اقتباس
وما زال الإنسان يسعى سعيًا دؤوبًا إلى وسائل أسرع وآمن وأكثر خصوصية وسرية للتواصل وللتسلية، فابتكروا وسائل متعددة للتواصل وكان أبرزها الخطابات التي كانت تُنقل بواسطة البريد على ظهور الحمير، أما المستعجل منها فعلى ظهور الخيول، ثم اختُرِع القطار فنُقل فيه البريد، واختُرِت الطائرة فتولت نقل البريد الدولي الذي قرب المسافات بين الدول والقارات...
قديمًا كان التواصل بين البشر -الذين باعدت بينهم الأماكن- مملًا بطيئًا، لقد كان الرسول يحمل الرسالة الحجرية أو الجلدية ويخرج بها قاطعًا المسافات الشاسعة عبر الصحاري والجبال والوديان حتى يبلغ المرسَل إليه في ليال وأيام، متعرضًا في رحلته هذه للموت أو للقتل أو على الأقل للمتاعب والإجهاد ومفارقة الأهل والأحباب، ثم يقطع نفس تلك المسافات في رحلة الإياب.
ولقد كان الحدث الضخم يقع في بلد من بلدان المسلمين فلا يعلم به باقي المسلمين في البلاد الأخرى إلا بعد أيام أو أسابيع أو ربما شهور، أما من هم في المناطق النائية فقد يعيشون منعزلين عن جميع ما حولهم لأنه لا يوجد ما يصلهم بذلك العالم...
وقد يوَدِّع المسافر أهله ويفارق أسرته، فتنقطع عنهم أخباره وتنقطع أخبارهم عنه بمجرد مفارقته عتبة داره ويفتقدونه ويفتقدهم طوال شهور أو سنين هي مدة رحلته، حتى يفاجئوا به وقد عاد بلا ميعاد بعد أن كانوا في شك؛ أيعود سالـمًا أم لا يعود...
وفي مجال التعلم كان طالب العلم يرتحل الرحلة الطويلة ليأخذ عن أحد العلماء معلومة واحدة أو حديثًا واحدًا ثم يعود إلى وطنه بحِمْله من الأحاديث أو مسائل العلم بعدما تكلف من جهد مضن ووقت طويل ومال كثير أنفقه في سبيلها...
وكان الناس إذا أرادوا أن يسلُّوا أوقاتهم خرجوا إلى البرية فلعبوا بالحراب أو اصطادوا الطرائد... أما الفساق فقد كانوا يستقدمون الجواري المغنيات والراقصات يتسلون بهن...
وكانت كل هذه الأنواع من التواصل وتناقل الأخبار رتيبة بطيئة مملة، ودائمًا ما كان البشر يبحثون عن وسائل أسرع للتواصل فيما بينهم، فاستخدموا الحمام الزاجل الذي يسافر الأميال في جو السماء، لكنه كثيرًا ما كان يتعرض لمخاطر جمة في طريق ذهابه وإيابه، إلى جانب تعرض الرسالة نفسها -التي تُربَط في أرجله- للاستيلاء عليها أو الضياع أو التبديل...
وما زال الإنسان يسعى سعيًا دؤوبًا إلى وسائل أسرع وآمن وأكثر خصوصية وسرية للتواصل وللتسلية، فابتكروا وسائل متعددة للتواصل وكان أبرزها الخطابات التي كانت تُنقل بواسطة البريد على ظهور الحمير، أما المستعجل منها فعلى ظهور الخيول، ثم اختُرِع القطار فنُقل فيه البريد، واختُرِت الطائرة فتولت نقل البريد الدولي الذي قرب المسافات بين الدول والقارات...
واختُرِعت المطبعة التي كانت فتحًا عظيمًا في مجال الاتصال، فطُبِعت الصحف والمجلات التي كانت وسيلة أسرع لتناقل الأنباء والأخبار والتي كانت تُطبَع دوريًا كل ثلاثة شهور أو كل شهر، لكن الأحداث في العالم كانت وتيرتها وتتابعها أسرع فصارت تطبع أسبوعيًا ثم يوميًا، بل صار من الصحف ما يُطبع في اليوم مرتين؛ طبعة صباحية وأخرى مسائية، فأغنى ذلك كثيرًا في معرفة الأخبار أولًا بأول.
لكن نقل الأوراق والأحبار للأخبار كان قاصرًا؛ فهي مجرد كلمات وصور جامدة، ومن الأنباء ما يحتاج إلى شرح وتفصيل وبسط وتحليل، فناسب ذلك اختراع الراديو الذي ينقل الصوت البشري فيشرح ويوضح ويحلل، ثم كانت الصيحة والنقلة النوعية الكبيرة باختراع التليفزيون الذي ينقل الحدث المباشر في توه وساعته، ثم الهاتف الذي يتيح تخاطب اثنين يفصل بينهما مئات الأميال أو آلاف الأميال.
وطفق التقدم يطرح الجديد ثم الجديد، فرأينا الحاسوب التي ينظم المعلومات ويرتبها ويسهل الانتفاع بها، ثم وُصِلت الحواسيب ببعضها البعض فيما يُعرف بالشبكة العنكبوتية أو الإنترنت، وتطورت مواقع ذلك الانترنت تطورًا سريعًا في فترة قصيرة حتى ظهرت عليه مواقع التواصل الاجتماعي الذي جعل العالم -بالتكامل مع الهواتف والفضائيات- كالقرية الصغيرة، بل قل كالحجرة الصغيرة، فيستطيع الجالس على كرسي في حجرة متعددة الأجهزة في شرق الأرض أن يرى على شاشة التلفاز ما يحدث في غربها في نفس لحظة حدوثه، ويستطيع عبر الهاتف أن يتواصل مع من يريد من البشر في أي بقعة على وجه الأرض.
ويستطيع عبر مواقع الانترنت أن يطَّلع على المعارف والثقافات والبيئات المختلفة لشتى المجتمعات، أو أن يستقي المعلومات في أي من المجالات، أو أن يطلع على الإحصائيات والإحداثيات والكيفيات لأي شيء شاء وقتما شاء، ويستطيع من خلال مواقع التواصل أن يخلق الصداقات ويعلم ما يدور في قلوب الناس وفي عقولهم، ويستطيع من خلال النت أن يعقد الصفقات ويبرم العقود وينهي الأمور، بل ويستطيع أن يتجسس على أجهزة الآخرين فيعلم ما يفعلون وما يدخرون... كل هذا وهو لم يخرج من حجرته تلك...
ولعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد أشار إلى هذا كله في كنايات متعددة حين قال: "والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده" (الترمذي).
***
المهم أن وسائل التواصل ومعها وسائط التسلية والترفيه قد تطورت تطورًا رهيبًا ووصلت في عصرنا هذا ما لم تصل إليه في أي من العصور، وهذه الوسائل والوسائط ما هي إلا أجهزة وبرامج واختراعات معدنية لا توصف بحل ولا بحرمة، فالتلفاز -مثلًا- ما هو إلا جهاز معدني جامد لا حكم له بل الأصل فيه الإباحة، وإنما يُوصف بالحل والحرمة ما يُعرض عليه من مواد إعلامية؛ فإن استخدمه مالكه في تعلم العلم النافع وسماع القرآن الكريم ومتابعة البرامج الدينية... فالتلفاز في حقه من المباحات بل قد يكون من المستحبات، أما إن استغله لعرض الأفلام الفاضحة والقنوات الماجنة والبرامج الهابطة المفسدة فقد صار التلفاز في حقه من المحرمات الممنوعات... وقل مثل هذا على الصحيفة والمجلة والراديو والهاتف والحاسوب والانترنت بمواقعه المختلفة...
فلا إشكالية في أصل تلك الأجهزة والبرامج، وإنما تأتي الإشكالية الكبيرة في استخدامها، ولنا مع هذا الاستخدام وقفة بل وقفات.
لقد قامت أغلب القنوات الفضائية على غير أساس من دين أو من قيم أو من أخلاق، بل قام أغلبها مناوئًا ومعاديًا للدين وللشريعة، يرى فيهما عدوًا له وعائقًا في سبيل تقدمه وازدهاره، قد اتخذ من الدين هدفًا يوجه إليه سهام خبثه ومكره، يهاجم ثوابت الشريعة ويستهين بعلمائها ويمعن في مخالفتها؛ فيفسح شاشاته أمام الفاسقين والفاسقات وينشر الفحش والخنا والمجون والخلاعة والعري والخيانة وشتى الموبقات والمفسدات...
وأما الانترنت فإن عدد المواقع الإباحية ومواقع المجون عليه أضعاف أضعاف المواقع الصالحة النافعة! وأما الصحف والمجلات فإن أغلبها لا يخلو من مخالفات إن لم تكن قد أُسست من الأساس على محادة الشرع والدين والقيم والأخلاق!
وأما مواقع التواصل الاجتماعي فقد أساء الكثيرون استخدامها حتى صارت في أغلبها مضيعة للوقت وملهاة عن الصلوات والواجبات الشرعية ومروجة للعلاقات المحرمة بين الجنسين ومصيدة يستخدمها المحتالون لصيد فرائسهم...
***
لكن هل معنى أن الفساد غالب على تلك الوسائل أن نعتزلها ونتجنبها ونعدَّها رجسًا من عمل الشيطان... أقول: أما على مستوى الأفراد؛ الأب في بيته والأم في منزلها... فهما أدرى بحالهما فإن استطاعا أن يروضا هذه الوسائل والوسائط ويستفيدا من خيرها ويجنبا نفسيهما ومن يعولا شرها فاقتناؤها أفضل لهما، وإن كان العكس فاعتزالها ما استطاعا هو الأولى بهما، وهما أدرى بحالهما.
وأما على مستوى الأمة الإسلامية، على مستوى العلماء العاملين والدعاة والمصلحين والكُتَّاب والخطباء والعقلاء الواعيين النابهين... فلا خيار أمامهم إلا أن يشتركوا في المنافسة ويدخلوا حلبة الصراع فيُقدِّموا الثمين ليلفظ الناس التافه الحقير، ويُقدِّموا الحلال المباح ليعتزل متابعو وسائل الإعلام الحرام، ويقدموا النافع المفيد ليجد الناس فيه بديلًا عن الضار الساقط... لقد صار اقتحام تلك الوسائل الإعلامية والوسائط التواصلية على المصلحين اليوم من الواجبات المؤكدات ومن الفرائض المتحتمات.
فإن لم يفعلوا ويخوضوا غمارها وينافسوا منافسة قوية واعية راشدة على امتلاك زمامها، كانت الفتنة والفساد وكان الضياع والبوار وكانت الفجائع والعار والشنار؛ فودَّ الفاسدون المفسدون لو تخلو لهم الساحة الإعلامية فيجروا الناس جرًا إلى العلمانية ومعاداة الدين، ويسوقوا الناس سوقًا إلى الفسوق والفجور!
نقول: قد آن للإسلاميين أن يخوضوا ويقتحموا ويطلبوا الصدارة والريادة في مجال الإعلام ووسائله، قد آن للمصلحين أن يأخذوا بزمام المبادرة ويحتلوا موقع المهاجم لكل فساد بدلًا من تقمصهم الآن دور المتهم المستضعف المدافع عن نفسه، قد آن لنا أن نُنتِج من جهدنا موادًا إعلامية مُصلِحة صالحة تنافس وتبز تلك المواد -التي رغم فسادها- فهي مُتقنَة ومُقنِعة قد أُنفِق عليها الآلاف بل الملايين.
وإني أقسم غير حانث ولا شاك ولا مرتاب أن الصالحين لو امتلكوا من الفضائيات والمواقع والشبكات والإمكانيات ووسائل الإعلام مثلما يمتلك المفسدون منها لاستطاعوا أن يغيروا وجه هذه الأرض في فترة وجيزة، وإني أقولها غير مبالغ: "أعطني إعلام بلد ما، أُسلم لك عقول أهلها وأفئدتهم وأفكارهم واتجاهاتهم وانطباعاتهم عن كل شيء".
***
ألا إنها رسالة نريدها أن تصل بقوة إلى أسماع إخواننا الخطباء والدعاة والمصلحين، رسالة لم نكتف فيها بكلماتنا نحن، بل سقنا إليكم فيها مقالات ومقامات ووسائط عديدة تساهم في كمال وصولها إليكم، فمن الخطب جمعنا أكثرها تأثيرًا، ومن المكتوبات نظمنا أروعها سبكًا، ومن المسموعات سقنا أجملها إقناعًا، ومن المرئيات رتبنا أروعها حبكة، ومن الكتب وضعنا أعظمها ترتيبًا وتنسيقًا...
راجين وداعين وراغبين أن تتكامل كل هذه الوسائل في إيصال رسالتنا إليكم، رسالة فحواها: "إن لوسائل الإعلام -وفي مقدمتها الفضائيات والانترنت ومواقع التواصل- خطر عظيم وتأثير رهيب على المتعرضين لها، فإما أن نكون لها قادة وسائقين نقودها ونقود المجتمعات المتأثرة بها إلى بر النجاة والأمان، وإما أن نهملها فتدهسنا عجلاتها!".
فأولًا أصَّلنا الوعي ببداياتها وأصولها وتاريخها، ثم ثنَّينا بحقيقة تلك الوسائل وأحكامها، ثم طرحنا بعض أساليب الاستفادة منها واستغلالها في الخير والصلاح، ثم نبهنا على مخاطرها وما لها من تأثير على الفرد والمجتمع والأمة في شتى المجالات، ثم ختمنا بعرض بعض من مستجدات ونوازل تلك الوسائل والوسائط والنور الهادي في كل نازلة منها... وأفردنا لكل واحدة من تلك المسائل محورًا خاصة دعمناه بالكتابات والمسموعات والمرئيات، ونظمنا كل هذا في ملفنا العلمي الذي جاءت خطته على الصورة التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم