عناصر الخطبة
1/ تأملات في معاني حديث \"المؤمن مرآة أخيه\" 2/ أوجه الشبه بين المرآة والمؤمن 3/ مجالات الأخوة النافعة 4/ أمور تهوي بصرح الأخوة 5/ أهمية النصيحة الصادقة 6/ وجوب الحرص على الأخ الصالح .اقتباس
"الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ" .. ثلاثُ كلماتٍ .. ولكنَّها ليستْ كسائرِ الكلماتِ .. لأنَّها خرجت من فمِ الذي لا ينطقُ عن الهوى .. إن هو إلا وحيٌ يُوحى .. هو القائلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ" .. فالألفاظُ منه قليلةٌ .. والمعاني فيها جليلةٌ .. وكلماتُه في حروفِه يسيرةٌ .. ولكنَّ الفوائدَ في قاعِها غزيرةٌ. فتعالوا نغوصُ لنرى ما في أعماقِ هذه الكلماتِ الثَّلاثِ من بيانٍ .. ونستخرجُ بعضَ ما فيها من لؤلؤٍ وياقوتٍ ومُرجانٍ .. وتعالوا نسمعُ ما هو وجهُ الشَّبهِ بينَ المرآةِ وبينَ أهلِ الإيمانِ. فنقولُ -مُستعينينَ باللهِ تعالى-: إنَّ أولَ الصِّفاتِ التي تتميَّزُ به المرآةُ هو الصِّدقُ .. فالمرآةُ تعكسُ الصُّورةَ على طبيعتِها الحقيقيَّةِ .. ولا يُمكن أن ترى فيها إلا الواقعَ .. وهكذا المؤمنُ الحقيقيُّ صادقاً في كلِّ أحيانِه...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أَمَّا بَعدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الكَلامِ كَلاَمُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّم، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
"الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ" .. ثلاثُ كلماتٍ .. ولكنَّها ليستْ كسائرِ الكلماتِ .. لأنَّها خرجت من فمِ الذي لا ينطقُ عن الهوى .. إن هو إلا وحيٌ يُوحى .. هو القائلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ" .. فالألفاظُ منه قليلةٌ .. والمعاني فيها جليلةٌ .. وكلماتُه في حروفِه يسيرةٌ .. ولكنَّ الفوائدَ في قاعِها غزيرةٌ.
فتعالوا نغوصُ لنرى ما في أعماقِ هذه الكلماتِ الثَّلاثِ من بيانٍ .. ونستخرجُ بعضَ ما فيها من لؤلؤٍ وياقوتٍ ومُرجانٍ .. وتعالوا نسمعُ ما هو وجهُ الشَّبهِ بينَ المرآةِ وبينَ أهلِ الإيمانِ.
فنقولُ -مُستعينينَ باللهِ تعالى-: إنَّ أولَ الصِّفاتِ التي تتميَّزُ به المرآةُ هو الصِّدقُ .. فالمرآةُ تعكسُ الصُّورةَ على طبيعتِها الحقيقيَّةِ .. ولا يُمكن أن ترى فيها إلا الواقعَ .. وهكذا المؤمنُ الحقيقيُّ صادقاً في كلِّ أحيانِه .. يقولُ اللهُ تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون) [النحل: 105].. وهذا مقياسٌ عظيمٌ لمعرفةِ إيمانِ العبدِ .. لأنَّ المؤمنَ لا يفتري الكذبَ العمدَ.
بل قد يرفعُكَ الصِّدقُ إلى أعلى منزلةٍ .. كما يضَعُكَ الكَذبُ إلى أرذلِ منزلةٍ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".. نعوذُ باللهِ تعالى من الخُذلانِ.
وأما الصِّدقُ مع أهل الإيمانِ .. فالمسئوليَّةُ فيه أعظمُ .. والتهاونُ فيه أجرمُ .. لأنَّهم قد جالسوكَ طاعةً للهِ –تعالى- .. كما قالَ لهم –سُبحانَه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].. فلا تُخيِّبْ ظنَّهم الجميلَ فيكَ.
ومن صفاتِ المرآةِ أنَّها ناصحةٌ، فهي تُريكَ ما فيكَ دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ، وكذلكَ المؤمنُ لأخيه، لا يكتمُ من عيوبِه شيئاً، ولا يمدحُه بما ليسَ فيه، كيف لا، ودينُه كلُّه نصيحةٌ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، بل هي من حقوقِ المُسلمِ على أخيه كما في الحديثِ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ومنها: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ".
فالمؤمنُ يبذلُ النَّصيحةَ للجميعِ .. فهذا منهجُ حياتِه .. عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ –وكَانَ وَاليَاً على الكُوفَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاويَةَ رضيَ اللهُ عَنْهُم-، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الْآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ".
وإذا أرادَ أن ينصحَ .. فإنَّه يتحرَّى أرَقَّ الكلماتِ .. وأفضلَ العِباراتِ .. وأصفى الأوقاتِ .. وبعيداً عن النَّاسِ في الخَلواتِ .. قالَ الفضيلُ -رَحمَه اللهُ-: "المؤمِنُ يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفَاجرُ يَهتِكُ ويُعيِّرُ". وكما قالَ النَّاظمُ:
تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيْحَةَ فِي الجَمَاعَه
فَإِنَّ النُّصْـحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيْخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَه
وَإنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْـتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْـطَ طَاعَه
ومن صفاتِ المرآةِ أنها تُظهرُ لك العيبَ واضحاً لتراه .. ثُمَّ تَصمتْ .. وهكذا المؤمنُ إذا نصحَ فلا يُكثرُ العِتابَ والتَّوبيخَ .. وإنما التَّذكيرُ من حينٍ إلى حينٍ .. وكما قالَ تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55]..
ومن كَثرتْ مًعاتبتُه فارقَه الإخوانُ .. وهجرَه الأحبابُ.
إذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً *** صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ *** فَإِنَّهُ مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه
إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى *** ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
ومن صفاتِ المرآةِ يا عبادَ اللهِ .. الصَّفاءُ .. فلا تُسمى المرآةُ مرآةً ولا تعكسُ صورةً حتى تكونَ صافيةً .. وهكذا المؤمنُ صافياً نقيَّاً خاصةً لإخوانِه .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا"، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".. يُحبُ لأخيه ما يُحبُه لنفسِه .. يتمنَّى له الخيرَ ولا يحسدُه .. ولا يغُشُّه ولا يخدعُه ولا يخونُه.
يقولُ الشَّيخُ عبدُ العزيزِ السَّدحانُ -وفقَّه اللهُ تعالى- في كتابِه "الإمامُ ابنُ بازٍ دروسٌ ومواقفُ وعبرٌ": وقد سألتُه ذاتَ مرةٍ في سيارتِه، وقلتُ ما معناه: يا شيخُ عبدُ العزيزِ ما أعلمُ أحداً إلا يحبُّك ... صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أُنثى، وهذا أمرٌ شِبه متفقٍ عليه، فما السِّرُ يا شيخُ في ذلكَ؟ .. فحاولَ الشَّيخُ -رحمَه اللهُ- أن يتعذرَ من الجوابِ .. فكرَّرتُ السُّؤالَ مرةً أو مرتينِ .. فقالَ ما معناه: "ما أعلمُ في قلبي غِلَّاً على أحدٍ من المسلمينَ، ولم أعلمْ بين اثنينِ شحناءَ إلا سارعتُ بالصُّلحِ بينهما" .. وهذا هو وصفُ من خَلفَ المُهاجرينَ والأنصارَ .. (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
وكيفَ يكونُ في قلبِ المسلمِ على أخيه شيءٌ من الشَّحناءِ .. وقد جاء في ذلكَ الوعيدُ المُخيفُ للعُقلاءِ .. قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" .. ومن علمَ "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" .. علمَ أن خصامَ الإخوانِ .. هو طاعةٌ للشَّيطانِ .. ومعصيةٌ للرَّحمنِ .. فكنْ مُعتذراً ندمانَ .. حتى تكونَ في قائمةِ الغُفرانِ.
ومن صفاتِ المرآةِ .. أنها لا تَعكسُ صورتَك إلا في حضورِكَ .. فإذا غِبتَ زالتْ صورتُكَ .. وهكذا المؤمنُ يحفظُ أخاهُ في غيابِه .. ويسترُ عُيوبَه .. ولا يذكرهُ بسوءٍ أمامَ الآخرينَ .. جاءَ في الحديثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ، قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
يقولُ يحيى بنُ مَعينٍ -رحمَه اللهُ تعالى-: "ما رأيتُ على رجلٍ خطأً إلا سترتُه، وأحببتُ أن أُزيِّنَ أمرَه، وما استقبلتُ رجلاً في وجهِه بأمرٍ يكرهُه، ولكنْ أُبيِّنُ له خطأهَ فيما بيني وبينَه، فإن قَبلَ ذلكَ وإلاَّ تركتُه".
والمرآةُ لا تُريكَ إلا الظَّاهرَ .. ولا تعكسُ شيئاً من الباطنِ .. وهكذا المؤمنُ يُعاملُ النَّاسَ بما يظهرُ منهم .. ولا يتكلَّفُ بواطنَ الأمورِ .. وقد أعطى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- درساً للصَّحابةِ .. بأن يحكموا على الظَّاهرِ .. كما في قصَّةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟"، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟، "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فلا تجدُ المؤمنُ إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بأخيه .. ويحملُ كلامَه على أحسنِ محملٍ .. ويلتمسُ لخطئه عُذراً .. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رحمَه اللهُ-: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ أَصَبْتَهُ، وَإِلا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لا أَعْرِفُهُ".
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، جعلَ المسلمينَ إخوةً مُتَّحابينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أن محمَّداً عبدَه ورسولَه الصادقُ الأمينُ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعدُ: أيها الأحبابُ .. عندما تنظرُ في المرآةِ فإنكَ لا ترى إلا نفسَك .. وهكذا المؤمنونَ روحٌ واحدةٌ .. في جسدٍ واحدٍ .. يقولُ اللهُ تعالى في حادثةِ الإفكِ: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور: 12] .. فوصفَهم بأنَّ المؤمنينَ والمؤمناتِ نفسٌ واحدةٌ .. فكيفَ يظنُّ المؤمنُ بنفسِه شرَّاً؟!
وقالَ سُبحانَه: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) [الحجرات: 11].. يقولُ إمامُ المُفسرينَ ابنُ جريرٍ الطَّبريُ -رحمَه اللهُ-: "جعلَ اللَّامزَ أخاه لامزاً نفسَه؛ لأنَّ المؤمنينَ كرجلٍ واحدٍ فيما يلزمُ بعضُهم لبعضٍ من تحسينِ أمرِه، وطلبِ صلاحِه، ومحبتِه الخيرَ، ولذلك رُويَ الخبرُ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه قالَ: "المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الواحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمَّى والسَّهَرِ"، وهذا نظيرُ قولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29] بمعنى: ولا يقتلْ بعضُكم بعضاً".
فاحرصْ على الأخِ المؤمنِ الصَّالحِ .. الذي ترى فيه نفسَك .. وتُصلحْ به عيبَك .. يُذكِّرُكَ إذا نسيتَ .. ويُعينُكَ إذا ذكرتَ .. كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ: لَوْلَا أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُكَابَدَةُ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ".
فإذا وجدتَ المؤمنَ الصَّادقَ النَّاصحَ .. فاصبر عليه أعظمَ الصَّبرِ .. كما أوصىَ اللهُ تعالى نبيَّه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
اللهم ارزقنا صحبةَ الأخيارِ، وأوردنا طريقَ الأبرارِ، واجعل الجنَّةَ لنا خيرَ دارٍ، اللهم زيِّنا بالإيمانِ واجعلنا هُداةً مهديِّينَ.
اللهمَّ إنا نسألُك الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى، اللهمَّ آتي نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ إنا نسألُك البِّرَّ والتَّقوى، ونسألُك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهمَّ إنا نعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن عينٍ لا تدمعُ، ومن دعوةٍ لا تُسمعُ اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك من هؤلاءِ الأربعِ.
اللهم إنَّا نسألُك نصرَ الإسلامِ وعِزَّ المسلمينَ، اللهم انصر الإسلامَ وأعزَّ المسلمينَ، واحمي حوزةَ الدِّينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمنَّا مطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنَّا في أوطانِنا، واستعملْ علينا خيارَنا، واجعلْ ولايتَنا في عهدِ من خافَك واتَّقاكَ، واتبع رِضاكَ يا ربَّ العالمينَ..
اللهمَّ أيدْ إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشَّريفينِ بتأييدِك، اللهم انصرْ به دينَك وكتابَك وسنَّةَ نبيِّك يا ربَّ العالمينَ، اللهم ارزقه البِطانةَ الصَّالحةَ، التي تَدلُه على الخيرِ وتعينُه عليه، واصرفْ عنه بطانةَ السُّوءِ والشَّرِّ، اللهم وفِّقه لهداكَ واجعلْ عملَه في رِضاكَ، وأمدَّ في عمرِه على طاعتِك يا ربَّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم