُ: قَدْ هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، يَقُولُ اللهُ: إِنَّهُ هُوَ هَالِكٌ" أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم.
نعم، من قال هلك الناس، لا فائدة مما نقوم به، لن تتعدل الأوضاع، لن يأتي الفرج، ذهب الخير؛ من يقول هذا فإنه يقتل الحياة ويغتال الأمل ويزرع اليأس، ويكون أول الهالكين.
اللهم اهد قلوبنا، وزينها بالإيمان والتقوى، قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطــبة الثانــية:
عبــاد الله: إن للتفاؤل ثمرات في حياة الإنسان مهما كانت الظروف والأحوال، فبه تتجدد الحياة، ويزيد الإنتاج والعطاء، وبه يتغلب المرء على المعوقات والصعاب، وهو طريق للتوبة والرجوع إلى الله وترك الذنوب والمعاصي والسيئات، قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
والتفاؤل يبعث في النفوس الراحة والطمأنينة، فلا يخاف المؤمن على رزقه، ولا يخشى من أجله، قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابَاً مُؤَجَّلَاً) [آل عمران:145].
والتفاؤل يدفع المؤمن ليحسن الظن بالله، ويوجهه ليصنع من المحنة منحة، ومن الكرب والعسر والضيق طريقاً وسبيلاً للبحث عن الفرج واليسر والخلاص.
فثقوا بالله، وأمّلوا به، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل، ولا تكونوا معول هدم، ولا سببا في تقنيط الناس من رحمة الله، وابذروا الخير والأمل، واعملوا على تآلف القلوب واجتماع الصفوف، فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب الفتن والابتلاءات باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، يقول -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
فقد مرت الأمة بأزمات وفتن، وابتليت بمصائب، فدفع الله عنها ذلك، وحفظها من كل سوء، وبعث فيها الحياة من جديد عندما عادت إليه وصدقت في حمل دينه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومهما خطط البشر، ومهما بلغ كيدهم ومكرهم، فإن الله من ورائهم محيط، ولا يكون إلا ما يريد، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألف بين قلوبنا؛ ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم