اقتباس
وكما تنوعت في عصرنا أشكال الفساد وتعددت، فكذلك عندما أراد "المصلحون" أن يصلحوا تلك الفسادات فقد اختلفوا في طرق الإصلاح ومناهجه؛ فمن متجه نحو الغرب يبتغي الإصلاح عند الرأسمالية، ومن متوجه جهة الشرق يظن أن خير مناهج الإصلاح هو الشيوعية... ألف سبيل وسبيل وألف هَدْي وهَدْي! ولكنا نخالف هؤلاء جميعًا في طرائق إصلاحهم، وندعي موقنين ونزعم واثقين ونقدم الحل في عزم وثبات، أنه ما من طريق للإصلاح إلا طريقًا واحدًا هو: "العودة إلى دين الله"...
يحدثنا الآباء عن الأجداد عن أجداد الأجداد أن الفساد كان فيما مضى من الزمان لونًا واحدًا وصنفًا واحدًا، وكان محدودًا معدودًا منبوذًا ضئيلًا، فلم يكونوا يعرفون إلا فساد الخضروات بعد أيام أو شهور من قطافها، أو فساد الماء الراكد إذا بال فيه حيوان... وبضع صور قليلة أخرى. أما الفساد في زماننا فقد "تطوَّر وتقدَّم"! حتى لقد صار في زماننا أشكالًا وأصنافًا وألوانًا وأنواعًا... فصرنا نصحوا في يوم على خبر لنوع جديد من الفساد وقد ظهر، وفجاءة انتشر، فاستيقظنا ذات صباح على خبر: أن طبقة الأوزون قد انثقبت، ثم فوجئنا ذات مساء بأوبئة لم تكن تسمع عنها الآذان فقالوا: "انفلونزا الخنازير" وبعدها: "أنفلونزا الطيور"، وتلى ذلك أو عاصره انتشار أمراض خبيثة لا نعرف لها إلى الآن دواء؛ فإذا نحن بـ"السرطان" يتلوه "الفشل الكلوي" وفي إثره "الفيرس الكبدي" يعقبه مرض نقص المناعة "الإيدز" وعشرات من الأمراض الفتاكة... ولما سألنا: ما سبب ذلك الكم من الأوبئة والأمراض؟ أجابوا: لأن البشر أفرطوا في تلويث البيئة بشتى أنواع الملوثات، فتلوَث الهواء بالعوادم، وتلوَث الماء بما يُلقى فيه من فضلات، وتلوَثت التربة بما يُدفن فيها من كيماويات ونفايات... وارتفعت حرارة الكرة الأرضية فيما يُعرف بالاحتباس الحراري، وقلَّ المطر وانتشر الجفاف حتى سمعنا عن القحط والمجاعات... ويمكنك أن تسمي هذا بـ"الفساد البيئي" الذي هو نوع واحد من الفساد.
وهذه المرة لا أقول "سمعنا" بل أقول: رأينا بأم أعيننا نوعًا خطيرًا من الفساد، هو: الفساد الأخلاقي؛ من عقوق أولاد لآبائهم وأمهاتهم، ومن دياثة رجال وتفريطهم في أعراضهم، ومن انحراف زوجات وتمردهن على أزواجهن، ومن تبرج نساء وخروجهن شبه عاريات، ومن بلطجة ورشوة ونصب واحتيال... ونوع آخر من الفساد خطير؛ إنه الفساد الفكري، الذي يبدأ بالانحراف في فهم نصوص الدين وينتهي بالمروق منه والخروج على أهله بالسيف! ثم كان النوع الأحدث من الفساد؛ ذلك هو الفساد المالي واستغلال النفوذ والمحسوبية وخيانة الأمانة الوظيفية... ولعل أكثر المعاناة في عصرنا الحالي بسبب هذا اللون من الفساد؛ هدم أحلام وانهيار طموحات، ظلم فئام من البشر لملايين من المقهورين، تكدس الأموال في قليل من الأيدي وسط صراخ قطعان الجائعين، خراب البلاد وبوارها فوق رءوس العباد...
ودعونا نقرر في ثقة أن كل ما أصابنا من هذا إنما هو بما جنت أيدينا، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، ويأتي نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيُفصِّل بعض ما أجملت الآية فيقول: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن-: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (ابن ماجه)، وانظر إلى هذه الخمس تراها متجسدة أمامك في كل شبر من الأرض!
وكما تنوعت في عصرنا أشكال الفساد وتعددت، فكذلك عندما أراد "المصلحون" أن يصلحوا تلك الفسادات فقد اختلفوا في طرق الإصلاح ومناهجه؛ فمن متجه نحو الغرب يبتغي الإصلاح عند الرأسمالية، ومن متوجه جهة الشرق يظن أن خير مناهج الإصلاح هو الشيوعية... ألف سبيل وسبيل وألف هَدْي وهَدْي! ولكنا نخالف هؤلاء جميعًا في طرائق إصلاحهم، وندعي موقنين ونزعم واثقين ونقدم الحل في عزم وثبات، أنه ما من طريق للإصلاح إلا طريقًا واحدًا هو: "العودة إلى دين الله"، وتعالوا نصلح الآن على هذه الورقات ما فسد من الأرض في جميع المجالات: فعلاج القحط والمجاعات كلها في قول الله -عز وجل-:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]، وهذه شواهد قائمات على ذلك: فبعد نزول عيسى -عليه السلام- حكمًا عدلًا مقسطًا وتطبيقه لشريعة الله على أرض الله وهلاك يأجوج ومأجوج، يحدثنا رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس" (مسلم)، فانظر أي بركة تكون في الأرزاق عند إقامة دين الله -تعالى-.
ويروى أنه وُجد في خزائن بني أمية حبة قمح بحجم نواة التمر الكبيرة في صرة مكتوب عليها: "هذا كان ينبت زمن العدل"! وصلاح الفساد السياسي في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للراعي: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة"، وفي رواية: "ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة" (متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- للرعية: "عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيًا" (ابن ماجه)... وهكذا ستجد لكل لون من ألوان الفساد علاج في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ولما كنا لا نستطيع الإيفاء بذلك الآن في هذه المقدمة المتعجلة، فقد عقدنا لذلك هذا الملف العلمي الذي هو أرحب وأوسع، إذ يتناول كل محور من محاوره الثلاث جانبًا من الجوانب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم